نافذة على الأدب الشعبي العراقي .. عبد الشط..
الأهوار أو المسطحات المائية في جنوب العراق .. المثيولوجيا في الأساطير العراقية ..
الأسطورة و الخرافة بين الخيال والواقع إنموذجاً ..
نعمة السوداني
عالم الأهوار البديع ومناخاته المتعددة وقدمه الذي يمتد الى عمق التاريخ وفجر بزوغه حيث كانت تلك المسطحات أو البطائح التي تبطحت فيها المياه وسالت وإتسعت في الأرض وأنتشرت حاملة فيها القصب والبردي , كانت مهداً لكل – الحضارات التي سبقت الحضارة السومرية و مرورا ً بها و ما تلتها لاحقا ً – يشكل ذاكرة حية لإنسان هذا العالم الذي يشير دائماً الى المجهول بين مكوناته في تلك البيئة بين الأحراش والممرات المائية الموحشة والأرض اليابسة التي تحيط بها والسماء المليئة بالطيور .
هكذا تنطلق الحكايا , كانتا الأرض والسماء هناك ملتصقتين أو متقاربتين في وعي وخيال ذلك الإنسان الذي وصف تلك الطبيعة الساحرة المدهشة التي كان يعيش فيها , حيث إبتعدت السماء عن الأرض للتطهير , وسبب البعد هوالنجاسة التي تتواجد على الأرض بشكل كبير , وإن تلك النجاسات هي بأيدي وأرجل الحيوانات النجسة ومنها الكلاب .
والحكاية أصلها أن الكلاب حينما تلعب أو تتعارك ترفع أقدامها للأعلى وتظهر عورتها , لذلك لابد للسماء أن تبقى بعيدة لكي لا تتدنس , لإنها مقراً للملائكة , وإن إرتفاع الأرواح اليها بعد الموت يحدد قدسيتها وطهارتها في حمايتها لتلك الأرواح , كما أنها تعتبر مكاناً للآلهة مقدساً , وهو مكان الفضيلة المطلقة بينما تعتبر الأرض في ذلك العرف والتقليد مكان ومحل للفساد والعبث البشري !
وهذا برأيي التداول السومري هو الأقرب بالمفهوم الواقعي .
هذه الأهوار سكنتها أقوام متعددة منها السومريون في حوضها المعروف السهل الرسوبي الذي يمتد بين مدن العمارة والناصرية والبصرة و الذي يمتاز بطبيعة متنوعة وبيئة جميلة للطيور المهاجرة في موسم الشتاء كما معروف تصل الى موسكو في رحلة الشتاء والصيف والأسماك أيضا المقيمة والمهاجرة التي تتكاثر بيوضها في موسم الصيف تحديدا ً.
كانت تعيش هذه الأقوام في هذه الجزر الصغيرة – المسطحات أو الأهوار- المترابطة مع بعضها بعض يستخدمون فيها وسائل النقل الزوارق المائية التي لها تسميات متعددة منها المشحوف والطرادة والكعدة والعانية في ترحالهم وتنقلهم ساكنين في بيوت القصب الجميلة التي تتميز ببنائها المعماري المتميز , حتى دخلت عليها الشختورة اليوم و الذي زود بمحرك وقود ينطلق بسرعة فائقة !
كان المشحوف يستند على عصى طويلة تسمى – المردي – حينما يحشر المشحوف بين الأحراش والممرات الموحشة يساعد المردي بحل هذه المشكلة بسهولة ..
وللقصب تأثير بالغ الأهمية على النفس البشرية في حمل معاناة الإنسان سأتناول هذا لاحقاً والحديث عن آلة الناي ..
ولهذه الطبيعة التي تمتاز بالغرابة والسحر- نهاراً – والموحشة – ليلاً – تأثيراً فكرياً ونفسياً وثقافيا ً واضحاً على ساكنة هذه الأهوار يضرب تأثيرها على العادات والتقاليد التي تمارس إجتماعياً وفطريا ً وبسبب تكاثر الخرافات والحكايا كالهشيم في النار كما يقال التي تتراوح بين الأساطير والملاحم والقصص والسرد المدهش من دون اي تفسير لأي ظاهرة تظهر نتائج خيالية عاطفية فيها من الإنفعال والتزويق بطريقة السرد ..
– السرد الشفاهي الذي يصاحبه تصوير الكائن المحكى عنه بشكله المخيف الغير مرئي إلا في خيال ومخيلة السراد عن كائنات غريبة الأطوار تعيش في تلك الأهوار لها فعلها وسحرها في الليل – !
حكايات شعبية تزين الأماسي والجلسات , حكايا وصلت بالتناقل الشفاهي عن أساطير من زمن سومر وخلود جلجامش , قصص كثيرة رغم إزدحام المكان بها , تتبدل مضامينها بسبب تغيير العقائد , وفقاً للخيال والمتخيل الجديد المتطور وتأثيره على الناس , مثل التحريم في موقف عقائدي أو معنوي أو فطري بين – الإسطورة والماء – الذي هو العنصر المرئي الوحيد من عناصرالطبيعة وهو أصل الكون مع التراب ..
لذا يقال :
على المولود الجديد في الحياة أن يبدأ بعد المشي السباحة وإلا يكون الموت بإنتظاره !
هكذا تنسج الخرافة التي هي شكل من أشكال السرد والتحليق في الخيال البعيد جداً و التي إحتوت الأدب الشعبي في التراث الفني المتناقل , من الخيال الذي ليس له جذور في الحقيقة , غير أنه ينبع أساساً من المخاوف والقلق والدعاء في الصلوات والعبادات والتراتيل وأيضا من الأماني بالسلام والدعوة للأمان من الكوارث والموت التي كانت تحيط بالإنسان و التي تسيطر على عقله ومخاوفه وتجعله في حالة ذعر ورهبة وقلق , بشكل خاص , أولتلبية حاجته أوما يرغب من أمان بشكل عام !
بسبب هذا التداول المتراكم إختلط مفهوم – الإسطورة بالخرافة – مما أدى الى تشويهها وإعتبارها خرافة !
عبد الشط :
ومن هذه الحكايا التي وصلت لنا من ( ذاكرة الخيال الشعبي العراقي ) هي حكايات ذلك الكائن الخرافي في وصفه وشكله المرعب والمخيف الذي يؤثر بالناس , الكائن الذي يعيش تحت قاع المياه والذي إختلف على وصفه الرواة وهم لم يشاهدوه ولا مرة واحدة ! إلا في خيالهم بعد كل حالة غرق تحصل في تلك المياه ! الموت غرقا ً !
حكاية عبد الشط , ترتبط بالقربان الذي يقدم للنهر خوفاً من فيضانه , لذلك هناك حيوان أو كائن حي , ليس له هيئة معينة , رغم تسميته تشير الى : أنه على هيئة رجل ! يسكن في قاع النهر ال
وأن ظهور هذا الكائن يؤدي الى التشاؤم بين الناس ويدب الذعر والخوف والقلق بينهم حتى ينتهي الى وفاة شخص ما في حالة غرق !
بعد ذلك تنطلق الحناجر والاصوات بالخيال و بالتأويل لما حدث , أحدهم يقول أن عبد الشط ناداه وأغراه فصار قربان !
بمعنى آخر , يقدم القربان الى النهر بواسطة هذا الكائن الخرافي أو بهذه الواسطة التي هي اكثر من عبودية و لإنه يسمى شعبيا ً في المخيلة الشعبية أو في الأدب الشعبي العراقي ( عبد الشط ) لكونها لم تأت من العبادة , إنما من العبودية فقط ! بسبب غياب التفسير لهذه الظواهر .
لذلك نجد أن الموت في هذه الأسطورة الحديثة هو الرابط بينها وبين أساطير الفداء القديمة والتضحية قائمة في أماكن العالم , وإن كانت باشكال أخرى مثل : حورية البحر عند بعض الأقوام الأخرى .
ثمة قصص وحكايا ساحرة أخرى أكثر دراما وتراجيديا ومأساة فيها البنية الدرامية معقدة جدا ً ومنها أيضا مغناة , والغناء هنا هو إسلوب لطرد الخوف عند الإنسان ,يفع به الشر بعيداً عنه ليحمي نفسه أيضاً ..
فهناك القارب( البلم ) الذهبي , الجاموس ذو الخرزة , تزاوج الافاعي الحيات مفردها حية , الراضوع , السعلوة , إحفيظ , الطنطل والمُخيط ْ والملح , العربيد الى آخره من قصص وكائنات , كل هذا في خيال الإنسان العراقي الذي قدم لنا شكلاً من أشكال الوعي الأجتماعي الفني المتطور وأبدع في تفسير هذه الظواهر الأجتماعية أو الطبيعية لاحقا ً ووضعها لنا في أدب التراث والفلكلور الشعبي العراقي ..
الأهوار أو المسطحات المائية في جنوب العراق .. المثيولوجيا في الأساطير العراقية إنموذجاً ..
يتبع ..