لِحَد اليوم ، من الشائِع في دهوك مثلاً ، أن يسألكَ سائق تكسي أو صاحب دكان : مِنْ أي قريةٍ أنتَ أو من أية عشيرة ؟! مُفتَرِضاً أنهُ لابُدَ أن تكون قُروياً مُنضوِياً تحتَ عشيرة . ولغاية اليوم ، تتنافس الأحزاب السياسية المتنفِذة والتي تّدَعي الحداثة والمدنية زَوْراً ، على كسب وِد العشائر والآغوات والشيوخ من خلال رشوتِهم بالإمتيازات والمال ، من أجل ضمان الحصول على أصوات أبناءها وبناتها في الإنتخابات . وليس نادراً أن تتحول مُشاجرة بسيطة بين مُراهِقَين إلى عِراكٍ بين عشيرتَين … بل هنالك العديد من النساء ضحايا النهوة او الفصلية العشائرية … ولا زالَ الثأرُ مُتفشِياً كأحَد تجليات العصبية والقَبَلية .
الأحزاب الحاكمة في أقليم كردستان العراق ، تُكّرِس العشائرية وتُشّجِع قِيَمها المتخلفة ، لأن من خلالها تستطيع إدامة سيطرتها على المُجتمع وإطالة ممارستها للسُلطة .
أما في باقي أنحاء العراق ، فحّدِث ولا حرج .. فصدام ألغى عملياً ، تشريعات عبد الكريم قاسم الخاصة بتحجيم دَور العشائر في المجتمع العراقي ، ومن أجل ترسيخ حكمه الفردي الأرعن ، كسبَ صدام ولاء العشائر عن طريق الترهيب والترغيب وحتى تنصيب شيوخ مزيفين موالين له . وبعد التغيير ، فأن الحُكام الجُدد و” المالكي نموذجاً ” كرئيس وزراء وقائد عام للقوات المسلحة ، قاموا بإحياء وترويج العشائرية بل وتوزيع المسدسات على الشيوخ تعبيراً عن السماح بتسليح العشائر وإستخدامها طائفياً وميليشياتياً . و ” النُجيفي نموذجاً ثانياً ” كرئيس لمجلس النواب ، حيث عقد مؤتمرات عشائرية لتجييش قبائل بني خالد لمواجهة الميليشيات الطائفية المُقابلة .
جرى ذلك لتهميش وإضعاف القوات المسلحة الرسمية من جيشِ وشرطة محلية وإتحادية .. وبالفعل مّهدَ الأمر ، لسيطرة مايُسمى دولة الخلافة الإسلامية / داعش على مساحات شاسعة من الوطن ، ومن تداعيات ذلك ، إنبعاث الحشد الشعبي بفتوى من المرجعية الشيعية تحت مُسّمى الجهاد الكفائي .. والذي مع دوره البارز أي الحشد الشعبي ، في كسر شوكة داعش ، فأنهُ وّفَرَ ذريعة لتفريخ المزيد من الميليشيات غير المنضبطة وحتى الخارجة عن طَوع المرجعية أيضاً .
أن التمازج بين تسليح العشائر والميليشيات المنفلِتة ، أدى بمرور الزمن إلى فوضى عّمتْ الشارع العراقي ولا سيما في البصرة والناصرية وبغداد والعمارة وغيرها … والتي من تداعياتها إندلاع ثورة تشرين 2019 ، التي هّزَتْ عروش الطبقة السلطوية الفاسدة ، والتي لم تترددْ أي السُلطة ، في توجيه السلاح لصدور الشباب السلمي المنتفض فقتلت المئات وجرحت الآلاف ، عدا عن المُغيبين والمختطَفين من نُشطاء الثورة والمُغتالين بواسطة الكواتم .
في ” بروفة ” مُتأخِرة خجولة ، كّلفَ الكاظمي جهاز مكافحة الإرهاب ، بالتدخُل لإنقاذ مُختطَفٍ في الناصرية … لكن لقطاتٍ سريالية عجيبة برزتْ على السطح ، مُعّبِرةً عن هَول ما نحنُ فيهِ من إنحطاط : فمجاميع عشائرية مُسلَحة بالتماهي مع مجاميع ميلشياوية خارجة على القانون ، تعترض على مايقوم به جهاز مكافحة الإرهاب … بل ان عشيرة إحتجتْ على إختراق سمتيات الجيش ل [ مجالها الجّوي ] !! .
أن فَرض القانون وإسترجاع هيبة الدولة ، لن يكون نُزهة قط . فالفساد الرسمي المُقَنَن من أحزاب السلطة طيلة سنوات والإنتهاك المُنّظَم للسيادة والحَط من قَدْر المؤسسات الأمنية وإفساح المجال واسعاً للأفاقين والسَفَلة لللعب بمقدرات البلد … كُل ذلك يستدعي إرادة فولاذية ونَفَساَ طويلاً وإعتماداً على دَعم الشعب الحقيقي المتمثل في شباب الثورة في ساحات الناصرية وبغداد والبصرة وكل المحافظات ، لكي تكتمل غاية الإنتفاضة التشرينية ، بكنس كل الفاسدين وإسترجاع الأموال المنهوبة وبناء عراقٍ مُعافى على اُسُسٍ صحيحة .
نحنُ بحاجة إلى إدامة ثورة الشباب في ساحات مُدننا المختلفة … حتى نصل لليوم الذي لن يسألنا فيهِ أحد ، هذا السؤال البائس : ” مِنْ يا عمام إنتَ ؟ أو من أي قريةٍ أو عشيرةٍ أنتَ ؟ اليوم الذي تصبح فيه مُفردات : الدّگة العشائرية / النهوة / الفصلية … شيئاً من الماضي .
مِنْ أي عشيرةٍ أنتَ ؟
اترك تعليقا