يُعرف بعض الباحثين الحوار بأنه “مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة”، ويعتبر من المنشطات الضرورية للإنسان وأحدى الركائز الأساسية السليمة التي تستقر عليها حياة وشخصية الفرد، والرئة التي يتنفس منها في التعبير عن ما يدور في مخيلته بحراكه الاجتماعي. حيث تزداد الحاجة الى الحوار وتعظم أهميته والاحساس به بازدياد وعظم المشاكل والازمات التي تعصف بعالم اليوم بسبب الرقي المادي للانسان وابتعاده عن القيم الروحية والاخلاقية التي اضحت تتناسب طردياً مع امتلاكه للقوة التي زادت من قدرته على التسلط والظلم والطغيان، ذلك لأن التطور لايقود بالضرورة الى الحوار والتفاهم والتعاون حسب وجهة نظر الباحثين، إنما يزيد لدى الإنسان أيضاً دواعي الشحناء والبغضاء بسبب الاختلاف في المصالح والرؤى والمواقف التي تؤجج من خلال وسائل الاتصال والاعلام التي أمست جزء من الصراع.
لذلك تعد دبلوماسية الحوار القناة المهمة والمحورية التي يجب أن تفتح لتقريب وجهات النظر بين طرفين مختلفين في الرؤى والمصالح، وكذلك في الآيديولوجيات الاجتماعية والسياسية والفكرية المتقاطعة، لحلحلة وتذليل حدة الخلافات والتوترات وتلافي وقوع أزمة تنذر بخطر كبير قد يؤدي الى وقوع كارثة انسانية أو بيئية لا يحمد عقباها تتمثل بنشوب الصراع أو الاقتتال الداخلي الذي يقود الى الحرب الاهلية على مستوى البلد الواحد، والحروب الدامية على مستوى البلدان التي لا تبقِ ولا تذر، يصاحبها انقطاع في العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية بين طرفي النزاع، والتي تلحق ضرراً كبيراً بمصالح الافراد والشعوب، بحيث لم يكن هناك طرف رابح أو منتصر فيها بعد أن تكبد الجميع خسائر مادية وبشرية جسيمة.
وتعني ثقافة الحوار ايضاً المصارحة والمكاشفة في النقاش في حدود ما يتقبله العقل والمنطق، وعلى ألا “تتم معاملة جميع الناس باسلوب واحد، فلو عالج الطبيب جميع المرضى بنفس العلاج لمات معظمهم”، لكنها لاتعني التحايل والكذب على الآخرين، الذي يعد منافياً للأخلاق والسلوك. وصفة الكذب مذمومة في الحوار وتحذر منها وتنبذها كافة الأعراف والأديان السماوية، وكما جاء في حديث الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) حين حذر من الكذب.
وعليه يجب أن تكون ثقافة الحوار موجودة ومتجذرة في الإنسان وعلى كافة المستويات الاجتماعية ومنها الافراد في العائلة الواحدة كالحوار بين الزوج والزوجة والآباء والأبناء الذي يعد من الضروريات خاصة ونحن نعيش عصر الانفتاح وتكنولوجيا المعلومات المتطور باستمرار، والذي يحتم على الجميع أن يكون بمستوى المسؤولية للمحافظة على العائلة من التفكك والضياع، والحوار بين الأقرباء والاصدقاء والموظفين فيما بينهم، وبين الطالب والأستاذ الذي يزيد لدى الفرد القدرة على التحدث بشجاعة وعفوية ويبعد عنه هاجس الخجل والخوف من ارتكاب الخطأ في الصغر وينمي لديه الثقة بالنفس في الكبر، التي تعتبر من أهم العوامل في بناء الشخصية الإنسانية. حيث تقع على عاتق المعلم التربوي مسؤولية كبير في مساعدة الطالب وحثه على تشغيل عقله واستخدامه بالشكل الصحيح الذي يقوم من شخصيته في الحيز الاجتماعي الذي يتواجد فيه. وهذه المسؤولية مشتركة بين والد الطالب والمعلم لاستدراك الوعي الراكد لدى الطفل والشاب والارتقاء به من حالة السكون الى حالة الحركة من خلال تجنب والابتعاد عن التوبيخ والاهانة والاحتقار التي تجعل الطالب يميل الى الانطوائية والعزلة التي تولد لديه عدم الرغبة في التعلم والعزوف عن الكلام أو التمرد، وإنما اتحاحة الفرصة له وتوفير الاجواء المناسبة والادوات والبرامج العلمية التي يستطيع من خلالها التعبير عن مواهبه الكامنة في البديهة بالكلام وحسن الالقاء والطرح والاصغاء للآخرين والاستيعاب والفهم. وهذه المرحلة التربوية ضرورية في حياة الانسان لانها تساعده على الارتقاء بذاته ووعيه من منخفضات البدء في الصيرورة الى قمم النضج والفعل والوعي الفكري والثقافي الصحيح الذي يتطلبه بناء الشخصية الإنسانية. وبذلك نستطيع ان نبني جيلاً محاوراً قادر على الابداع والتالق في جميع مجالات الحياة المختلفة.
ولذلك يعزا نجاح اية دبلوماسية في العالم الى مدى اجادتها لفن الحوار. وبقدر ما يتعلق الامر بعمل وزارة الشؤون الخارجية لاي بلد من البلدان التي لا تتصف مجتمعاتها بالمثالية وتعيش الحياة المدنية القحة، يجب أن تكون ثقافة الحوار مرعية ومهتم بها من قبل دوائر الوزارة المعنية بتاهيل الموظفين، وخاصة معهد الخدمة الخارجية الذي تقع على عاتقه مسؤولية تنمية ثقافة الحوار والسلوك لدى موظفي الخدمة الخارجية بحيث تشمل “كافة درجات السلم الوظيفي” من خلال اقامة الدورات التدريبية وعقد ندوات حوارية بينهم للحديث عن اية قضية او موضوع معين تراه الجهات المعنية مهماً وقابل للنقاش والحوار الذي قد يتعرض له المفاوض من الموظفين اثناء اداء عمله، وبالشكل الذي ينمي لديهم القدرة على الاستماع والاصغاء الذي يعد من أهم أدوات العقل التي تجعل المحاور يتعرف على ما يدور في خلد المتحدث، فتتولد لديه فكرة الاجابة والرد السريع التي تبدأ تتحرك في الذهن كالجنين الذي يريد ان يتلمس النور في الحياة، وذلك من خلال الاهتمام بالموظف وتشجيعه على تجاوز حالة التردد والتعثر وتفعيل عقله لتكميل وانضاج فكرته من خلال التركيز وتفعيل الحركة الذهنية الاستكشافية والارتقاء في الوعي والتفاعل مع الحدث. وهناك امكانية تفعيل ثقافة الحوار وتنميتها بين الموظفين انفسهم، فكلما مارسوا فن الحديث والاصغاء والاستخراج ازدادوا ثراءً. وهذا النجاح يتم بالتدريج وحسب المستويات الذهنية واللغوية المتفاوتة بين الاشخاص.
ولنبدأ أولاً بحديث الموظفين عن تجاربهم العملية خلال عملهم في البعثات والانجازات التي حققوها والمعوقات والمشاكل التي واجهتم، وطرح الاستنتاجات ووجهات النظر عن النظام المؤسساتي السياسي والاقتصادي والثقافي لذلك البلد ومدى الفائدة التي يمكن ان يحصل عليها البلد المضيف من خلال تطوير علاقاته مع البلد المستضيف وعلى كافة المستويات في المستقبل. ويمكن استضافة أكبر عدد من الموظفين الدبلوماسيين والاداريين الذين كانوا قد عملوا في البعثات للحديث عن تجاربهم في هذا الموضوع أو ذاك لتنمية ثقافة الحوار لديهم من خلال كسر حاجز الخوف والتردد، وبذلك تتنوع الافكار ونخرج بحصيلة من الاستنتاجات التي تفيد مركز الوزارة في رسم سياستها وبالتالي سياسة الدولة الخارجية مع البلدان المؤثرة سياسيا واقتصاديا ومتطورة تكنولوجيا ومجتمعياً في العالم.
إذاً الحوار بمعناه العام لايعني فقط احترام الإنسان لاخيه الإنسان، وإنما احترام الانسان لعقله ولنفسه ايضاً. فاينما وجدتَ الحوار الناجع والبناء علمت بوجود مجتمع يحترم فيه الإنسان نفسه وتتوفر فيه شروط التقدم والرقي، وحيثما وجدتَ الضجيج ومظاهر الاستنكار والسخط والاستهزاء، علمتَ بأن هذا المجتمع ما زال يقبع في ظلمات التقوقع والانغلاق والتخلف الفكري والثقافي على كافة المستويات ومنها الاخلاقية.
أما فيما يتعلق بثقافة الحوار والتعامل بين موظفي الخدمة الخارجية، وخاصة بين الرئيس والمرؤوس، في مجال العمل الوظيفي فيجب أن تتوفر فيها الشفافية في التعامل والمهنية في الطرح والاحترام المتبادل في تبادل الآراء والتعريج عليها، وعلى ألا يستشعر اي طرف من اطراف الحوار بعدم الجدية في الاصغاء وتسويف المواضيع، وبالشكل الذي يؤزم العلاقة بينهما ويسبب احراجاً وارباكاً في العمل المؤسساتي، خاصة اذا ما تولد لدى الموظف شعور “بالغبن” في تحقيق العدالة والاحتقار ومصادرة حقوقه بطريقة غير شرعية مقارنة باقرانه من الموظفين. وهذا الامر يحدده مدى الشعور بالمسؤولية من قبل الرئيس والمرؤوس والالتزام بالقوانين والتشريعات والابتعاد عن الاجتهادات الشخصية في حسم بعض القضايا بدون وجهة نظر قانونية، والتربية في المحيط العائلي، والموروث الاخلاقي والتربوي والعلمي الذي يكون خزين الخبرة التي تؤثر بشكل مباشر على بناء الشخصية الانسانية والنضوج الفكري والقيمي للموظف صاحب القرار في كيفية التعامل مع الآخرين في اطار السلطات الممنوحة له ضمن القانون، وكذلك الحكمة في معالجة المشاكل التي يواجهها في حياته العملية اليومية سواءً كان رئيس بعثة في الخارج أو رئيس دائرة في الوزارة أو موظف بسيط في المركز والبعثات.
وينطبق هذا ايضاً على لغة الكلام والحوار بين الموظفين انفسهم التي يجب ان يتوفر فيها الاحترام المتبادل والإنسانية في التعامل والتسامح والتعاون والتنافس الشريف والمشروع والثقة المتبادلة التي تعزز من اواصر المحبة والعلاقات الوظيفية الطيبة التي تعد من اهم مقومات نجاح العمل المؤسساتي الذي يبنى على اساس روح العائلة الواحدة المتماسكة. ذلك لان نجاح العمل المؤسساتي لا يتم من خلال جهود جهة معينة دون سواها أو شخص معين دون سواه، كما يتصور البعض واهماً، وإنما بتظافر جهود جميع الافراد والتجمعات بواعز وطني حر للارتقاء بالعمل المؤسساتي للدولة الى سلم النجاح والمنافسة محلياً ودولياً.
ويقودنا هذا الامر الى القاء نظرة خاطفة على ثقافة الحوار والتعامل الوظيفي الناجع بين رئيس البعثة والموظفين وانعكاساته الايجابية على سير وحركة العمل المؤسستاتي للمؤسسة الدبلوماسية في الخارج والانطلاق نحو تطوير وتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية مع السلطات المحلية للبلد المستضيف من خلال العمل التكاملي المبني على اساس توزيع المهام بشكل صحيح والتعامل مع المعلومة بمهنية وحرفية عالية. وهذا الامر يتطلب من رئيس البعثة بذل جهوداً مضاعفة ويعي حجم المهمة الملقاة على عاتقه في كيفية ادارة هذه المؤسسة الحيوية والحساسة على احسن وجه، وأن يلعب دور المعلم والاب الراعي لجميع الموظفين من خلال الحوار البناء في تنمية قدراتهم ومواهبهم، وتشجيعهم ومنحهم الثقة، وتقييم جهودهم، يصاحبه معالجة مواطن الخلل إن وجدت لدى البعض معالجة تربوية ومساعدتهم على تجاوزها بعيداً عن الشعور بالاهانة والاحتقار والتهميش والتقليل من الشأن، هذا من ناحية.
من ناحية اخرى يجب على الموظف ايضاً أن يعي دوره وثقة الوزارة به، وأن يصون هذه الامانة، بحيث يكون حسن السلوك ومتفهما وايجابيا وقدوة حسنة للأخرين في عمله وحواراته ومناقشاته وعلاقاته مع رئيس البعثة والموظفين الآخرين، ويعكس ذلك ايضاً في علاقاته مع السلطات المحلية واحترام القوانين للبلد المستضيف بهدف الارتقاء بالعمل الدبلوماسي للبعثة الى مستوى الطموح والثقة التي زرعتها الوزارة برئيس بعثتها وبموظفيها. وهذا كله متعلق بالسلوك وثقافة الحوار البناء التي يجب ان يتصف بها موظف الخدمة الخارجية لتطوير ذاته في العمل الاداري والدبلوماسي والتخلص من العقد النفسية والافكار الهدامة التي تزيد الامور تعقيداً وتلحق الضرر بالمصلحة العامة للدولة والفرد والمجتمع، كذلك مدى التعاطي الايجابي للموظف صاحب القرار وغيره في حلحلة المشاكل التي قد يتعرض لها خلال مسيرة عمله بمنعزل عن الاستقطاب والحقد الاعمى والتنافس غير المشروع. وبخلاف ذلك واصرار الاطراف على عدم معالجة مواطن الخلل من خلال الحوار البناء والالتزام بالتعليمات يتم الدفع باتجاه “الحلول الصفرية” للفصل بين المشاكل التي قد تحدث، والتي تربك عمل البعثات والدوائر في المركز وتستنزف طاقة ووقت المسؤولين والموظفين الذي يجب ان يستثمر لانجاز امور اخرى اكثر أهمية … إذاً، نستطيع القول بأن النجاح أو الفشل ممكن أن يبدأ من أصغر موظف خدمة خارجية وهكذا صعوداً، لذلك يجب التركيز عليه – دون استثناء – من كافة النواحي بحيث تؤخذ ثلاثة مسائل اساسية بنظر الاعتبار حسب فهمنا المتواضع للحالة:
أولاً: الدقة في الاختيار بسبب انه لاتوجد في البلدان النامية مجتمعات مثالية متطورة تهتم بالتنشئة البنيوية والاخلاقية للفرد منذ نعومة اظافره وحتى يصبح فاعلاً ومنتجاً في الحياة العامة، وإنما يتم اختيار موظف الخدمة الخارجية من وسط اجتماعي ترتفع فيه نسبة الامية والبطالة وتعشش فيه الكثير من التناقضات ومصاب بكثير من الامراض المزمنة نتيجة لتراكمات تاريخية لا يمكن انكارها او القفز عليها.
ثانياً: العمل الجاد على صقل المواهب بطريقة بعيدة عن الاكراه، زرع الثقة وصيانة الحقوق والمساواة من خلال رفع الحيف والغبن، وتقديم افضل الخدمات بالشكل الذي يكون الموظف فاعلاً في عمله وسلوكه في الداخل وفي تمثيل دولته في الخارج أفضل تمثيل.
ثالثاً: اجراء تقييم سنوي يتم على اساسه تكريم الموظف المتميز بدون تحييز لتشجيع التنافس الايجابي.
واستناداً لهذه العرض فإن ثقافة الحوار، التي يجب أن يتحلى بها موظف الخدمة الخارجية بعمله في الداخل والخارج، مرهونة أيضاً بالاستقرار السياسي الداخلي للبلد المعني ومدى نجاح الحوارات والنقاشات بين التجمعات والاطياف والطوائف السياسية والثقافية والدينية والعرقية في المجتمع الواحد، والتي يجب أن تكون مبنية على اسس اخلاقية وقانونية ودستورية تحقق العدالة الاجتماعية بين جميع الاطياف والاطراف وتكون المصلحة الوطنية فيها هي العليا. وبذلك تستطيع الدولة تنمية ثقافة الحوار واساليبه لدى موظف الخدمة الخارجية وتعزز من قدراته على ادارة الحوارات التي تجري بين بلده والدول على المستويين الاقليمي والدولي دون خوف أو تردد لضمان الحقوق المشروعة والدفاع عنها والحيلولة دون وقوع الكوارث والازمات التي لايحمد عقباها.
لذلك فإن رؤية الباحثين، “بأن مشكلة الناس المحورية حين يتوقعون من الأخرين أن يكونوا مثلهم في عاداتهم وأفكارهم حتى يقولون عليهم عقلاء”، فرضت حقيقة جوهرية وهي أن يكون تسلح الفرد بثقافة الحوار الإنساني الهادف والبناء ضرورة ملحة قد تجنب الإنسان الكثير من المشاكل في محيط بيته الداخلي، وكذلك تلافي حدوث الازمات وويلات الحروب على مستوى البيت العالمي، شريطة أن تكون ثقافة الحوار هذه ثقافة انسانية مجتمعية عالمية مرعية من قبل المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني وبدعم من القوى السياسية ذات العلاقة، التي يجب أن يكون من ضمن أولوياتها وضع مناهج وبرامج لثقافة الحوار تتجسد فيها القيم الإنسانية النبيلة المبنية على أساس الالتزام الاخلاقي بالقوانين والتسامح والعدالة الاجتماعية والتعاون واحترام الآخر وعدم مصادرة حقوقه المشروعة من خلال فرض منطق القوة أو التلويح بها، وبذلك نستطيع ان نعد جيلاً من المحاورين نتوسم فيهم الكفاءة والقدرة في الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة وتحقيق العدالة على ارض الواقع.
إن ثقافة الحوار والنقاش على مستوى الافراد والتجمعات في المجتمعات المثالية المتقدمة التي تعيش حياة الاستقرار والمدنية والتطور العلمي والتكنولوجي تحكمها القوانين المرعية وصرامة الالتزام بها، اي إن الفرد يستطيع أن يطالب بحقه من خلال العودة الى القانون الذي يحدد العلاقة بين الافراد والجماعات بمنعزل عن العواطف، والذي يجب على الجميع الالتزام به مرغمين. وبناءً عليه تم تأطير الحوار بإطار قانوني لكي تحفظ حقوق الافراد والجماعات والتجمعات والكتل السياسية والثقافية وحتى لايصاب أحد من هولاء بالغبن أو الاذى على حساب فائدة الطرف الاخر. وهذا يعني وجود محددات قانونية للحوار بين طرفي النزاع لتلافي وقوع الخلاف والجريمة والحد منها قدر الامكان. وبذلك حيدت ثقافة الحوار القانونية هذه الفرد أو تلك الجماعة من التفكير بالحلول “الصفرية” أو اللجوء اليها في نهاية المطاف لتحقيق مآرب غير مشروعة على حساب الطرف الأخر من خلال التهديد والابتزاز ومصادرة الحقوق دون وجه حق. وهذه حالة صحية تدل على تقدم المجتمعات ورقيها.
اما في أغلب المجتمعات النامية فتتحكم بثقافة الحوار والنقاش وتبادل الآراء المواقف والمصالح الشخصية والفئوية والتعصب العشائري والقبلي والديني والاستبداد في الرأي ومحاولة تمريره على آراء ووجهات نظر الاخرين وسط تجاوز وتغييب وعدم احترام للقانون الذي ينظم حياة المجتمع ويحفظ حقوق وكرامة الافراد والجماعات فيه، والذي يقود في كثير من الاحيان الى اشاعة الفوضى والاضطراب المجتمعي والمؤسساتي، حيث يعزا ذلك الى أسباب تتعلق بانعدام الواعز الوطني وبثقافة الفرد والمجتمع والعادات والتقاليد الموروثة والسائدة ومدى التطور العلمي والثقافي والنضوج الفكري الذي وصلت اليه تلك المجتمعات، ناهيك عن عدم الايمان واحترام الدساتير والتشريعات القانونية التي يتم التجاوز عليها وخرقها وعدم الالتزام بها باستمرار من قبل المواطن والجهاز التنفيذي للدولة باعتبارها ليست بمستوى الطموح حسب ثقافة وتفكير الفرد، الذي يرى امامه حالة تفشي الفساد الاداري والمحسوبية التي تقود الى التنافس غير المشروع بين الافراد والجماعات التي تمثل سلطة الدولة، الامر الذي يؤدي بالنتيجة الى التناحر وانتشار الجريمة وارتكاب المخالفات في خرق القانون، الذي يؤدي في نهاية المطاف الى انعدام الاستقرار المجتمعي وفقدان الامن بعد اختفاء هيبة الدولة.
وهذا الامر يقودنا الى القول بأن ثقافة الحوار هي التي تحدد نتائجه، وعليه يجب التمييز بين الانسان المتعلم والانسان المثقف … فالمتعلم هو من تعلم حرفة او مهنة عمل واجاد فيها، أو تعلم اموراً لم تخرج عن نطاق الاطار الفكري الضيق الذي اعتاد عليه منذ الصغر، وكما يقول العلامة والباحث العراقي علي الوردي، فهو “لم يزدد من العلم إلا ما زاد في تعصبه وضيق في مجال نظره، وهو من آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرضه على الكفاح في سبيله” … أما المثقف فهو الفرد الذي تكونت شخصيته الإنسانية نتيجة تراكمات ما ثقفه من محيطه العائلي (التربية الصحيحة) وما تعلمه وخبره من الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية في مجال العمل والدراسة والعلاقات الاجتماعية العامة، والتي جعلته يمتاز بمرونة رأيه في الحوار وباستعداده الدائم لتلقي كل فكرة جديدة والتأمل فيها بعقلانية لتحديد وجهة النظر الصائبة منها.
ونتيجة لهذا التباين في الثقافة يعزا لجوء أحد اطراف الحوار من الافراد والجماعات في أغلب الاحيان الى الحلول “الصفرية”، التي تزيد الامور تعقيداً، الى اعتقاده بأنها الاقرب الى الحل والكسب منها الى الفشل، ناهيك عن ايمانه المطلق باستحالة تحقيق المطالب عن طريق الحوار سواءً كانت مشروعة او غير مشروعة، الامر الذي يؤدي الى الاقتتال الذي يقوض دور الحوار وعملية السلام ويقود بالنتيجة الى الحاق الضرر بالفرد والمجتمع واضعاف موقفهما سياسياً وأقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وعدم احترامه عالمياً. والسبب واضح تماماً حسب قول الباحثين: “ذلك لان لكل طرف من اطراف الحوار له منظاره الخاص الذي ينظر من خلاله الى الكون، ولا يصدق بالامور التي تقع خارج هذا المنظار.”
وفي ضوء هذا المنظور تركت ثقافة التهور في الحوار اثاراً وتراكمات سلبية في سلوكيات وعقلية وسعة بصر وبصيرة وتفكير وصبر المحاورين خلال النقاشات على المستوى المحلي والاقليمي والدولي، الذين يبدو عليهم في كثير من الاحيان الاعياء والتعب والانفعال، وعدم الهدوء، وفقدان التوازن، وتسيطر عليهم في لحظة اتخاذ القرار نزعة اللجوء الى الحلول “الصفرية” رغم ان بعضهم لا يمتلك القوة لتحقيق مبتغاه. وهذا الامر ينطبق على حوارات الافراد والجماعات والدول، خاصة حوارات الغرب مع الشرق كما نلاحظ، التي اضحىتْ يتحكم بنتائجها منطق القوة المسبق كمفتاح للنجاح في كسب القضية لصالح الغرب الذي يعاب عليه أمرين اساسيين، اولاً: التسلح بثقافة الحوار التي تتمثل بتنظيم بيته الداخلي واعداد جيل من المحاورين الجيدين. ثانياً: استخدام القوة المفرطة او التلويح بها لتركيع الطرف الاخر وفرض شروطه عليه، والتي غالباً ما تقوض عملية السلام وتهدد الامن والسلم العالميين. وعليه يقول الراهب البوذي الدالاي لاما بأن “السلام لايعني غياب الصراعات، فالاختلاف سيستمر دائما في الوجود”، لكن “السلام يعني أن نحل هذه الاختلافات بوسائل سلمية، عن طريق الحوار، التعلم، المعرفة، والطرق الإنسانية”.
ان نتائج الحوارات هذه، والتي ترهق بالطبع موظف الخدمة الخارجية المفاوض وتستنزف طاقته، تصنف ضمن الحلول “الصفرية” التي تلجأ اليها وتؤمن بها في الوقت الحاضر القوى العظمى الغربية في حوارها مع دول الشرق النامية، الذي اضحى حواراً شكلياً بعيداً عن الإنسانية والجدية والعدالة في التطبيق. وهذا يعني ان في جلسات الحوار هذه هناك طرف على حق والاخر على باطل، وغالباً ما يكون الطرف الذي على حق هو الحلقة الاضعف في الموازنة ويخسر معركة الحوار لوقوف الرأي العام العالمي ضده بسبب تغليب المصلحة الخاصة للدولة العضو على المصلحة العامة للمجتمع الدولي نتيجة لعدم توازن القوى وغياب العدالة والإنسانية في التعاطي مع الازمات على مستوى العلاقات الدولية، الامر الذي جعل من الباطل المشرعن معياراً للحلول الناجعة. وهذا ما جعل مجرد التوصل الى حل لم تتحقق فيه العدالة أن يكون بمثابة قنبلة موقوتة قد تنفجر في يوم من الايام وتدمر ما حولها، والذي يعيد الصراع الى المربع الاول، وهكذا دواليك.
وهذا الامر يقودنا الى الاستنتاج بأن ثقافة الحوار الناجح داخل المجتمعات تنعكس بشكل مباشر على حواراتها مع الاطراف الاجنبية في الخارج الاقليمي والدولي لتطوير العلاقات الثنائية ولحلحلة مسألة معينة مختلف عليها قانونياً كالمطالبة بحق مغتصب، ومنع التدخل في الشؤون الداخلية للدولة، والعدالة في تقسيم حصص المياه الدولية، وقضية التجاوزات على الحدود، وما شابه ذلك … وعليه أمسى يعاب على الشرقيين افتقارهم لثقافة ولغة الحوار في حلحلة مشاكلهم الداخلية والشروع بمعالجة قضاياهم الخارجية التي اصبحت مستعصية على الجميع لاسباب من أهمها: التبعية السياسية التاريخية التي ادت بالنتيجة الى انعدام الثقة بين اطراف الحوار، محدودية الوعي الفكري، والآيديولوجيات الفكرية والدينية المتقاطعة، تراكمات ومخلفات الانظمة الدكتاتورية والقهر الاجتماعي، غياب وتغييب دور المثقف والسياسي الذي ينادي بالوسطية والاعتدال، ناهيك عن غياب التعاون على اساس العمل والمصالح المشتركة، وسياسة التآمر والتسقيط، والافتقار لثقافة الحوار الانساني الهادف، وعدم امتلاك القوة أو توازنها التي تجعل أو تجبر الطرف الآخر (الاجنبي) على أن يكون ايجابياً ويعترف بالحقوق المشروعة ولا يتجاوز عليها بالباطل. ولذلك يصنف العرب من قبل الباحثين على انهم “أمة تعيش في الماضي، ولا تحسن التعامل مع الزمن الذي تعيشه، وهذا سبباً في تخلفها.”
ونختم الحديث بالتعريج على ان الدول التي تمتلك القوة ومستعدة لاستخدامها بافراط لا تؤمن اليوم اطلاقاً بدبلوماسية الحوار البناء لكي لا تتعرض للاحراج في حل مشاكلها وتحقيق مصالحها، وإنما تدفع المحاور باتجاه الحلول “الصفرية” كالمقاطعة السياسية والاقتصادية والضربات الاستباقية وـاعلان الحرب حتى يرضخ الطرف الآخر مجبراً لمطالبها التي تكون في كثير من الاحيان غير مشروعة. ولذلك نرى بأن الكثير من الحوارات والنقاشات بين الشرق والغرب أضحت محكوم عليها بالفشل مسبقاً لانها لا تلبي طموحات ورغبات ومصالح المحاور الغربي على حساب حقوق ومصالح المحاور الشرقي صاحب الحق في كثير من الامور اذا لم نقل مجملها خاصة بعد ان تحولت ارضه منذ زمن بعيد الى ساحة للصراع وتصفية الحسابات. ومن أجل الخروج باقل الخسائر أمام هذا التحدي الكبير يتحتم على موظف الخدمة الخارجية الدبلوماسي في البلدان النامية أن يتقن فن الحوار وأن لا يكون متهوراً ومتعصباً، لأن “عقل المتعصب”، يقول أولفر وندل هولمز، “كبؤبؤ العين كلما زاد الضوء المسلط عليه زادَ انكماشه”.