من سلة الذاكرة ..
*** مخيم اليرموك ، وداعا ، قبلة ، ودمعة ، وباقة ورد ..
حين تكتظ الذاكرة بالراحلين ننسى لنعيش ، إنه لأمر مرهف أن تصبح الذاكرة مقبرة ، فيها من الأموات أكثر مما فيها من الأحياء ، تتذكر أجيالا رحلت من أحبتها ، فتقتحم المخيلة القبور والشواهد والصبار والرياحين وصور مسربلة بالحياة من الأحبة كانوا هنا ، والآن قد رحلوا ….
غمرني حزن عميق ….
كانت عودتي الى اليرموك لساعات أشبه بأن تقابل مصادفة صديقا قديما وعزيزا ، فتعرف أن الحياة لم تكن منصفة معه ، إنه بات شريدا ومعدما وقتيلا ..
اليرموك منبع العمل الوطني الفلسطيني ، له طهر عجيب ، نقي كماء وضوء ، قريب من القلب ، وطن ثان …إنه المخيم …
بعد أن فاق من نومه ، نهض حالا قبل أن يزول احمرار النوم من عينيه ….قلب المحطات الفضائية ، واستقر على محطة بعينها …..جاءه الخبر :
( لقد تم تحرير مخيم اليرموك والحجر الأسود ، والقضاء على الارهابيين )…
صرخ بفرح :
الموت لطيور الظلام .
قفز الى الأعلى ، ولفرط فرحه وحزنه ….بكى . لقد انتهت سبع سنوات عجاف ..
في اليوم التالي ، جاهد للوصول الى المخيم ، كان قلبه يعدو أمامه وهو يقترب من ذلك البيت الذي سرق أجمل أيام عمره ، ليجمع مالا لشراءه ..
هذه ساحة الريجة ، وهذا فرن ابي فؤاد ، وشارع لوبيه ، وجامع الوسيم ، ومكتبة الرشيد …هنا في هذه الزاوية ، كنا نختلف ونتفق في الموضوعات ، والمواقف السياسية مع ابي شادي ، الصديق الحميم ……
يا لهول ما أرى ! دمار في كل مكان ، عمارات مهدمة تحولت إلى تلال من الرمل بفعل البراميل المتفجرة ، والقنابل التي هزت الأرض عميقا ، دكاكين مخلوعة أغلاقها وقد تقعر حديدها الى الداخل ، بسبب (التفريغ ) في ضغط الهواء الذي ولدته الانفجارات المتتالية ، أبنية عديدة مكونة من خمسة أو ستة طوابق قد أنهارت بأكملها ، وبقيت من بعضها لوحات معلقة على بقايا أساس أبنيتها بين أصابع الحديد والاسمنت المجروحة العارية ، شوارع مقفرة ، وبيوت مهجورة لا أثر للحياة فيها …..وأغمضت عيني هولا .
أغمضت عيني ، لأرى أعماقي التي كانت تغلي ثم تهدأ ، لتتبلور فيها أشياء وأشياء ، كنت أحس كأني أتنفس من خرم أبرة ، وكأن جبال الأرض كلها جاثمة على صدري ، لم يكن دماغي قادرا على المواجهة والفهم …
كان كل ما في المخيم ينطق ، يهذي ، يؤنب …وأطرقت رأسي خجلا ….
كانت أثار القنابل قد تركت في جدران كل بيت بصمات إطلاقها ، وهدمت بعضها الآخر بأكمله …
من وقت لآخر تمر سيارات ضخمة ، أو دراجات نارية ، تحمل أثاث البيوت الى خارج المخيم ، شيء ما ضد العقل والمنطق والأخلاق ، لا يمكن تصديقه ….
أبناء المخيم وجوههم شاحبة النظرات ترافقها أو تواكب انحسارها……
صمت حزين متوتر ينفجر من أحجار البيوت والأرصفة ..
صمت يروي ببلاغة مأساة مخيم يعيش لحظاته الأخيرة ، مخيم حمل لواء النضال ضد العدو الصهيوني ، مخيم شكل ذات يوم بذرة الصدق في العمل الفدائي التي نبتت من جذور الأصالة في تربة الهزيمة والعار العربية …
ثقيلا كان ذلك المساء..
عند مفترق الطرق ، على رأس شارع المدارس وتقاطع شارع اليرموك ، مكتب الأستاذ المحامي سمير الزبن ، كان يبدو وكأن زلزالا شديدا قد ضربه .
انتابني ضياع حلزوني ترى ، أي من هذه الطرق أسلك ؟
لقد ضاعت ملامح المكان تماما ، أنا الذي أعرف المخيم ، كما أعرف باطن يدي ….انصلبت على مفترق الطرق ، تلولبني دوامة الضياع …
القيت بنفسي الى الركام ، وتقدمت باتجاه ما كنت أسميه بيتي ، تقودني ذاكرة المكان …
لقد كان حلم حياتي امتلاك بيت ، وها هو الان مدمرأ تماما ، كومة من الركام …
شعرت برغبة في التقيؤ ، تراجعت وجلست على كومة من حطام ، كمن سلب منه عقله ، والقلب ، والروح دفعة واحدة .
كان اليرموك ، دمعة محارب معلقة على ناصية ، تشتاق لعناق الأحبة ، كان نجما متألقا في كل شيء ، بأطبائه ، ومهندسيه ، وفعالياته الاقتصادية ، ومثقفيه ، ورجالاته ، شهرته حملتها الطيور في حناجرها الدافئة ، وباحت بها الى بلدان بعيدة …
انتابني شعور غريب بالرغبة الجامحة ، في مغادرة المكان ، بينما كانت سماء اليرموك مجروحة حتى العظم بدخان التنحيس ..سلخت عاطفتي ورميتها في برميل القمامة .
كانت ذات يوم ، نكبة ، ونكسة …
أما هذه الكارثة فكانت أم النكبات التي أصابتنا في الصميم …
لم يعد هناك ما يستحق الإنتظار ، ولسنا محكومون بالأمل …
سعد الله ونوس مات بورم خبيث في رأسه لأنه لم يكن محكوما بالأمل …
ومحمود درويش رحل وحيدا ، بعيدا ، دون حبيبة بجانبه …
لا شيء يستحق الإنتظار في هذا العالم المتهالك أبدا ، أبدا …
فالأرض باتت عقيمة لا تنتج إلا الأعشاب الحاقدة السامة …
الحقد والغدر والقتل والخيانة والزنزانة والسجان هم جميعا قتلوا الشرف ليحيا العار … ..
يا أحبتي ، أدفنوا يرموككم الحبيب وانهضوا ، نهضنا سابقا ، وسننهض من جديد ، الى الجحيم يا شرقا مسكونا بالتعاسة والمؤامرة والاستبداد …
هاهي هجرة أخرى الى بلاد الله الواسعة ….
في ذلك المساء الحزين ، الحزين ، نامت الشمس بألوانها الذبيحة فوق أبنية المخيم المهدمة ، وأصبح جزيرة سوداء ، بينما كانت يد صديقي الدكتور أمجد السعيد تهدهد على كتفي :
لا تحزن يا صاحبي ….غدا تشرق الشمس ، الدرب طويلة ، فمن شعاع الشمس يولد خيط الرجاء ….