علاء اللامي
قد لا تبدو العلاقة واضحة لدى البعض بين إجبار الصينيين على استهلاك مخدرات الأفيون في القرن التاسع عشر من قبل بريطانيا وحلفائها، وبين إجبار بعض الدول والمجتمعات اليوم على اعتبار المثلية أو الشذوذ الجنسي أمرا قانونيا ودستوريا، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن العلاقة بين الأمرين، من زاوية تشابه أساليب التدخل الغربي الاستعماري في شؤون الشعوب الأخرى ومحاولة فرض خيارات سياسية وأخلاقية وقيمية وجمالية وذوقية عليها بالقوة والقسر والابتزاز أمر واضح ولا مراء فيه.
*أعتقد أننا يمكن أن نجد أوجه شبه كثيرة وجوهرية بين ما كانت تفعله الدول الأوروبية الهمجية والمتوحشة في القرن التاسع عشر في البر الصيني وبين ما تفعله اليوم من ابتذال وقسر وابتزاز لشعوب العالم لإجبارها على تبني خيارات وتجارب اجتماعية وأخلاقية وقيمية وجمالية، وتحويل ما هو هامشي كالمثلية الجنسية إلى متن رئيسي، والمتن الرئيسي كقضايا تنمية بلداننا واستقلالها وصحة شعوبنا وغذائها الى هامش لا أهمية له. ولعل آخر مثال شهدناه يوم أمس تمثل في رفع السفارتين البريطانية والكندية وبعثة الاتحاد الأوروبي لعلم قوس قزح الرامز للمثلية والمثليين! لنلق نظرة أولا على حربي الأفيون اللتين شنتهما بريطانيا وحلفاؤها كما وردت تفاصيلها في الموسوعات التاريخية: في سنة 1829 أصدر إمبراطور الصين يونغ تشينج قرارا بمنع استهلاك واستيراد الأفيون الذي ألحق ضررا هائلا بالمجتمع الصيني حتى أصبحت جثث الموتى بسبب الإدمان تتكدس في شوارع المدن الصينية الكبرى وموانئها. ولكن السفن البريطانية استمرت بتهريب الأفيون، ثم أصدر الإمبراطور الصيني قرارا آخر بحظر استيراد الافيون إلى الامبراطورية الصينية… وبل وذهب إلى ابعد من ذلك عندما أرسل ممثله الى مركز تجارة الافيون وأجبر التجار البريطانيين والأمريكيين على تسليم مخدراتهم من الافيون الذي بلغ ألف طن وقام بإحراقه في احتفالية كبيرة. عندها قررت بريطانيا بإعلان الحرب على الصين لفتح الأبواب من جديد أمام تجارة الافيون للعودة من جديد. وبحث البريطانيون عن ذريعة لهذه الحرب فاستخدموا وثيقة “تطبيق مبدأ حرية التجارة”…واستمرت حرب الأفيون الأولى عامين من عام1840 الي عام1842 واستطاعت بريطانيا بعد مقاومة عنيفة من الصينيين احتلال مدينة “دينغ هاي” في مقاطعة شين جيانج واقترب الاسطول البريطاني من البوابة البحرية لبكين. ودفع ذلك الإمبراطور الصيني للتفاوض مع بريطانيا وتوقيع اتفاقية “نان جنج” في أغسطس 1842.
*لم تحقق معاهدة “فان جنج” ماكانت تصبو اليه بريطانيا والقوي الغربية. فلم يرتفع حجم التجارة مع الصين كما كانوا يتوقعون. والحظر على استيراد الافيون ما زال ساريا… لذلك قررت بريطانيا وفرنسا استخدام القوة مرة أخرى ضد الصين، فشنوا حربا جديدة عليها، استطاعت فيها القوات البريطانية والفرنسية دخول ميناء “جوانج شو”.. والاتجاه نحو ميناء تيان القريب من بكين، مما جعل الإمبراطور يقبل مراجعة الاتفاقات وتوقيع اتفاقية (تيان جين) في عام1858 بين الصين وكل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا، والتي تعطي لهم مزيدا من الامتيازات من أهمها :
1-فتح خمسة موانئ جديدة للتجارة الدولية وتحديد الأفيون بصفة خاصة من بين البضائع المسموح باستيرادها.
2-حرية الملاحة على نهر اليانج تسي كيانج.
3-السماح بدخول وانتشار المسيحية في أرجاء الصين.
(وحين تأخرت الصين في التصديق على هذه المعاهدة استخدمت بريطانيا وفرنسا القوة مرة أخرى لتحقيق ذلك وبدأت حرب الأفيون الثانية، واستطاعت قواتهما دخول “تيان جن” في ربيع عام1860 ثم تقدمت نحو بكين ودخلوها في أكتوبر 1860 وتوجهوا إلى القصر الصيفي للإمبراطور وكان هذا القصر يعتبر من أعظم وأفخم قصور العالم ويحتوي على آثار تاريخية هامة وقام الضباط البريطانيون والفرنسيون بنهب محتوياته لمدة أربعة أيام، وأضرموا فيه النار بعد ذلك وحولوه إلى رماد. عن هذه الجريمة البشعة كتب فكتور هوغو (دخلت العصابتان البريطانية والفرنسية كاتدرائية آسيا…إحداهما قامت بالنهب والأخرى قامت بالحرق.. وأحد هذين المنتصرين ملأ جيوبه والثاني ملأ صناديقه ورجعا إلى أوروبا أيديهم في أيدي بعض ضاحكين.. إن الحكومات تتحول أحيانا إلى لصوص ولكن الشعوب لا تفعل ذلك).
(بعد الحرب، ارتفع عدد المدمنين في الصين من مليوني مدمن عام 1850م ليصل إلى 120 مليوناً سنة 1878م، ولكن حروب الأفيون لم تنته نهائياً إلا باتفاقية 8 مايو 1911).
(كان من نتائج حربي الأفيون أن أصبحت هونغ كونغ مستعمرة بريطانية. وقد ارتكب البريطانيون وحلفاؤهم الأميركيون والفرنسيون في هذه الحروب مجازر وحشية، وخالفوا كل القيم الدينية والبشرية وعملوا على نشر تعاطي الأفيون بين الشعب الصيني، استمر هذا الداء مستشريًا في الصين حتى مطلع القرن العشرين حتى قضي على تعاطيه نهائيا النظام الشيوعي بعد ثورة 1تشرين الأول 1949 بقيادة ماو تسي تونغ).
*ترى ما الفرق بين محاولة إجبار الصينيين بالأمس على استهلاك المخدرات بحجة حرية التجارة وبين محاولة عولمة المثلية الجنسية ونمط الحياة الأميركية والغربية على العالم واعتبار الولايات المتحدة وأوروبا الغربية مركز الكون وروما الجديدة التي يجب أن تفرض بقوة السلاح النووي والإعلام والمال كنموذج أخلاقي وجمالي وسياسي وفلسفي على جميع شعوب الكرة العالم؟ وما هي الثوابت الإنسانية التي يجب التمسك بها في هذا الصدد؟
1-إن حرية الشعوب واستقلال بلدانها وتنوع ثقافاتها المحلية أمور يجب أن تكون مصونة ولا يجوز المساس بها أو الانتقاص منها أو التدخل الأجنبي لسلبها تحت أية ذريعة كانت.
2-إن النسبية الأخلاقية والجمالية ومفهوم الحق لا يمكن فهمها إلا في سياقاتها التاريخية الحقيقية ولا يمكن فرض أي خيار أو نموذج اجتماعي أو أخلاقي أو فلسفي إملاء وفرضا من أطراف خارجية تعتمد القسر والقوة.
3-إن حق الحياة مصون ومقدس ولا يجوز إنهاؤه والمساس به، وعليه لا لدعوات الفاشيين في الغرب والتكفيريين في الشرق لتجريم أو قتل المثليين أو الشاذين من الجنسين وعلى الدولة تقع مسؤولية حماية جميع مواطنيها.
4-لا أحد ينكر أهمية التبادل والتفاعل الثقافي والعلمي بين شعوب العالم، ولكن ذلك لا يحدث إلا في ظروف حرة ومتوازنة ومتبادلة لا قسر فيها ولا ابتزاز من الدول القوية المهيمنة بقوة السلاح والمال والإعلام، وبعيدا عن فرض قيم وأعراف وأنماط حياة خاصة بأوروبا الغربية والولايات المتحدة مثلا على شعوب أخرى لها تكونها الثقافي والحضاري المختلف والخاص وبما يمليه مفهوم التنوع ضمن وحدة النوع البشري.