مملكة االشياطين المتدينة
بقلم: الدكتور زاحم محمد الشمري
تصنف المجتمعات البشرية التي تعيش على سطح الكوكب الأخضر الى ثلاثة أنواع أولها المجتمعات البدائية الفقيرة العارية البعيدة عن انظارنا وكذلك عن المدنية والحداثة والتطور، والتي تسير الحياة والعلاقات الانسانية فيها على أساس الصراع مع الطبيعة من اجل البقاء، وإثبات الذات والوجود. ولربما لا توجد فيها صلة روحية بين الخالق والمخلوق، ولكن يسود في ربوعها التسامح والمحبة وتقبل الاخر وسط الغابات الكثيفة والجزر النائية في قلب القارات والمحيطات والبحار. وهذا يعني ان الحياة فيها قائمة على أساس فطرة الشعوب وسذاجتها بمنعزل عن العداء والكراهية والحقد الأعمى.
وهناك مجتمعات متطورة قفزت لتعتلي منصة مجتمعات العالم الاول التي اعتمدت على النهضة الصناعية في جميع الميادين بعد ان فُصل الدين عن الدولة، وأصبحت أماكن العبادة فيها مجرد معالم سياحية يرتادها السواح من مختلف بقاع العالم، وشُرعت العقيدة الدينية فيها بقوانين صارمة تنظم حياة الناس وتحدد الحقوق والواجبات للفرد مع مواصلة بناء الارض وتعميرها لخدمة الرعية، وضمان حقوق الانسان وحريته وتطلعاته المستقبلية نحو غدٍ افضل وأكثر إزدهاراً. فساد الأمان والاطمئنان بحيث أصبحت هذه المجتمعات قبلة للعلماء والمتعلمين والزائرين ومناراً وقدوة يحتذى بها في البناء والتطور والمدنية الحديثة.
ويتوسط هذين المجتمعين البدائي والأول المجتمعات النامية، او ما تسمى بالمجتمعات النائمة، التي تدعي الورع والتدين وسط غياب دور المؤسسة الدينية الموحدة التي يقع على عاتقها توجيه الناس بما ينسجم وتطلعاتهم في الحياة الحرة الكريمة التي يحترم فيها الانسان اخيه الانسان وتصان كرامته وحقوقه. ونتيجة لذلك نشأ صدام حاد بين دعاة التطور والمدنية وبين المستفيدين والمسترزقين من اللعب بمشاعر الناس ومعتقداتهم الدينية الذين يريدون العودة بالرعية الى حياة المجتمعات البدائية المتخلفة فكريا وعلميا وثقافيا، لكي يتمكنوا من السيطرة على عقولهم ومشاعرهم وتوجيههم حسب أهوائهم ورغباتهم المجنونة.
ونتيجة لذلك بدأت نزعت المغالاة والاجتهاد بالدين في هذه المجمعات، وانتشرت البدع وحكايات الخرافة، واشتعلت نار الكراهية والفتن والحقد الأعمى بين أبناء المجتمع والدين الواحد، وتحول الانسان من مؤمن بالله والرسل الى خائف من العذاب في الآخرة، وعلى مر الوقت انزاح حتى الخوف من الثواب والعقاب في الآخرة، حيث انعمت البصيرة واسودت القلوب، وأخذ الانسان يتحدى في أفعاله وأعماله كل التعاليم والقيم السماوية التي انزلها الله على عباده الصالحين. فهو لا يأكل لحم الخنزير ويحج ويصلي ويؤدي الطقوس الدينية حتى يصب عرقا من الخشوع، ولكن في نفس الوقت يأكل الانسان لحم أخيه الإنسان ميتاً بالغيبة والنميمة والشتيمة والغش والتحايل والغدر واغتصاب الحقوق والنفاق… والأسباب جاهزة لشرعنة كل هذه الجرائم المريبة.
وفي نهاية المطاف أعلن الانسان جهرة التمرد على الله كما تمرد الشيطان على خالقه بعد عبادة وورع دامت سنين طويلة. ونتيجة لفقدان التوازن والازدواجية في الشخصية الانسانية في هذه المجتمعات، وغياب الأمن ًوالامان وضياع الحقوق والواجبات، وانتشار الفساد وشيوع التصرفات التي أساءت للخالق والخلق والأخلاق العامة والمثل والقيم الإنسانية خلف رداء التدين والمحسوبية اصبح الانسان لا يقل شأناً عن الشيطان الذي لعنه الله تعالى الى يوم يبعثون، وبشره بسوء العاقبة في الدنيا والاخرة، الامر الذي حول اغلب هذه المجتمعات من مجتمعات متدينة مؤمنة في يوم ما بالله وتعاليمه واخرته الى مجتمعات حاضنة لمملكة الشياطين المتدينة التي تعمل ضد إرادة الله والإنسان بعد ان عشعش الشيطان في الارواح والأجساد والافئدة.