صائب خليل
تمكنت أخيراً من الإتصال بصديقي، لكنه كان يقود سيارته في الطريق من دهوك إلى الموصل، فتبادلنا التحيات والأشواق واجلنا الحديث حتى يصل بيته بعد ساعة كما قال. وهناك كانت المكالمة التالية، التي أنقلها كحديث له حيناً وكمحاورة عندما أرى ضرورة لتوضيح المحتوى حيناً آخر، وأنا أتركها بلا تعليق، فكل شيء واضح فيها لمن لا يريد إغماض عينيه عن الحقائق. فما أوصلنا إلى هذه الحالة المأساوية، وضيق الخيارات هذا، إلا تجاهل الحقائق الصعبة. فقط أريد أن أقول أن صاحبي هذا ليس سوى الأستاذ الجامعي وأحد أبطال الفريق العراقي العريقين في الشطرنج الذي لا يعرف الطائفية ولا التحيز، ويتفق معي على ذلك كما أتصور جميع طلابه ولاعبي الشطرنج العراقيين الذين يفخرون به. وكنت قد كتبت سابقاً عن أمانته مفاخراً من أحداث الماضي ما قد يعتبر قصصاً صعبة التصديق في الوقت الحاضر. وقد وافق مشكوراً أن أكتب إسمه علناً لتكسب المقالة مصداقية اكبر، إنه ربيع قاسم القزاز، يقول:
– الخميس الساعة 1 ظهراً تقريبا، تبادل الناس أخباراً عن حدوث “منع تجول” وشيك، وبالفعل بعد ساعة تم إعلان أن منع التجول سيبدأ الساعة السابعة كإجراء إحتياطي بسبب بعض المعارك في منطقة تكريت.. ومضى كل شيء هادئاً. وفي فجر يوم الجمعة سمعت أصوات إطلاقات نارية وقصف. وفهمنا أن داعش قد دخلوا عن طريق حي 17 تموز في الساحل الأيمن، والذي يوازي الجامعة عبر النهر.
المحافظ قال أنهم 200 إلى 300 شخص وقال أنهم طلبوا الإمداد..
وعند الصباح تدخل الجيش بالقصف العشوائي على حي 17 تموز، وسقطت قنبلة على عائلة في حي الزهراء قرب طريق دهوك وتمزقت أشلاء أفرادها..
– هل أنتم متأكدين أن القصف كان من الجيش؟
– نحن كنا نسمع مدفعيتهم في حي الجامعة، كانت قادمة من “الكندي” ، حيث الجيش ولم يكن هناك أصوات مدفعية غيرها.
بعد ذلك المحافظ ذهب إلى الجانب الأيمن وتحدث عن هجوم مضاد، لكن الأمور تسارعت في ذلك اليوم (السبت) وسيطر المهاجمون على مناطق في الجانب الأيمن. وتطورت الأمور حتى يوم الأثنين حيث سيطروا على المحافظة ومنزل المحافظ، وفي الساعة 11 كانت سيطرتهم تامة على الجانب الأيمن. لكن الجانب الأيسر بقي سليماً، وكان الجميع مطمئناً أنهم لن يتمكنوا من العبور لأن الجيش كله في الجانب الأيسر.
لكن تلك الثقة تبخرت، حيث علمنا فيما بين الساعة 12 – الواحدة بعد منتصف الليل (الأثنين الثلاثاء) أنهم دخلوا الجانب الأيسر. كانت هناك مواجهات بعد عبورهم الجسور، ثم سقطت كل السيطرات وهربت بدون اية مواجهة أو رصاص..
وفي تلك المرحلة بدأت الناس الخائفة بترك منازلها والتوجه إلى الإقليم (رغم منع التجول، فلم يكن هناك أحد في السيطرات)، وامتلأ طريقي اربيل ودهوك بالسيارات التي لم يسمح لها بالدخول. أردنا أن نخرج نحن أيضاً في حوالي الساعة الثالثة صباحاً، لكننا سمعنا أن السيارات لم يسمح لها بدخول الأقليم، كما سمعنا أن المهاجمين لم يؤذوا أحداً، وحتى الجنود الذين لم يقاتلوا، سمحوا لهم بالهروب، فاجلنا المحاولة في انتظار نتيجة ما يحدث، وهكذا بقينا يوم الثلاثاء في البيت. ولاحظنا أن الشارع كان تحت سيطرة جماعة “الطريقة النقشبندية” – جماعة عزت الدوري..
يومي الأربعاء والخمسي تمت إعادة الكهرباء والماء، وفي مساء الخميس بدأ يبرز إسم “دولة العراق الإسلامية”، ونشروا ما يسمى بـ “وثيقة المدينة” وهي ورقة تعليمات إسلامية بسيطة مثل منع الخمور والتدخين، تم توزيعها على الناس وإلصاقها في الأماكن العامة.
في يوم الجمعة ، عند صلاة الجمعة اكتشفنا أن جميع الجوامع قد أمرت بقراءة “وثيقة المدينة” تلك. وبدأ يختفي صوت جماعة “الطريقة النقشبندية”. المسلحين طمأنوا الناس ولم تحدث عمليات نهب وسرقة، والإشاعات الآن أنهم سوف يوزعون الرواتب للموظفين.
– قدرتهم على إدارة المدينة بهذا الشكل بعد السيطرة عليها تعني أن اعدادهم كبيرة اليس كذلك؟
– أعدادهم لم تكن كبيرة في الشوارع، جماعتهم في الداخل الذي يبدو أنهم كانوا ينتظرونهم بدأوا بالتكاثر، ويبدوا ان المقاتلين غادروا فور السيطرة على المدينة للذهاب إلى القتال في مناطق أخرى – في الكيارة وتكريت وغيرها.
– يقال أن بينهم مقاتلين أجانب؟
– أنا أيضاً سمعت بذلك لكني لم ار هؤلاء، من رأيتهم وسمعتهم كانوا عراقيين.
– سبق ان قلت لي حين كتبت مقالة عن شكاوى السنة أن معاملة الجيش للناس كانت سيئة ومهينة وأن الناس كانت تشعر أنه “جيش إحتلال” فما هو رد فعل الناس على ما حدث؟ هل تشعر بالإرتياح للتخلص من “جيش الإحتلال” هذا؟
– المشاعر مختلطة لكن أكيد الناس شعرت بالإرتياح للتخلص من الجيش.. يا أخي يقتلون الناس… مثلاً امسكوا مرة “الصرافين” المتعاملين بالدولار، وقالوا لهم: “إذا تدفعون نسجله “إشتباه بالأسماء” وإذا لا، فـ 4 إرهاب! شلوا المدينة تماماً في الشهر الأخير، يبدو أنهم كانوا يعلمون أن فرصتهم قريبة الإنتهاء فأرادوا أن يحصلوا على اكبر نهب ممكن قبل أن يغادروا”.
(وهنا انتبهت لقصة “الشهر الأخير” فسألته)
– تقصد انهم كانوا يعلمون بالهجوم منذ شهر؟
– والله ما أعرف بس هذا اللي صار، لاحظنا أنه في الشهر الأخير ازداد الإبتزاز للناس بشكل جنوني، هل تعرف قصة “المفتش العام” لغوغول؟
– نعم اعرفها، دعني أركز على موضوع الشهر الذي سبق الهجوم… انا لا أتصور أن الموضوع طائفي أو أنه مسألة ابتزاز أموال، ولا يوجد ما يشير إلى أنهم كانوا يعلمون بنهايتهم قبل شهر كما تقول. أنا تصوري أن هناك مندسين يقودون الجيش لإثارة الطائفية وتحريك الناس ضد الحكومة، وأن زيادة هذا النشاط في أذى الناس كان يهدف إلى تحضيرها لكي تتقبل دخول داعش إلى المدينة، فما رأيك؟ يبدو لي ان هؤلاء في قيادات الجيش يأتمرون لنفس الجهات التي تأمر داعش وبقية الإرهاب، وكل جهة تحضر لنجاح الجهة الثانية، هل توافقني هذا التصور؟
– نعم تماماً…كان واضحاً أنهم بأذيتهم يدفعون الناس دفعاً إلى كرههم وتفسير تصرفاتهم على أن دوافعها طائفية.. أتفق معك أن الجيش وداعش طرفين في فريق واحد.. هذا واضح.
– وهل نجحوا؟ هل يفضل الناس هذا الحال على أذية الجيش؟
– لا أدري، الجميع يرى بوضوح أن ما حدث هو مفتاح تقسيم العراق، وما سيحدث مستقبلا لن يغير الوضع. ستكون هناك مناوشات مسرحية ثم يبقى كل في مكانه ويصبح العراق مقسماً كواقع حال. هذا ما يخشاه الناس، لكن الكثير منهم إن خير بين هذا الوضع وعودة أذية الجيش فسيفضل هذا الوضع إن استقرت الأمور..
من ناحية ثانية، الأكراد ما كارهين العملية، بل استفادوا…
– كيف؟
– كركوك كلها صارت تحت سيطرتهم وأصبحت قواتهم على حدود مدينة الموصل وسيطروا على أطرافها من ناحية أربيل مثل منطقة كوكجلي التي يسكنها الشبك وذات غالبية شيعية، ولا يستبعد أن هناك اتفاق حول ذلك مع المركز… الإقليم توسع كثيراً ، وأهل المنطقة الي ضمها الإقليم ما كارهين هذا.. هم الآن يحتمون بالإقليم…
انا الآن جئت من دهوك، قوات البيشمركة على طول الطريق من دهوك إلى الموصل، وعند “الحدود” هناك سيطرة فيها ثلاث ملثمين ولافتة “ولاية نينوى – دولة العراق والشام الإسلامية ترحب بكم”.. لكن الإزدحام ليس كبيراً..
في المدينة الشوارع فتحت، لكن صف البنزين طويل وتنتظر ساعات حتى تحصل على 20 لتر، وهو متوفر في السوق السوداء بثلاثة أضعاف سعره وهناك أيضاً أزمة قوية في الغاز. الكهرباء والأسواق رجعت إلى حالتها الطبيعية….
إنتهت المكالمة…