(عاوزين تسيطروا على الأسعار؟ الحاجة اللي تِغلا متشتروهاش. الموضوع بسيط. ) هكذا أعلن الرئيس/ عبد الفتاح السيسي في معرض حديثه عن غلاء الأسعار، موضحًا أن انخفاض الحركة الشرائية لسلعة ما، يستوجب بالضرورة انخفاض سعرها، وهو الحل الأمثل لمواجهة جشَع بعض التجار. وهذا حقٌّ لأن وراء كلّ تاجر جشِع، مُستهلكًا متواطئًا معه، مستعدًا لإشباع جشع التاجر بالشراء والاستهلاك والهدر. حقيقةٌ اقتصادية تاريخية وعالمية معروفة.
وذكرتني هذه الحكمةُ بحكاية واقعية حدثت في الأرجنتين. في أحد الأيام ذهب مواطنٌ أرجنتيني إلى السوبر ماركت ليشتري بعض احتياجاته، فلاحظ أن سعر طبق البيض مرتفعٌ عن الأمس. سأل البائع؛ فأجابه بأن شركات الدواجن رفعت سعر البيض بمقدار واحد بيزو! أخذ المواطن الأرجنتيني علبة البيض وأعادها إلى مكانها، قائلا إن هناك ما يعوضه عن البيض. حذا حذوَه جميعُ المواطنين وقاطعوا البيضَ في ذلك اليوم. ماذا كانت النتائج؟ في اليوم التالي: جاء مندوبو الشركات لتعبئة محلات السوبر ماركت كالعادة بإنتاج اليوم الجديد من البيض؛ فرفض بعضُ الباعة أن يأخذوا أي جديد لأن إنتاج الأمس لم يُبَع، والبعضُ الآخر طلب تبديل إنتاج اليوم بإنتاج الأمس الراكد. حدثت خسائرُ هائلة لشركات البيض في ذلك اليوم، لكنها تحملت ظنًّا منها أن المقاطعة ستنتهي خلال أسبوع، وبعدها سيعود الناسُ للشراء الاعتيادي بالسعر الجديد، فتُعوَّض الخسائر. لكن الأمر لم يختلف. مازال الشعبُ الأرجنتيني مُجمعًا على موقفه الحاسم من مقاطعة سلعة البيض. ومرّ أسبوعان دون بيع، والشركاتُ تخسر. شركاتُ إنتاج البيض تدفع الأموال لإطعام الدجاج الذي يُنتج البيض، والإنتاجُ لا يتوقف ويتراكم المخزونُ لأن الدجاج مازال ينتج البيض، والاستهلاك “صفر” لأن حركة الشراء متوقفة. وتراكمت الخسائرُ على تلك الشركات وتضاعفت. فاجتمع أصحابُ شركات الدواجن اجتماعًا طارئًا لدراسة المشكلة، وقرروا إعادة البيض إلى سعره السابق. لكن الشعب الأرجنتيني استمر على موقفه من مقاطعة شراء البيض. وجُنَّ جنون مسؤولو تلك الشركات التي كادت تعلن إفلاسها. فاجتمع التجار مرة أخرى وقرروا ما يلي: 1- تقديم اعتذار رسمي للشعب الأرجنتيني يُبثُّ عبر جميع وسائل الإعلام. 2- تخفيض سعر البيض عن سعره السابق إلى ربع القيمة السابقة.
إنها ثقافة شعوب تقرر حل المشاكل من جذورها، دون شكوى ودون تبّرم. إنها ثقافة “الاستغناء” حين يعمُّ الغلاءُ، وثقافة “عدم الهَدر” حين تضيقُ ذاتُ اليد.
دائمًا ما أتأملُ حباتِ القمح وأنا أنثرُها في شرفتي للطيور الطليقة في سماء الله وأقول لنفسي: ما أعظمَ هذه الحبة الذهبية الأنيقة! كلُّ حبة قمح أو أرز أو ثمرة مما خلق الله، هي ثروةٌ وقطعةٌ فنية فريدة من الألماس السماوي المدهش، لا يجوز التعامل معها باستهانة، أو هدرها في صناديق القمامة.
وهذا ما أراد أن يثبته فنانٌ صينيٌّ اسمه “يانج يكسين” حين قرّر لفتَ الانتباه إلى “آفة هدر الطعام”. قام الفنان بنحت نصف كليو جرام من الذهب الخالص، (ثمنه يربو على الثلاثين ألف دولار أمريكي)، على شكل 1000 حبّة من الأرز. ثم بثّ لنفسه على منصة التواصل الاجتماعي مقطعَ فيديو وهو يُلقي بالحبوب الذهبية في مصارف المجاري في مدينة شنغهاي، ونهر هوانجبو الصيني، وصناديق القمامة. واندهش الناسُ من جنون الرجل. ثم جاء تصريح الفنان لصحيفة South China Morning قائلا إن إهدار الأشياء العادية لا يثير اهتمام الناس، لهذا لجأ إلى إهدار الذهب المنحوت على هيئة حبوب الأرز، حتى يلمسَ الناسُ مدى خطورة الهدر الاستهلاكي، عسى تلك التجربة المكلفة أن تُغيّر في أسلوب تفكير الشعب الصيني وسلوكه. خاتمًا قوله بأن “الأرز أغلى وأنفس من الذهب”. وأتفقُ معه في الرأي. لأن الإنسان بوسعه صناعة عقد من الذهب المرصّع بالجواهر، ولكنه غير قادر على خلق حبّة واحدة من القمح النفيس.
تقول الإحصاءاتُ الدولية وتقاريرُ المراقبين الاقتصاديين إن الدول الأكثر فقرًا هي ذاتُها الدولُ الأكثرُ هدرًا! بينما الدول الغنية ذات متوسط الدخل المرتفع للمواطنين، لا تعرفُ الهدر. وتلك حقيقة يعرفها كلُّ مَن سافر إلى دول الغرب، حيث يذهب المواطنُ هناك إلى السوبر ماركت فيشتري ثمرة برتقال واحدة، أو عنقود عنب وشريحة بطيخ دون خجل من نظرة الناس، أو سخرية الكاشير وهو يرى الفاتورة شحيحةً تضم ثمرة أو وثمرتين. لأن الجميع مثله ينهجون السلوك المحترم نفسه، ولا يشترون إلا ما يحتاجون إليه، وفقط. قاوموا الغلاء بالاستغناء. وقاتلوا الجشع بالوعي الرفيع بقيمة المنح السماوية المُهداة لنا، وعدم إهانتها بالهدر. “الدينُ لله والوطن لمن يحافظ على الوطن”.
***