مقهى بيكاسو
بيكاسو … بخطى ألوانه بين أزقة تازة ورائحة حلوى الشباكية تنعش أجواء شعبان ودقات القلب تعلن الحكاية ….
وقفت أمامه والخجل يربك وجنتيها الموشومة بأزهار الربيع ، بلهجة شامية أفشت لغة السلام في زمن لغته الموت وقتل الحياة جعلها تكفن نفسها بوشاح الحداد والمشي حافية على أرصفة الضياع في أوطان الخريف المزكومة بغمولة الكهوف ، لم تصلها بعد نسائم الربيع المؤجل قهرا بعربدات الرعاع المخمورة دوما بدماء النعاج …
جلست بجانبه دون إستأذان وعلامات السفر البعيد تشع من أغوار عيونها الملفوفة بوشاح الحزن وبصوت مبحوح هل تكرمت بإفطاري بكأس شاي وشيء من الخبز ولو بدون ذهن لم تكمل مطلبها حتى نادى على النادل الذي احضره الفضول قبل أي شيء آخر طالبه إفطارها حسب مشتهاها كأس شاي منعنع وخبز أحرش وقليل من زيت الزيتون لتداوي جوع الطريق في إتجاه البعاد .
بعد أن أهمدت شيئا من جوعها ودون أن يسألها شيء أخبرته بحشمة عن نفسها إمتنانا على جميله إسمي ( مريم ) من مواليد سوريا الوطن المرهون بين مخالب الضباع ، غادرت الدراسة قهرا من مستوى السنة الثانية بشعبة الفلسفة ، يتيمة الأب المستشهد في حرب الجولان وفاقدة للأم وأنا في سن القماط .. قبل أن تكمل حكيها وحتى لاتنزف أحداقها مزيدا من الدمع سلمها منديلا ممازحا إياها بلهجته المغربية ” إلى جرحك المشرق المغرب يداويك “إبتسمت مرغمة وكأنها ترغب في البقاء إلى جانبه لتحكي له عن رحلة الربيع الذي داست أزهاره أقدام الخنازير وأصبح خريفا وشتاءا باردا إلى الأبد..
ودعته والشكرلايفارق محياها حتى إختفت عن لمحه بصره كجونة لحظة المغيب تاركة الأسئلة الموجعة تحاصر لحظاته التي لاتخلو دائما من نزغ السياسة ..
في إنتظار موعد الطبيب الذي جاء به مرغما إلى هذه المدينة المنقسمة على شطرين حاول أن يلغي ذهنه وتفكيره ولو للحظات بالسير وسط الزحام وصراخ المبتضعين وفوضى السير وهجو الكلام ،حتى وصل عيادة الطبيب التي تعج بالأنين وأمل البقاء قدم نفسه لمساعدة الطبيب وجلس بالانتظار ينتظر مع المنتظرين .
لم تمضي من جلوسه إلا دقائق حتى نادى عليه الطبيب ليفسر له ماخطته بيانات التحليل المخبري التي أفرحته كثيرا لكونها لاتحمل وجعا آخر يدخله في متاهات المقاصل لمن يعتقدون أنهم للرحمة ملائكة.
إستقل سيارة أجرة وفي إنتظار شبه القطارالذي سيقله إلى منطلقه ولج أحد المكتبات باحثا بين رفوفها عن عنوان ثقافي أو فكري قد يرضي نهمه المعرفي ، لكنه لم يجد غيرأشباه كتب جلها عناوين للموت وعذاب القبر ودعايات إشهارية لمنتوجات عقارية و لمواد إستهلاكية … وصفحات بالخط العريض لقرائي وقارئات الحظ والكفوف وبائعي الأوهام وعناوين أخرى تطبل وتمجد الزعيم الحزبي وحكومته الرشيدة..
بعد خروجه متحسرا فكر كعادته آن يلتقط بهاتفه المحمول صورة لنفسه بآخر مكان يودعه بهذه المدينة الجميلة فكان محطة قطارها ، إمتطى على عجل مقطورة بوحي شكلها الداخلي أنها بقطار آت لامحالة من زمن “الشربون ” جلس وحيدا يتأمل من خلف البلور سير السائرين ورواح الرائحين في إتجاهات مختلفة توصل جلها إلى نهايات معينة .
لم يمضي من الزمن اليسير حتى وصل إلى حيث انطلق فجرا ، نزل على مهل أدراج ناقلته وعلامات العياء تظهر جلية على مشيه وكأن أنفاس الحلبية أغشت بسحر مقلتيها مكامنه الموشومة بلظى الكلمات وعزف الفراشات .
في الصباح الأخر خرج إلى مركزالمدينة لقضاء بعض أغراضه وبينما هوسائر في تجواله أوقفته صراخات لحشد بشري بأحد ساحات المدينة يهتفون بصوت واحد و بحناجر مبحوحة ” علاش جنا وإحتجنا على الكرامة لبغنا ” لم يشعر بنفسه حتى وجد نفسه بمقدمة الحشد الممتد سلاسل أدمية هاتفا وصارخا مجدوبا لضيم الكادحين البائسين الصارخين بين أرصفة وهوامش الوطن متوسلين سمان الرقاب أن يأخذوا كل شيء المناصب والكراسي … وأن يتركوا لهم بؤس الوطن لإقتسام فقره وضيمه ..
بمكان ليس ببعيد جلس بأحد المقاهي طالبا مشروبا باردا ليبلل ريقه الذي جف صراخا وفي لحظة من أمره وجد شخصا لايعرفه يجلس بجانبه بدأ يسب مع نفسه الوضع المزري للبلد ممرا كلمات مشحونة بخبث مخابراتي مدسوس سعيا منه إستنطاقه بطريقة تبدو اكثرمن سادجة ليعرف هذا الوجه الغريب الغير المؤلوف لعيون العسس الأوفياء ؟؟ بحركة وإيماءات جسدية توحي بخطابات التحقير نهض وترك جرو العسس جالسا يحتسي فراغات الأسئلة المعلقة ..
في طريق العودة عرج إلى مكان اعتاد زيارته كلما هبت به الرياح إلى هذه المدينة ليستحضر نوعا من ذكريات المكان حيث كان يلتقي ذات أيام مع بنت ” القايد ” في أدغال الواد مختفيان عن عيون البصصة والرامقين والمخبرين بلا أجر.. وجد المكان قفارا خال من أشجاره وأجرافه وحتى مائه وأصبح مجرد مزبلة لنفايات المدينة وتلالا من أوساخ الآدميين الذين يدعون الرقي والتمدن وأشياء أخرى…
لم يتحمل نتانة ووجع المكان وإلتوى يسارا حيث ممر صغير تركته عجلات الجرافات نفذ منه إلى الجهة الأخرى من المدينة التي كانت بالأمس القريب غابات أشجار من البلوط والسنديان …وأصبحت الان غابة من الاسمنت تسكنها اجساد بلا ارواح .
لم تصل الشمس مغيبها المعتاد حتى ولى ادراجه لتنتهي رحلته من يومين عاش من خلالها جمال الصدفة وبؤس المكان ونشوة العافية لقلب زاد القدر من دقاته ..
نورالدين التيجاني الادريسي