نص في المكان ..
مقهى : ( أبو عيسى).
ستون عاما ورجل واحد .
في قلب مدينة العمارة ، وأمام شريان النجارين ، تقع مقهى (أبو عيسى ) . منذ أكثر من نصف قرن ولا تزال عنونة المقهى تثير الأمل والذكريات ، إنها على موعد مستمر مع كبار المتقاعدين ، وأصحاب الحكمة ، وأهل الفرائض ، كانت على موعد طويل مع الغرباء ، لقد تعاقبت عليها مئات الاسماء والعناوين ، إنها ملتقى ونقطة وداع معا .وإنها ساعة استراحة للمعلمين العائدين من مدارسهم ، والقابضين على سجل الدوام اليومي للتلاميذ . مقهى : (أبو عيسى) . مكانا يصلح لإيداع الوصايا، والأسرار، والحوادث ،وأمانات الجنود ، وأسرار الموتى الغرباء ، وحوادث الليل . إنها أشبه ما تكون ببريد ، وكأن صاحبها ساع يعمل دون توصيفات ، دون دراجة هوائية ، إنها وسط مدينة محاطة بالماء وبالخريف ، محاطة بشريان نسيم ، بالناس الحاملين مع أقدامهم هموم الطرق الموحشة . مدينة محاطة بالفقراء المنحنية ظهورهم من شبح القبر وعسر الكفن . عمر المقهى ستّون عاما وواجهتها رجل واحد .تخوتها هموم ، وأوچاغها مرمر هندي . ثلاجتها خشبيّة مغّلفة بحديد (البليت). وأستكاناتها رومانية المنشأ ، ملاعقها ذهبيّة ، وصحونها لوّحة (لروميو). مغسوّلة بزاهي (جوليت) . المتعبة من قسوة العناق ، مقهى (أبو عيسى). شاهد على ثقافة الناس ، وتناميهم المعرفيّ آنذاك . وقودها نفط ، وأعمدتها خشب ، أرضها (فرشي) وأضلاعها عناوين . بواباتها من زجاج الألمنيوم . إنها وجه ممتلىء الذكريات منذ عام ١٩٥٦ . إنها مآوى للجنود الذين يرغبون في النزول من وحداتهم العسكرية إلى مدينة العمارة، الجنود القادمون بإسفلت الطرق الموّحشة ، القادمون برائحة الأتربة والبارود وعرق الصحراء ، صحراء : الطّيب ، والشّيب ، والفكة . صحراء (أبو زرگان) . والزبيدات ، وإذاعة العمارة ، وجسر غزيلة ، وأهوار الچكة . الجنود الذين تركوا بيوتهم وأهلهم ، الذين تركوا عوائلهم مربوطة الأيدي بحبال الأمل ، والانتظار . الجنود الغرباء الذين دلّوا أمهاتهم على عتبات المقهى ، الجنود المفلسون من أرزاق الأمير ، والجائعون من قسوة الثكنة ، والمتأخرون عن الألتحاق بوحداتهم ، المصابون بعوق وهلوسة الخوف من المجهول ، الجنود الذين لا يملكون في جيوبهم اوراقا مختومة يسمّونها (عدم التعرض) يلجأون إلى أركان المقهى ، وعلى جدرانها العديد من اليافطات مؤطرة بالخشب ، إنها إشارة لدلالة المكان وجغرافية الحضارة ، إنها توصيات ليس إلا :
(أخي الكريم .. التدخين يضّر بصحتك) . ( أخي المواطن الأكل ممنوع بالمقهى) .( لا تبصق على الأرض وكن نظيفا). وعلى جدرانها نقرأ شهادة صادرة عن قسم الرقابة الصحية في (العمارة ) . شهادة شاهدة عن ضياع عشرات السنين هنا . كم نظرة شغف واشتياق صدرت من عيون المارة ؟ ومن عيون الأطفال للمقهى .كم مرة خطت يد الزمن فيها من ذكريات وآهات وحكايات؟ كم تطلّع الأطفال شوقا لاحتضان تخوتها . إنها عناوين ، ووحدات ، ومقرات ، وآمرية .إنها مآوى الشيوعيين الغرباء المبعدين والمعاقبين بفعل أنشطتهم المحظورة . كم أصغت هذه التخوت لقصائد (لوركا) وحكايات (نجيب محفوظ) و(ماركيز ) وأفكار (لينين). ونجوم (ألف ليلة وليلة ). كم قصة حزينة أُسدل السّتار عنها ؟ وكم مرة امتلات بطوننا من نافورة المقهى الواقعة في ركن الشربت ؟ كم مرة جلس هنا ضباط وأحرار ؟ كم مرة هنا جلس شيوخ وعبيد ؟ وكم مرة آن فيها المتعبون ، والمهملون ، والفلاحون، والحطابون ، وصيادوا السمك ، وبائعو المواشي، والخبر، والتمر ؟ كم مرة هنا جلس دراويش وخطباء ؟ كم جلس من حفاة وسرّاق ليلِِ وقتلة . إنها ساعات رهان على الشجر ، والخريف ، واليأس، والصبر . مقهى : (أبو عيسى) كانت ساحة لصراع واحتدام معا . مما تهيأ لها أن تفسح المجال لمن لم يدخلِ المدرسة أن يتعلم القراءة والكتابة ، وبفعل المحاطين بالمقهى من الصابئة (المندائيين). الحرفيين المسنيين اكتسبت المقهى هدوءا مجاورا . الحرفيون أصحاب القرارات ، صنّاع المناجل، والمناقل والمغازل ،والمناگيش . كم مرّ من الزمن على موت (أبو عيسى) و(سليمون) و(چفاني) و(قزموز) و(يعگوب الكببجي) و(شلش ودهش) .؟ كم مرّ من الزمن على ارتفاع وانخفاض سقف المقهى . السقف المصنوع من أعمدة خشبية ، وطين دجلة .