مقاهي بغداد.. ذاكرة المكان وملتقى الثقافة
تضامن عبدالمحسن
عرفت بغداد بكثرة مقاهيها منذ بداية القرن العشرين وفي زمن الحكم العثماني تحديدا، حيث انتشرت على طول شارع الرشيد ابتداءا من ساحة الميدان الى الشورجة وسط بغداد.
اذ يقول المؤرخ العراقي عادل العرداوي (كانت مقاهي بغداد تعد مقراً لعديد من الطبقات الاجتماعية ومن اهمهم مجتمع المثقفين، ومن بين تلك المقاهي مقهى الزهاوي الواقعة في بداية شارع الرشيد ومازالت قائمة الى اليوم، ومقهى عارف أغا الواقعة مقابل مقهى الزهاوي واليوم قد اختفت وتحولت الى دكاكين. ولو انحدرنا جنوبا لوجدنا الى جانب محل شربت حجي زبالة مقهى حسن عجمي هي الاخرى مازالت قائمة ولكن حالتها العمرانية يرثى لها، كما هو حال شارع الرشيد كله. وتأتي بعدها مقهى البرلمان والتي تحولت الى محل قرطاسية، ومقابل مدخل شارع المتنبي سنلتقي بالمقهى التي يرتادها الصحفيون والمثقفون وهي مقهى الحاج خليل القيسي، وهو رجل طويل القامة ولا يلبس الا الزي البغدادي من الصاية والزبون ويمثل الشخصية البغدادية السمحة ويتصف بالفراسة والصوت العالي).
ومازال الكلام للعرداوي الذي يجول بنا في شارع الرشيد فيقول (ولو دلفنا الى شارع المتنبي سنجد المقهى العريق مقهى الشابندر التي مازالت قائمة لغاية اليوم ويديرها الحاج محمد الخشالي.
هناك مقاهٍ اخرى ذات صبغة ادبية وثقافية مثل المقهى البرازيلي في شارع الرشيد وتطل على نهر دجلة بالقرب من مبنى اورزدي باك سابقا، ومقابل سينما الشعب هناك مقهى المربعة، التي تحولت اليوم الى مخزن.
ومقهى ام كلثوم والتي اسسها المرحوم عاشق ام كلثوم عبدالسميع المصلاوي وكانت مخصصة لسماع اغاني ام كلثوم فقط ومازالت لغاية اليوم قائمة في مدخل شارع الميدان.
وفي ساحة المأمونية مقابل وزارة الدفاع مقهى البلدية انشأتها بلدية بغداد في العهد العثماني وهي ملك لأمانة بغداد، وكان يرتادها حشد كبير من المثقفين والاعلاميين والطلاب، وكنت انا واحدا منهم. ولو عبرنا الى جانب الكرخ، سنشاهد مقهى البيروتي، التي تجمع الادباء والشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي، ومقهى المصبغة التي تقع قرب المدرسة المستنصرية احيانا يطلق عليها مقهى الشريعة، او مقهى الكمرك وتطل على ضفاف نهر دجلة وروادها من تجار سوق الشورجة.
في الباب الشرقي في بغداد مجموعة مقاهٍ يرتادها المثقفون والادباء والصحفيون، اضافة الى الكازينوهات المطلة على نهر دجلة، مثل مقهى خليل ومقهى المعقدين، وفي الكرادة مقهى حسين الطعمة، وايضا في الكرنتينة في الباب المعظم مقهى ابراهيم عرب، وابراهيم عرب شخصية بغدادية كان يقص على الناس قصص غريبة فيها من المغالاة والكذب الابيض مايجعل الناس يلتفون حوله، فمثلا كان يقول (البارحة كان عازمني نوري السعيد على الغدا وجلسنا سوية، ثم ركبنا بالبلم الى ذاك الصوب (الكرخ) وبعدين رحنا الى جزيرة ام الخنازير، طبعا نوري مايتذكر هذا الكلام لأنه كان سكران) او قد يقول (امس حضر المندوب السامي البريطاني وطلب مني ان اريه شوارع بغداد) وكان يتحدث بطريقة مقنعة جدا.
ثم ننتقل الى مقاهي الكاظمية القافية مثل مقهى التجار الواقعة في باب الدروازة، وهناك مقهى في سوق الاستربادي كان يرتادها الشعراء الشعبيين مثل ملا حسن الكاظمي وفاضل الصفار وعبدالهادي قفطان والشعراء الحسينيين ايضا.
ومقاهي في منطقة علاوي الحلة منها مقهى جزيرة العرب وكان يرتادها التجار والمثقفين وهناك مقاهي يديرها المطربين مثل مقهى ناصر حكيم المطرب الريفي المعروف وكان يرتادها رواد الطرب الريفي والمطربين والملحنين، والتي هي مكانها الان قرب مبنى سينما بغداد وقد اتخذها المركز البلدي التابع لدائرة بلدية الكرخ مقراً له، ومقهى جمعة شعيشع التي كان يلتقي فيها حضيري ايو عزيز وداخل حسن وايضا مقهى او اكثر من مقهى في الصالحية بحكم قربها من مبنى الاذاعة والتلفزيون حيث يلتقي فيها الفنانين وهي كازينو القناديل واخرى مقهى ناطق، وهناك مقاه كثيرة متوزعة في بغداد.
ولا ننسى ان حارات بغداد كانت تضم “مقهى الطرف”، ففي كل منطقة او حي هناك مقهى يجمع شباب ورجال تلك المنطقة).
كانت المقاهي الشعبية تعتبر البديل عن النوادي التي تفتقر اليها بغداد في بدايات القرن العشرين، وشهدت تلك المقاهي حوارات وسجالات معمقة بين المثقفين والسياسيين على حد سواء لذلك فقد اسهمت وبشكل فعال في التحولات الاجتماعية والسياسية العديدة التي شهدها تأريخ العراق.
ولقد تبلورت المقاهي الأدبية في بغداد اواخر الاربعينات من القرن الماضي وأصبحت ظاهرة اجتماعية عراقية، حيث اللقاءات اليومية بين الادباء والشعراء وكتاب القصة وغيرهم.. تدور بينهم النقاشات اليومية الجادة، فيما يشترك الكثير منهم وبشكل مستمر بمختلف الشؤون الثقافية والسياسية.
كانت المقاهي الثقافية المكان المناسب للمثقفين والسياسيين وشرائح إجتماعية واسعة من ابناء الشعب، وأصبحت عبارة عن مدارس تعلم فيها الأدباء والشعراء الكبار الكثير من العلوم والمعارف من خلال الحوارات التي تعقد فيما بينهم.
اهم مايميز هذه المقاهي هو سماور الماء الحار و(قوري) الشاي وعدة اوعية اخرى للحامض والدارسين، ورائحة الاركيلة وصوت النرد في لعبة (الطاولي) وقرقعة الدومينو، والجلوس في المقهى لايشكل خسارة كبيرة اذ استكان الشاي كان رخيصا جدا ويبلغ 4 فلوس.
مقهى الزهاوي
لمقهى الزهاوي تاريخ مختلف الذي اكتسب شهرته من الشاعر والفيلسوف العراقي المعروف جميل صدقي الزهاوي. اذ تقول الحادثة ان (نوري السعيد دعا الشاعر الزهاوي للالتقاء به. فلم تكن هناك نواد او فنادق محترمة فسأله الزهاوي، وين نلتقي؟. قال له رئيس الوزراء في قهوة امين. والتقيا هناك، رئيس الحكومة والشاعر الفيلسوف. ولم يكن في المقهى من متاع الدنيا غير بضعة مصطبات و كراسٍ قديمة و(فونوغراف) ابو الزمبرك. وعندها اعجب الزهاوي بها فاتخذها مقاما له. وسرعان ما تحولت الى منتدى للادباء و المفكرين، واصبح اسمها (مقهى الزهاوي(.
كان الزهاوي يدبّج فيها ردوده الشهيرة على عباس محمود العقاد، تلك الردود التي نشرتها صحف بغداد والقاهرة في الثلاثينيات، وفيها أيضاً استقبل الزهاوي شاعر الهند الكبير (طاغور) عام 1932م. وكان للزهاوي عاداته المعروفة في المقهى، فاذا أبدى أحد الجالسين اعجابه بشعره، صاح الزهاوي على صاحب المقهى: أمين ـ لا تأخذ فلوس الچاي ـ ويروى ان المناقشات الحادة بينه وبين منافسه الشاعر الرصافي جرت على تخوت المقهى التي كانت بتحريك من المرحوم أحمد حامد الصراف حين اطلع الزهاوي على ملاحظات وهوامش الرصافي المدوّنة بخط يده على صفحات ديوان الزهاوي، كما ان الدكتور أحمد سوسة كتب مباحثه عن محلات بغداد القديمة.
ضم المقهى طائفة كبيرة من الشعراء والمثقفين والمفكرين من نخبة المجتمع خلال تأريخه واحتضن على مر السنين الادباء والسياسيين كونه منتدى لمختلف الافكار السياسية والشعرية وملاذا فكريا وادبيا تطرح فيه الآراء واخبار السياسة والثقافة والادب، وملتقى من لعبوا دورا وطنيا في تاريخ البلاد. كما تعاقبت عليه اجيال ادبية وثقافية وسياسية وصحفية كثيرة.
مقهى حسن عجمي
وعن مقهى حسن عجمي كتب الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري (مقهى حسن عجمي يُعد من اشهر مقاهي شارع الرشيد ويقع مقابل جامع الحيدرخانة في شارع الرشيد ومن الجهة القريبة من الميدان. كان ملتقى لطلائع بغداد تتردد عليه خيرة اعلام بغداد، كانوا يجتمعون في هذا المقهى ويترقبون مجيئي وعند وصولي كان الصمت يسود لتتواصل بعد قليل الاحاديث والطرائف والنقاشات السياسية والادبية. كان المقهى مفروشا بالسجاد الاصلي الـ(كاشان)، تسطع في أرجائه (السماورات) و(القواري). ومن باب الذوق الرفيع واعتزازهم بي كانوا يجلبون لي (القهوة) التي كُتبت على (كشوتها) كلمة الجواهري بخط انيق وجميل. وكان ثمن استكان الشاي عانة واحدة (اربعة فلوس)، وكذلك كانت القنفات كلها مغطاة بالسجاد وعلى الجدران ايضا سجاجيد).
ويبدو أن شاعرنا الكبير كان على معرفة دقيقة بصاحب المقهى حسن عجمي (ابو فلح) فهو يصفه بدقة شديدة ويقول (صاحب المقهى حسن عجمي متوسط الطول، اسمر اللون، مقبول، عربيته جيدة، ويعمل في تجارة السجاد التي كانت في حينه تجارة مربحة).
وعن اثر المقهي في حياته اضاف الجواهري يقول (امضيتُ اياما جميلة في هذا المقهى مع الخلان والاصحاب والاحباب، وكم من القصائد الجميلة التي نظمتها في هذا المكان، قصيدة “المقصورة ” بدأت بكتابتها في هذا المقهى وأكملتها في البيت على نهر دجلة).
وعن النظام في هذا المقهى يذكر الشاعر الجواهري ان صاحب المقهى كان يكره الضجيج والضوضاء حتى انه منع (الطاولي) على الرغم مما كانت هذه اللعبة تدر من ارباح .
مقهى البرازيلية
يقع مقهى البرازيلية وهو أحد مقاهي بغداد المشهورة والعريقة، في محلة المربعة باتجاه الباب الشرقي قرب سينما برودواي، كان مجمع لطلبة الكليات والطبقة المثقفة والأدباء والشعراء، وسمي من قبل بعض الأدباء بالمقهى الأرستقراطي نظراً لاستغنائه عن الشاي وتقديمه القهوة السادة والنسكافيه لزبائنه، رائحة البن المستورد تجبر رواده على الاستدارة لتناول فنجان القهوة اللذيذة المشهورة والتي يحضّرها (القهوجي) صاحب القهوة على البخار من مرجله الخاص بتحضير القهوة المستورد منذ أربعينيات قرن العشرين. وقد شهد هذا المقهى المرحلة الذهبية من تاريخه مع جيل الخمسينات الذي قدم أعماله الإبداعية وكرس أسماء أبرز الرواد في مجال الشعر والقصة والرواية الشاعر العراقي مثل بلند الحيدري وعبدالوهاب البياتي وغائب طعمة فرمان وغيرهم، وفي مجال الفن التشكيلي الفنانين جواد سليم وفائق حسن، تلك الأسماء التي اصبح لها شأنها في الحياة الثقافية العراقية فيما بعد. وكانت مكاناً مناسباً للإطلاع على آخر أخبار السياسة والأدب والثقافة ومطالعة الصحف والمجلات التي توفرها المقهى وبذلك سنحت هذه المقهى الفرصة للطلاب للتعرف على العديد من الأدباء والفنانين العراقيين. وفي هذا المقهى كتب جواد سليم في مذكراته بعد لقائه بالفنانين البولونيين حيث قال (الآن عرفتُ اللون، الآن عرفتُ الرسم).
مقهى الشابندر
فيما يتحدث الحاج محمد الخشالي عن مقهاه (الشابندر) قائلا (لقد بنى الحاج محمود الشابندر هذه البناية في شارع المتنبي لتكون مطبعة في عام 1910، على غرار مطبعة مدحت باشا، وبعد ان انتعشت الطباعة فيها، وفي عام 1914 تم اتهام محمود الشابندر بالتحزب السياسي ضد الحكم انذاك، ونفي الى خارج الوطن، وسرعان ما اسقطت عنه التهمة والغي قرار نفيه ليعود ويحول المطبعة الى مقهى عام 1917.
والمقهى هو الآخر دمره الانفجار عام 2007 واستشهد خمسة من اولادي، ولكن اعدت ترميمه مع عمليات الترميم التي حظي بها شارع المتنبي).
وفي هذا المقهى ولدت قصائد وأخرجت كلمات لترى الحياة، ذلك أن موقعه المطل على دجلة ومبنى القشلة من جهة وعلى مدخل سوق السراي وشارع المتنبي من جهة أخرى جعله الاول بين نظرائه ويكون المقصد الاول والاخير لأدباء وعلماء ومثقفي عصرنا.
ويشير احد المثقفين في كلامه الى أن من زار العراق ولم يلم ببغداد فما رأى العراق ومن دخل بغداد ولم يزر عابرتها وقلبها النابض مقهى الشابندر فإنه ما عرف بغداد. اذ ترى هنا مجتمعا بغداديا كاملا يقصده المثقف والعالم والمحامي والخبير والكاتب والصحفي والفنان، يلتقون تحت سقف هذه المقهى، يتبادلون الحديث ويتعاطون أخبارهم فيما بينهم.
ويقول احد رواد المقهى (حينما امر بمقهى الشابندر اشعر برهبة تهز وجداني لأنها مقهى تضم خيرة وافاضل رجالات البلد في الفكر والسياسة والادب)، مشيرا الى ان مقهى الشابندر يعد منتدى او متنفسا لكل الادباء والفنانين وان المقهى الحالي رائع يختلف عن السابق لأن يوم الجمعة خاصة يشهد عرسا او كرنفالا خاصا في شارع المتنبي ويشهد مقهى الشابندر بفعل ذلك تزاحما كبيرا بعكس بقية المرافق الثقافية. مضيفا (ينبغي للجهات المعنية الاهتمام بهذه المقهى وصاحبها لأنه يعد من وجهاء بغداد ورمزا من رموز الثقافة في العراق).
اما اليوم فتغير الوضع الاجتماعي والمادي وازدياد النوادي الثقافية والترفيهية، وكذلك سهولة الحصول على الانترنت والدخول الى اي كتاب تريده او مجلة او صحيفة جعل الناس تبتعد عن المقاهي، ويتجهون اتجاهات ثقافية اخرى.
كما ان لوجود الاتحادات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني صارت البديل عن المقاهي التي امتصت زخم المقاهي.
ومن اشهر اغاني المقاهي البغدادية:
ياالزارع البزرانكوش ازرع لنه حنـــه
حنه حنه
واجمالنه غربــــــــــن للشام او ما جــنه
حنه حنه
ومحملات الذهـــــــب فوك الذهب حنــه
حنه حنه
دك الحديد اعلى الحديد واسمع له رنـــــه .
المصادر:
كتاب بغداد مدينة السلام للكاتب الدكتور حسين امين.
مجلة الموروث الالكترونية الصادرة عن دار الكتب والوثائق