د زهير الخويلدي
” لا يجب على المرء أن يسمى فنا سوى الإنتاج بواسطة الحرية ، أي بواسطة حرية الاختيار التي اتخذت من العقل أساس أفعالها”1[1]
ما يمكن الانتباه إليه هو صعوبة تعريف الفن من جهة الماهية المجردة والمفهوم المحدد وضرورة الاهتمام بتاريخ الفن من جهة النشأة والتشكل وحدوث التحولات والثورات والنظريات والتجارب والأنساق الفنية. إذ في البداية يجدر الإقرار بأن الفن هو تمثيل للعالم أكثر منه تمثيل للكون ويحتل منزلة خاصة ومفارقة بما أنه علم كيفي يتأسس بشكل كوني من خلال فعل الإحساس . كما أن حكم الذوق يتضمن درجة من الكلية مختلفة عن الطابع الكوني للمفاهيم و يحيل إلى أي موضوع ويبقى مجرد رنين داخل الذات المتلقية.
بعد ذلك صار الفن تجربة وحركة تقوم بالأساس على محبة الجمال وتمييزه عن القبح والمبتذل.أما الاختصاص الذي فيدرس الجمال يسمى جمالية أم جماليات، علم الجمال أو الإستيطيقا، تاريخ الفن أو فلسفة الفن. لكن يمكن أن نعثر بواسطة الفن على فلسفة عميقة تمتلك قدرات هائلة على المعرفة والخلق والفعل ويكمن أن يتحول الموقف الاستيطيقي إلى أداة لملامسة للجوهري والقبض على الماهيات وتفجير الثورات. لقد ذكر لالاند في معجمه أن علم الجمال هو علم الأحكام التقويمية التي تميز بين الجميل والقبيح. ولذلك كان المضمون الجوهري لهذا العلم هو التعبير عن النشاط الجمالي للإنسان وتشكيل العالم وفقا لقوانين الجمال بعد معرفة تصورات تقويمية للسمو بالحياة الفردية والاجتماعية وتطويرها ويتكون من فنون الرقص والشعر والموسيقى والفنون التشكيلية والمسرح والفيلم السينمائي.
مدخل نظري أول:
تنزيل الفن ضمن الرؤى الثلاث التي يطل من خلالها الإنسان على العالم وهي الأسطورة والأدب والفلسفة ومنح الدراسة الفنية حق المواطنة الفلسفية بإزالة التوتر بين ماهو فلسفي وماهو أدبي وإبرام تعاقد معرفي وتكامل منهجي بين العلمي والشعري خارج إطار التربة الميتافيزيقية التقليدية.
مدخل نظري ثان:
الخير والحق والجمال هي مثل أفلاطونية تعتبر نماذج معيارية لنظرية المثل والموجودات الواقعية وتطرح إشكالية العلاقة التعادلية فيما بينها فكل ماهو خير وكل ماهو حق يطابقان من حيث المبدأ الجمال في ذاته ولكن هل يمكن أن يعبر الشر عن جمالية معينة؟ وألا يقترن الجمال في الفن بالكذب والوهم؟
مدخل نظري ثالث:
مبحث الفن يطرح ضمن إطار العلاقة الملتبسة بين الإنسان والله والكون ويرتبط بالقدرات الإبداعية للكائن البشري ضمن وجوده في العالم وتشبهه بالمطلق على قدر طاقته ومحاكاته للطبيعة ، غير أن العلاقة المتشابكة بين المطلق والنسبي وبين الكلي والجزئي تثير احراجات في مستوى القمة الجمالية للأعمال الفنية وتمكنها ن الربط الفعلي بين المادي والمجرد وبين الكيفي والكمي.
في هذا الصدد يمكن إثارة الإشكاليات التالية : ماهي العلاقة بين الفن والطبيعة؟ هل الفن يحاكي الطبيعة كما تتجلي وتظهر أم وفق معيار عقلي كلي؟ وهل الجمال يوجد في الطبيعة أم في الفن؟ ولمن الأولوية في مستوى القيمة الجمالية؟ وبما يدرك المرءُ الجمالَ؟ هل بالعقل أم بالتجربة ؟ هل الجمال هو النسق والمقدار أم التمام والاعتدال؟ وما الفرق بين الجمالية الذاتية والجمالية الموضوعية ؟ وهل هو قيمة نسبية أم مطلقة؟ ما الدليل الذي يمكن أن يقدم على وجود الجمال المطلق؟ هل هو المثل الأعلى للجمال أم الروح المطلق؟
ما يمكن المراهنة عليه عند معالجة هذه الإشكاليات والتفكير في هذه القضايا هو توثيق الصلة بين الحكم الجمالي والحكم الإيتيقي وتسريع الانتقال من الطبيعة إلى الفن ومن علم الجمال إلى الوعي الجمالي.
1- الفن والطبيعة:
الفن بالمعنى العام هو جملة القواعد المتبعة لتحصيل غاية معينة جمالا كانت أو خيرا أو منفعة فإذا كانت هذه الغاية هي تحقيق الجمال سمي بالفن الجميل ، وإذا كانت تحقيق الخير سمي الفن بفن الأخلاق وإذا كانت تحقيق المنفعة سمي بفن الصناعة2[2]. أما الفن في المعنى الخاص فهو في جوهره تعبير عن انفعال جمالي يشمل الجميل والجليل والسامي والممتع والحسن والرائع والهائل والخلاب والبهي، والمعيار الذي نقيس به مدى قدرة الفن على هذا التعبير لا يجب أن يكون خارجا عن مجال الفن بل من العمل الفني ذاته.
أما الجماليات فتفيد محبة الجمال بشكل واسع، وقد ظهرت الكلمة لأول مرة مع بومغارتن الذي دعا سنة 1635 إلى تأسيس مفهوم الجماليات بشكل فريد وخاص وذلك في كتابه “تأملات فلسفية في موضوعات تتعلق بالشعر” وقد ربط تقويم الفنون بالمعرفة الحسية وهي معرفة تتوسط بين الإحساس المحض والمعرفة الكاملة وتهتم بالأشكال بدل الاهتمام بالمضامين. وكانت مهمة الإستيطيقا التوفيق بين ميدان الشعور الحسي وميدان الفكر العقلي وبين حقيقة الفن والشعر من ناحية وحقيقة الفلسفة من ناحية أخرى. لقد حاول بومغارتن إيجاد أورغانون خاص بالمعرفة الحسية يشبه المنطق الخاص بالمعرفة العقلية الذي أبدعه أرسطو وعرفه بأنه نظرية المعرفة الحسية بماهو جميل. وبرزت تعريفات أخرى في نفس الفترة مثل علم قواعد كمال المعرفة الحسية ونظرية المعرفة الحسية لماهو جميل وعلم فن الشعور واعتبرت الفنون عرض الكمال الحسي. ثم ظهر بعد ظهر العديد من العلماء في الجمال أحدثوا تطورات هائلة في الوعي الذاتي للإنسانية وبينوا الجانب التاريخي في علم الجمال عند اليونان والهنود والمصريين. لقد أصبح من نافل القول التأكيد بأن علم الجمال هو العلم الذي يبحث في الجمال ومقاييسه ونظرياته وفي الذوق الفني وفي أحكام القيم المتعلقة بالآثار الفنية والجمال أو الحسن هو احد المفاهيم الفلسفية التي تنسب إليها أحكام القيمة اعني الجمال والخير والحق وجمالي هو صفة لما هو جميل ونجد الجمالية الفلسفية والجمالية الأخلاقية التي تبحث عن تنظيم السلوك وفقا لمقتضيات الجمال بمراعاة الترتيب والانسجام.
لكن كيف تتدخل النظرية الذوقية في الاختيار التفضيلي بين الفن والطبيعة في مستوى القيمة الجمالية؟
2- الجميل الطبيعي والجميل الفني:
إذا كان كانط في نقد ملكة الحكم يرى بأن “الجمال الطبيعي هو شيء جميل أما الجمال الفني فهو تمثل جميل لشيء” فإن هيجل في دروسه حول علم الجمال وفلسفة الفن يقر بأن ” الجمال في الطبيعة لا يبدو إلا انعكاسا للجمال في الذهن” ، فهل يجب على الفن حينئذ أن يكون تمثيلا طبيعيا لما يوجد في الخارج أم يجب عليه أن يضفي النبل على الظواهر الطبيعية وأن يعبر فيها لتجليها؟
من المتعارف عليه أن الجميل beau هو موضوع من مواضيع العلم والفلسفة ظهر في عصر التنوير ولكن دراسته كانت قديمة قدم الإنسان على الأرض ويطلق الجمال على أمور شتى مثل الأفعال الإنسانية والأشياء الطبيعية والآثار الفنية والآلات والمنتوجات الصناعية. وقد ساد الاعتقاد بأن الأشياء المفيدة في الاستعمال والأشياء الطبيعية النافعة والأفعال الإنسانية السارة تدرج بالبداهة ضمن صفات الجمال ولكن ليس السهل أن نجد المعيار الذي نميز به الجميل والنافع والخير ولا يكفي أن ندل على الجمال بأنه ما يثير الإعجاب الحسي.
من المعلوم أن الجمال عند الفيثاغوريين يقوم على النظام والانسجام والتماثل والتناسب والتساوي والاعتدال والتعقل وبالتالي لا إفراط ولا تفريط ويشترط توفر العناصر النفسية والاستعداد الطبيعي والمحبة والاستمتاع. غير أن سقراط كان أول من طرح سؤال: ما الجمال؟ ورفض الجواب السفسطائي الذي كان يرى في تجسيمه في الجسم المحسوس وبين وجود أشياء غير حسية ولكنها تمتلك جمالية معتبرة مثل الأفعال والنفوس وأشياء حسية ولكنها غير جميلة بل تجسد القبح وماهو مذموم.إن ماهية الجمال ليست ما يبدو ملائما ولا النافع ولا الصالح ولا العرفان بل الأشياء الجميلة جمالا تاما إن الجميل مستقل عن الشيء الذي يظهر أنه جميل وجمال الأشياء الجميلة لا يمكن أن يدرك مستقلا عن الصورة العقلية للجميل. فماهي معايير الجمال؟ هل يوجد جمال بطبعه أم يتوقف الأمر على الظروف والأوضاع وأهواء الناس ومستوى الثقافة والأخلاق؟ إلى ماذا يرجع اختلاف الناس في تقدير موضوع الجمال وقيمته؟
وللفنون الجميلة مظهر الطبيعة ولكن يجب النظر إلى الآثار الفنية على أنها من إبداع الفنان وليس من إنتاج الطبيعة. ربما الفرق الأول والأساسي بين الجمال الطبيعي والجمال الفني هو أن الأول من صنع الطبيعة أو خالق الطبيعة بينما الثاني من صنع الإنسان.
الفرق الثاني هو أن غائية الجمال الطبيعي متوارية في الطبيعة بينما الغائية في الفن ظاهرة إلى العيان.
الفرق الثالث هو أن جمال الفن أكمل من جمال الطبيعة وبالتالي الفن هو الإنسان مضاف إلى الطبيعة.
في مستوى رابع ، يختلف الفن عن الطبيعة ، والعمل لا يدعى فنا إلا إذا كان صادرا عن الحرية أي عن الإنسان باعتباره المفكر الحر الذي يضع العقل في أساس أعماله. كما يختلف الفن عن العلم الذي هو نتيجة المعرفة ويبحث عن السيطرة على الطبيعة تقنيا بينما الفن نتيجة المهارة والحذق ويكتفي بالتناغم مع الطبيعة ومحاكاتها.وكذلك يختلف الفن عن المهنة بما أن الفنان حر والعامل مجرد خادم. فالفن نشاط ممتع بذاته بينما المهنة نشاط غير ممتع بل يسبب الشقاء ويمكن أن يوفر أجرا.
في مستوى خامس ، إن الفن وليد العبقرية عند كانط وهي هبة طبيعية أو استعداد فطري في النفس تقوم بإنتاج شيء أصيل بعيد عن كل تقليد ولا يتبع أي قاعدة مسبقة. ويشكل نتاج العبقرية نموذجا للغير يقيس به الأعمال الفنية الأخرى ويتحول إلى معيار للحكم.ولكن العبقري لا يستطع أن يفسر نتاجه بنفسه ولا أن يصف لنا كيف حقق إنتاجه كما لا يعرف كيف تولدت التخطيطات والأفكار التي تولد عنها العمل الفني.
غير أن عمونيال كانط في “ملاحظات حول الإحساس بالجمال والرائع”3[3] قسم الفنون الجميلة على أساس الوسائل التي يستعملها الفنانون وجعل فن الكلمة يمثله الشعر والخطابة وفن الصورة يتشكل من التصوير والنحت ويمكن إضافة المعمار وفن الصوت تعبر عنه الموسيقى ويمكن إضافة الغناء أو الإنشاد.في الواقع، لم يعد العمل الفني يتشكل عن طريق محاكاة الطبيعة أو التشبه بالإله وإنما صار ينبثق من الحرية الإنسانية والأهلية العقلية. زد على ذلك تم وضع الطبيعة والفن وجها لوجه وصارت المعرفة في مقابل الانتشاء دون أن يقوم طرف بإلغاء الطرف الآخر أو الاستحواذ والهيمنة عليه بل ساهمت المقابلة بين الطرفين في ميلاد علم الجمال واستقلاله عن الفلسفة وبنائه لموضوعه وتعيينه لمنهجه الخاص به.
في القسم الأول من نقد ملكة الحكم يعرف كانط الجميل وفقا لأربع لحظات للحكم الذوقي:
– الأولى من حيث الكيف بوصفه موضوعا للاستمتاع دون أية منفعة. ( الخلو من المنعة)
– الثانية من حيث الكم بوصفه موضوعا لاستمتاع عام دون تصور محدد. (العموم في الإدراك)
– الثالثة من حيث الاضافة بين الأغراض التي تؤخذ في الاعتبار. (غائية دون غاية محددة)
– الرابعة من حيث نوعية الاستمتاع بالموضوع دون تصور عقلي. (الاستمتاع الضروري)
لهذا يمتع الجميل تلقائيا وبالضرورة ويدل الاستمتاع بالجمال في الطبيعة على نفس طيبة وشعور أخلاقي.
” الطبيعة كانت جميلة حينما تجلت في الوقت نفسه على أنها فن، والفن لا يمكن أن يسمى جميلا إلا حين نكون واعين بأنه فن ومع ذلك يتجلى لنا أنه طبيعة”4[4]. ما نلاحظه أن كانط يفضل جمال الطبيعة على جمال الأعمال الفنية ولكنه في النهاية يقوم بالجمع بينهما في حركة تأليفية. هل الجمال الطبيعي يمكن أن يجعل في موازاة الجمال الفني؟الجمال في الفن أسمى عند هيجل من الجمال في الطبيعة لأن:
– الجمال في الفن يتولد من الروح وبمقدار ما الروح وإبداعاتها أسمى من الطبيعة وتجلياتها فكذلك الجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي بل إن الفكرة الرديئة عن الفن هي أسمى من أي ناتج طبيعي لما تعكسه من الروح والحرية
– الطبيعة مظهر من مظاهر العقل في أدنى مستوياته في الوجود وكلما زاد نصيب العقل أو الروح كان الموجود أفضل ولهذا فان الجمال في الفن أسمى من الجمال في الطبيعة الجامدة إذ الأثر الفني يحتوي على الروح والحرية وهما أسمى ما في الوجود5[5].
– هل الفن مظهر وإيهام؟ وأليست الطبيعة حقيقة وواقع؟ ، المظهر شيء جوهري بالنسبة إلى الماهية وان الحقيقة لن توجد إن لم تظهر ولم تكن مشاهدة من احد وكيفية الظهور بواسطة الفن هي ابتغاء تحقيق الحق في ذاته وما يصوره الفن ويظهره هو هذا الواقع الحقيقي ومثل هذه القوة الكلية. لكن متى تحرر الفن بشكل لافت وتام عن المقارنة بالطبيعة وأصبح ميزة انسانية بأتم معنى الكلمة؟
الهوامش والإحالات:
[1] Kant Emmanuel, critique de la faculté de juger, édition Vrin, Paris, 1974, paragraphe 43, p135.
[2] صليبا جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، دار الكتاب اللبناني ، بيروت، طبعة ، 1982، ص165.
[3] Kant Emmanuel, observations sur le sentiment du beau et du sublime, 1764
[4] Kant Emmanuel, critique de la faculté de juger, op.cit, p306.
[5] هيجل، المدخل إلى علم الجمال ، فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت، 1978، ص06.
المصادر والمراجع:
هيجل، المدخل إلى علم الجمال ، فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت، 1978،
صليبا جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، دار الكتاب اللبناني ، بيروت، طبعة ، 1982،
Kant Emmanuel, observations sur le sentiment du beau et du sublime, 1764
Kant Emmanuel, critique de la faculté de juger, édition Vrin, Paris, 1974,
كاتب فلسفي
[1] Kant Emmanuel, critique de la faculté de juger, édition Vrin, Paris, 1974, paragraphe 43, p135.
[2] صليبا جميل، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، دار الكتاب اللبناني ، بيروت، طبعة ، 1982، ص165.
[3] Kant Emmanuel, observations sur le sentiment du beau et du sublime, 1764
[4] Kant Emmanuel, critique de la faculté de juger, op.cit, p306.
[5] هيجل، المدخل الى علم الجمال ، فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت، 1978، ص06.