محمد فاضل نعمة
الأمن في اللغة يعني الطمأنينة ، وهو نقيض الخوف ، ويستخدمه الإنسان للتعبير عن قابليته في تحسس المخاطر وسبل مواجهتها،وهو بهذا المعنى يعد الفعالية الغريزية الأقدم المرتبطة بوجود الإنسان ، من خلال سعيه الدؤوب لدرء مكامن الخطر عن نفسه من المجهول الذي تمثل أول الأمر في الظواهر الطبيعية التي لم يجد لها تفسير، وكذلك من محيطه الاجتماعي والجغرافي الذي وجد نفسه في تصادم معه لاسباب مختلفة .
لقد تطور مفهوم الأمن من إطاره الفردي إلى الجماعي بوصفه نتيجة مباشرة لتطور النظم الاجتماعية ليصبح أكثر شمولية في معالجة مفهوم الحماية ليشمل جميع نشاطات المجتمع ومؤسساته بهدف استقرار تعاملات الأفراد فيه ، ليمثل علاقة جدلية بين السلطة والمواطن ، وبذلك يمكن أن نحدد مفهوم الأمن بمعناه العملي بأنه جميع الإجراءات التي تتخذها السلطة للمحافظة على كيان المجتمع والأمن والنظام فيه بمختلف أشكاله وصوره ، وقد شكل ذلك التزام على عاتق السلطة الحاكمة ومحور سياستها .
إن إضافة مفردة وطني إلى تعبير الأمن ارتبط بتطور العلاقات السياسية والاجتماعية للجماعات وصولا إلى مفهوم الدولة بشكلها الحديث والمحددة بمكوناتها المتمثلة بالإقليم والشعب والسيادة ،ليصبح المدلول معنيا بشكل مباشر بوجودها واستمرارية مؤسساتها ونشاطاتها، وقد شكل موضوعه أهم القضايا التي يناقشها الفكر السياسي الوطني، بعد أن ساهم ازدياد حجم ونوع التهديدات والتحديات لكيان الدولة المعاصرة نتيجة للتطور والتوسع الكبير في المجالات العسكرية والمخابراتية على مستوى الكم والنوع ، في ظل علاقات دولية يسودها الصراع ومنطق القوة ، لفرض النفوذ والهيبة بإشكالها ،في جعل المؤسسات المختصة بالأمن الوطني تجد لها دعما وتأييدا شعبيا منحها الأولوية والصلاحيات فوق النشاطات الأخرى ، ولا سيما بعد أن أدركت الشعوب إن تهديد أمنها لم يعد محصورا بالإستراتيجية العسكرية وتهديدات الغزو والعدوان المباشر بل اتخذ أشكالا اقل وضوحا وأكثر دهاء لاستهداف أنشطتها السياسية والاقتصادية والثقافية ..الخ فأصبح تعبير الأمن بإطاره الوطني غالبا ما يقترن بأحد هذه النشاطات للتدليل على وجود شعور جماعي بالخطر إزاءها ، مما اوجد مفاهيم أمنية أكثر تخصصا مثل الأمن الغذائي والأمن الصناعي والأمن العسكري والأمن الثقافي ..الخ، وبهذا المعنى الواسع الذي يتعامل به الأمن الوطني لايمكننا عده إجراءات أمنية وعسكرية حسب، وهو ليس مجرد نماذج جاهزة في التصرف السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي حيال التعامل الداخلي أو الخارجي .. وإنما هو تفكير ستراتيجي عام ينبع من متطلبات حماية المصالح الأساسية لأي شعب.. يقدم الإجابات النابعة من التصورات المستمدة من التاريخ والجغرافية لكل المعضلات التي تواجه الوجود والحياة لأي امة ..في وقت السلم أو الحرب، وهذا الإطار الواسع جعل المفهوم أكثر ارتباطا بالمعطيات العالمية وتأثيراتها المتبادلة على واقع الدولة.
لقد استمد الأمن الوطني مبرراته النظرية والعملية من مفهومين رئيسين يمثلان صلب وجود الدولة أولهما السيادة و تعني تمتع الدولة باختصاص شامل على إقليمها بشكل مستقل عن أي سلطة أخرى ، ما لم يقيد هذا الاختصاص بقواعد دولية ، ويعد نشاط الأمن الوطني انعكاسا لهذه السيادة ، بوصفه فكرة تستند إلى حق الدولة الشرعي في الدفاع عن كيانها وحماية أمنها من خلال اتخاذ الإجراءات الكفيلة بذلك، وثانيهما المصالح الأساسية والحيوية للدولة وهي من المفاهيم العائمة ، التي تهدف في جوهرها إلى ضرورة تفضيل مصالح الدولة على أي اعتبارات أخرى ، لذا فان امن الدولة هو مجموع مصالحها الحيوية .
لاكن قد يتحول الأمن الوطني في بعض الحالات إلى هاجس يندمج في صلب العقيدة السياسية للدولة ، فينعكس في سلوكها وممارساتها ، ليشكل هدفا ووسيلة في آن واحد، ولا سيما إذا تبنت السلطة مفردات النظرية التآمرية (Conspiracy theory) أو هاجس التهديد أو العدو كجزء من سترتيجيتها الداخلية والخارجية ليكون ذلك أساسا تقوم عليه ما ندعوه بدولة الأمن (Security state) أو الدولة البوليسية (Parrison state) ويمتاز هذا النوع من الدول بقيم مشتركة أبرزها الشك وعدم الثقة في نوايا الآخرين والعنف الذي يظهر جليا في سلوكها الموجه للداخل أو الخارج ، مما يبرر لها في إطار متطلبات الأمن الوطني الكثير من الأهداف أبرزها اختلاق الأزمات لإبعاد الأنظار عن المشاكل المستعصية أو العيوب الذاتية للنظام، وتبرير التوسع على حساب الآخرين وتطبيق نظرية المجال الحيوي، وكذلك تبرير الدخول في سباق التسلح ومحاولة عسكرة المجتمع ، أما الهدف الأخطر والغالب في طبيعة هذه الأنظمة هو مصادرة الحريات بالعنف ، ومحاولة شخصنه السلطة لتبرير ظهور النظم الشمولية.
إن نجاح بناء نظرية شاملة للأمن الوطني يرتبط بعاملين رئيسين أولهما القدرة على تحديد مفهوم الأمن الوطني وملامحه العامة ، وثانيهما تحديد الإطار العام لقدرات وإمكانيات الدولة وحركتها الحالية والمستقبلية ، و ذلك مرتبط بوضوح الأهداف الوطنية وترابطها وانسجامها مع القيم السائدة في المجتمع والمقترنة باليات عمل واقعية تأخذ بالحسبان تصنيف التهديدات ووضع الأولويات لمواجهتها من خلال مجموعة من المؤسسات أو الأجهزة الأمنية ذات كفاية إدارية وتنظيمية عالية تعمل بشكل تنسيقي مترابط مع السلطات الثلاث والأجهزة الحكومية الأخرى ،ومتعاونة مع مجموعة من المراكز البحثية والمعلوماتية المتخصصة في هذا الشأن التي لها قدرات التحليل والمعالجة العلمية للمعلومات والمعطيات بشكل يخدم عمل الأجهزة الأمنية ، والمستندة إلى نظام تشريعي مرن قادر على استيعاب المتغيرات في طبيعة التهديدات وسبل مواجهتها، وان هذه الخطط لايمكن أن تتم بمعزل عن الجماهير ، لان تنفيذها لابد إن يقترن بفعل جماعي مؤثر يمتد إلى جميع أطراف المجتمع ومؤسساته ليعكس حالة من التماسك، لذلك فقد وجدت الكثير من الدول الحل في محاولة خلق مدرسة فكرية تتبنى المفهوم الشامل للأمن الوطني من خلال نشر وعي فكري جماهيري بمدلولاته وسبل تحقيقه تساهم فيه مؤسسات الدولة كافة لتحريره من تداول الخاصة إلى تداول العامة من الناس ،بشكل يمنع تطور الهاجس الأمني ليكون جزء من العقيدة السياسية لصانع القرار. ليبقى مفهوم الأمن الوطني في جوهره ضرورة حتمية لحماية منجزات الجماعة ومتابعة إحراز التقدم والنمو وتعزيز السيادة الوطنية ، وهذه الضرورة تتصاعد كلما تطور الإنسان وازدادت متطلباته وقدراته والتحديات التي تواجهه.