تمهيد
فاجأني الدكتور جورج جبور المستشار السابق للرئيس حافظ الأسد والمفكر وصاحب المبادرات والمشاريع الحقوقية المتنوّعة، حين أهداني كتابه الأخير ” مذكرات إلى رئيس مجلس الوزراء السوري 1990-1998″ مذيّلاً بالإهداء التالي ” الصديق العزيز القديم المفكر الدكتور عبد الحسين شعبان حفظه الله: يكتسب هذا الكتاب أهمية إضافية، لأنه يدعم ترشيحك لجائزة نوبل للسلام”، وكما قال أن واحداً من أصقاع الدنيا البعيدة طلب تأييده للحصول على جائزة نوبل، ولكن شتّان بين من يطلب الولاية وبين من يرشحه آخرون وهو معرض عنها، كما يقول.
وكان الوزير د. عصام نعمان وسماحة الشيخ حسين شحادة ود جورج جبور وبحماسة من الكاتب والباحث سركيس أبو زيد قد أعلنوا عن ترشيحي لجائزة نوبل للسلام على هامش ندوة ناقشت كتابي ” الإمام الحسني البغدادي – مقاربات في سسيولوجيا الدين والتديّن” التأمت في بيروت (منتدى تحولات – مركز الألف)، وذلك تقديراً لجهودي في مجال الدفاع عن الحقوق والحريات ونشر ثقافة التسامح والسلم واللّاعنف وقيم حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي وعلى الصعيد العالمي، وظلّ سركيس أبو زيد يلاحقني بضرورة تشكيل لجنة لاستكمال المستلزمات الضرورية وتأمين الشروط الفنية للتقدّم لنيل الجائزة، وكان آخرها اللقاء في إهدن، حيث طلب خريطة طريق للتحرّك بمعزل عني وعن تحفّظي على الفكرة ذاتها والجائزة ككل، لأسباب موضوعية وذاتية.
ولعلّ هذا الاستطراد لإهداء جبور له علاقة بالفقرة التي دوّنها كإهداء للكتاب الذي أقوم بتقريظه، وقد سبق أن قدمت مطالعة استذكارية عنه عند تكريمه في بيروت لبلوغه الثمانين بكلمة عنونتها : جورج جبور : دخل القصر الجمهوري بكتاب وخرج منه بكتاب، وهي قصة لها دلالاتها، خصوصاً وأن شخصاً مثله يمتلك مؤهلات عديدة ولغات عديدة ومنتج أفكار وصاحب مبادرات ومشاريع كثيرة وكتب متنوّعة حاول أن يضخّها من خلال الدولة وهو ما يستحق الوقوف عنده والبحث فيه كوسيلة لخدمة وطنه وأمته، وحسناً فعل بنشره هذا الكتاب الذي احتوى مذكرات رسمية بينه وبين رئيس الوزراء وعدد من الجهات الدولية والإقليمية، تلك التي تعكس حرصه من جهة وتنظيمه من جهة ثانية ودقته من جهة ثالثة ورغبته في إطلاع القارئ على مسارات الدولة من أعلى مستوياتها من جهة رابعة.
ارتبطت مع جورج جبور بصداقة خاصة أساسها الكتب، وزمالة متميزة مظلتها الفكر، ورفقة حميمة أفقها مشاريع ومبادرات، وصحبة متواصلة عنوانها الكلمة، ولعلّ تلك أجمل الصداقات وأوثقها وأعزّ الزمالات وأرقاها، وأفضل الرفقات وأعمقها، خصوصاً بالتكامل والتفاعل وليس بالمنافسة والتفاضل، لاسيّما إذا اتّسمت بمودّة واحترام وعلاقة عائلية مديدة، وكم ظلّت والدتي نجاة شعبان تتذكّر حين عاشت بالشام لبضعة أشهر قبل أن استقدمها إلى لندن، عدد المرّات التي اتصل بها ليسأل عن أحوالها وأحوال من معها (أختي سميرة وزوجها وأولادها) والمرّات التي زارهم فيها وصندوق التفاح الذي حمله إليهم في حي المزّة – الشيخ سعد حيث بقي المنزل بعهدتي لأكثر من 17 عاماً حتى بعد مغادرتي دمشق لسنوات عديدة.
قال لي جبور مرّة في أواخر الثمانينات ليس بالضرورة أن ننجح أنا وأنت، فأنا حاولت أن أبث فكري من خلال الدولة ومؤسساتها وأنت حاولت أن تضخ فكرك من خارجها وفي نقدها، وإنْ كانت الدولة صماء أحياناً، وكان جوابي إن كل شيء يحصل بالتراكم حتى وإن كان ببطء شديد وغير منظور غالباً، لكن التأثير والتغيير يحتاج إلى تنوير دائم وتواصل وتدرّج وزمن وهو ما أصبحت أميل إليه أكثر من السابق .
II
صورة المفكر
جورج جبور ليس مفكراً متعالياً يجلس في برج عاجي حتى وإن كان في أعلى المواقع، بل هو مفكر حركي ربط الفكرة بالممارسة (البراكسيس) والغاية بالوسيلة فلا غاية شريفة دون وسيلة شريفة ولا غاية نبيلة وعادلة بوسائل خسيسة وظالمة ، لأن الوسيلة جزء من الغاية، وإذا كانت الوسائل ملموسة ومنظورة ، فالغايات بعيدة ومتخيّلة أحياناً، لذلك اقتضى مثل هذا التلازم بين الغاية والوسيلة ، وحسب المهاتما غاندي ، فالوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة لا يمكن الفصل بينهما، لأنهما يرتبطان بوثاق عضوي يصعب فكّه أو تقطيعه.
وجورج جبور مفكر رؤيوي واستشرافي وهو ما لمسته خلال علاقتنا التي تمتد إلى نحو أربعة عقود من الزمان، خصوصاً خلال عملنا في إطار منظمة حقوقية لثلاث سنوات ومن حضورنا ومشاركتنا في ندوات ومؤتمرات وورش عمل في الشام وبيروت والقاهرة وعمان والخليج وفينا وطهران وديربن (جنوب أفريقيا) وغيرها، وكذلك ما تابعته لكل ما كتبه خلال هذه الفترة، ناهيك عن مطارحاتنا المستمرة المباشرة والكتابية ، وهو ما عبّرت عنه في أكثر من مناسبة ونص مثلما ساهم هو الآخر في الكتابة عني بمناسبة تكريمي في القاهرة ونيلي جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي ( العام 2003) حين وصفني ” بالصادق الأمين” وفي تكريمي بتونس قال جورج جبور : شعبان: اسم مشرّف في سوريا (2016).
وسأترك موضوع المبادرة المشتركة بُعيد الأزمة السورية ووجهها الآخر ما تبنّاه مركز دراسات الوحدة العربية إلى مناسبة أخرى، حيث يطول الحديث فيها.
III
القرار 3379
كنّا المبادرين إلى تأسيس ” اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379″ وقد اختير ” رئيساً” لها وتم اختياري “أميناً عاماً” للجنة، والحديث عن القرار هو حديث ذو شجون ، وهو القرار الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية وكان قد صدر في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وكان نصراً عربياً كبيراً بلا أدنى شك على المستوى الدبلوماسي والقانوني والحقوقي والدولي، فضلاً عن المستوى السياسي والإعلامي ، لكن العرب الذين حصلوا عليه بلا جهد كبير ظلّوا يقدّمون خطوة ويؤخرون أخرى حتى حصل المحذور.
لقد عدّ المراقبون والدبلوماسيون والمحللون السياسيون الكبار على المستوى العالمي القرار ضربة موجعة للصهيونية العقيدة السياسية لإسرائيل والتي تشكّك بشرعية وجودها القانوني والأخلاقي ، وحين استفاقت الحركة الصهيونية من هول تلك الصدمة التي ترافقت مع طائفة من القرارات لصالح الشعب العربي الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره ودعماً لممثله الوحيد والشرعي منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت .ف) ، حرّكت ماكنتها الإعلامية والسياسية والمالية والفنية والدبلوماسية لتنظيم حملة مضادة لإلغاء القرار والتشكيك بمحتواه.
وشملت الحملة الصهيونية كورت فالدهايم الأمين العام للأمم المتحدة وقتها، خصوصاً حين ترشيحه لرئاسة النمسا في العام 1986،وعلى الرغم من شراسة الحملة ضدّه بزعم ماضيه النازي (لخدمته العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية)، لكنه فاز في الانتخابات ليمكث في كرسي الرئاسة لغاية العام 1992؛ وكان قد وقّع على إلغاء قرار الأمم المتحدة 3379 نحو 800 شخصية سياسية بينهم رؤساء دول سابقين ووزراء وشخصيات عامة وثقافية وفنية وإعلامية ومالية وكان هذا في العام 1986.
وفي العام ذاته دعانا اتحاد الصحافيين والكتاب الفلسطينيين الذي منحني عضوية شرف لعملي المتواصل لدعم القضية الفلسطينية إلى ندوة حول “الوجود العسكري الإمبريالي في الشرق الأوسط” انعقدت في مقر اتحاد الكتاب العرب (بالمزّة)، وقدّم كل من موقعه اقتراحاً بتشكيل هيأة للدفاع عن القرار، وكنت قد نشرت نص القرار في كتابي “الصهيونية المعاصرة والقانون الدولي” ، دار الجليل، دمشق، 1984، وبعد بضعة أيام التقينا جورج جبور وكاتب السطور لنضع اللمسات الأولى على انبثاق هذه اللجنة التي ضمّت شخصيات مرموقة دعوناها للاجتماع بينها: انعام رعد (لبنان) وناجي علوش (فلسطين) وسعيد سيف (عبد الرحمن النعيمي) (البحرين) وسعدالله مزرعاني (لبنان) وعبد الفتاح ادريس وغطاس أبو عيطه وعبد الهادي النشاش وصابر محي الدين وغازي حسين (فلسطين)، إضافة إلى جورج جبور (الرئيس – سوريا) وعبد الحسين شعبان (الأمين العام- العراق) وأجرت اللجنة اتصالات مصرية وأردنية ومغاربية وخليجية لتوسيع شبكتها مع مراعاة القوانين والأنظمة النافذة في كل بلد.
وفي حينها التقينا عدداً من القيادات الفلسطينية والعربية والسورية واستقبلنا نائب أمين سر القطر لحزب البعث عبدالله الأحمر، كما كان لي شرف مخاطبة الرئيس السوري حافظ الأسد، والطلب منه الإيعاز إلى الوفد السوري لتبنّي مشروع قرار يصدر عن المؤتمر الإسلامي المنعقد في الكويت (1987) والقاضي بإدانة الصهيونية واعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري وقد صدر فعلاً عن المؤتمر وبالنص المقترح من طرفنا، وذلك توافقاً مع القرار 3379 واعتراضاً على الحملة الصهيونية لإعدامه، وهو ما جرى بالفعل في 16 كانون الثاني (يناير) 1991، وذلك بعد تغييرات حصلت في ميزان القوى الدولي وانحلال الكتلة الاشتراكية وتصدّع الحد الأدنى من التضامن العربي بسبب غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990.
وقد استمرت اللجنة في عملها وتغيّر اسمها إلى ” اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية” برئاسة إنعام رعد ، لكن الأوضاع العربية والدولية أضعفت من نشاطاتها، الأمر الذي جرت محاولات عديدة لإعادة الحياة إليها بصيغتها القديمة أو بصيغ جديدة كان من دعاتها إضافة إلى جورج جبور وكاتب السطور، أحمد بهاء الدين شعبان وحلمي شعراوي من مصر وعدد من الشخصيات في الأردن ولبنان والخليج والمغرب العربي، وهو ما تزداد الحاجة إليه اليوم أكثر من السابق بسبب المشاريع الامبريالية المشبوهة، ابتداءً من صفقة القرن وتمهيداتها سايكس – بيكو جديدة ومروراً بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإهداء الإدارة الأمريكية الجولان السوري إلى «إسرائيل» بزعم الأمر الواقع ، إضافة إلى محاولة «إسرائيل» إعادة احتلال الضفة الغربية ووضع اليد على غور الأردن وشمال البحر الميت، ناهيك عن حصار غزة المستمر منذ العام 2007 والعدوان المتكرر عليها.
جدير بالذكر أن المؤتمر القومي العربي اتخذ قراراً في حزيران (يونيو) 2018 (الدورة 29) يدعو فيه لإحياء قرار الأمم المتحدة 3379 اعتماداً على أن قانون الهويّة اليهودية لـ “إسرائيل” الذي اتخذه الكنيست بما يكسب محاولة الإحياء أهمية جديدة للوقوف ضد نظام الأبرتايد.
VI
فاروق الشرع وبثينة شعبان
لقد اعتبرنا جورج جبور وكاتب السطور أن قضية القرار 3379 تشكل ركناً مهماً من أركان مكافحة الصهيونية ، باعتبارها عقيدة رجعية وعنصرية بالمطلق، والأمر لا علاقة له بالموقف من اليهود واليهودية ، علماً بأننا كنّا نشدّد أن الصراع مع الصهيونية لا علاقة له بالدين والأديان، وإنما هو صراع ضد آيديولوجية الاستيطان واغتصاب الأراضي وتشريد الشعب الفلسطيني وإجلائه من دياره، والصهيونية فكرة سياسية بالأساس حتى وإن حاولت الاستناد إلى خلفية لاهوتية ، لكن الصراع معها ينبغي أن يكون على أساس سياسي وقانوني وحقوقي أولاً وقبل كل شيء.
ولم يوفّر جورج جبور مناسبة إلّا وجاء بها على هذا القرار وحتى حين قرّض كتابيْ فاروق الشرع (نائب رئيس الجمهورية العربية السورية الأسبق ووزير الخارجية الأسبق وكتاب الدكتورة بثينة شعبان (المترجم عن الإنكليزية ) الوزيرة السابقة والمستشارة الحالية للرئيس بشار الأسد) وهما كتابان مهمان اقتنص الفرصة ليتحدّث عن القرار 3379 (المستقبل العربي ، العدد 439، سبتمبر ،2015) مشيراً إلى أنه ورد ذكره مرتين في كتاب الشرع، وخصوصاً حين تبدّل موقف الاتحاد السوفييتي من تأييد قرار الأمم المتحدة إلى تأييد إلغائه (ص 150) حيث تبين كما يذكر الشرع أن الضغوط الأمريكية “الإسرائيلية” لا تقف عند حدود المهاجرين السوفييت، بل تتجاوزها إلى حدود الضغط لإلغاء القرار 3379.
أما كتاب بثينة شعبان فيرد ذكر القرار بالنص والعنوان مرّة واحدة (خلال زيارة الرئيس حافظ الأسد في 13 آذار/مارس1991) ولقائه مع بيكر وتلميح الأخير إلى إجراءات بناء الثقة بإشارته إلى “إلغاء” القرار 3379، لكن ذلك لم يحرز أي تقدم (ص 46)، ولكن ما ورد ما يشير إلى القرار دون ذكر اسمه أكثر من مرّة في كتاب شعبان ، باعتباره قرار الأمم المتحدة الذي دمغ الصهيونية بالعنصرية واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.
V
يسيل من قلمه عطر العروبة
قد يستغرب القارئ حين يقرأ في كتاب جبور مذكرات موجهة منه إلى رئيس الوزراء ومن رئيس الوزراء إليه مخاطبات رسمية مختلفة وهي تمثّل جزءًا من عمله لوظيفي والإداري، بعد نقله من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الوزراء، ولكن ما إن يتوغّل في قراءة النصوص سيكتشف أن المذكرات ذات قيمة ليست لصاحبها فحسب كجزء من تاريخه الشخصي، بل لأنها تخص الحياة العامة والمواقف الرسمية للدولة منها، وهي مكتوبة بقلم مثقف يسيل من حبره عطر العروبة ورؤية مفكر مدني وسلمي ومجتهد وحقوقي مؤمن بقيم التسامح والحوار والتواصل الحضاري، دون إهمال الجوانب القانونية والأكاديمية بنظر الاعتبار ، إضافة إلى التزامه الوطني في متابعة القضايا صغيرها وكبيرها لوضعها أمام أصحاب القرار،
أولاً بهدف تجسير الفجوة بينهم وبين المفكرين والباحثين؛
وثانياً رفع مسؤولية المثقف والباحث والمفكر ، لاسيّما حين يحتل موقعاً إدارياً في الدولة ليعبّر عن رجحان نظره ويقدّم المقترحات ويبسط أفكاره ليختار منها صاحب القرار أو على الأقل ليستأنس بها، سواء أخذ بها أم لم يأخذ، ومن هو أجدر من جورج جبور بذلك،
وثالثاً ما تعكسه المذكرات من صدقية وتوثيق وحرارة قلب وبرودة عقل أيضاً، وبهذا المعنى فهي مذكرات تاريخية ، ينبغي أن تُقرأ بسياقها التاريخي وأن تؤخذ منها العبرة والدلالة والفائدة.
ورابعا حرص المثقف على أن يتمتع بقدر من الاستقلالية حين يعكس وجهات نظره لصاحب القرار، وقد يرضى عليه أو يغضب، لكنه بكل الأحوال يريد أن يمارس دوره ويتمتع بحقه وعليه أن يختار ما هو مناسب من لغة المخاطبة ليس باستخدام لغة التفوق والأستاذية، مثلما ليس باستخدام لغة الخنوع والتملّق، بل باحترام الحدود والنظر إلى الموقع والتراتب بمسؤولية.
المذكرات توثيق دقيق ليس لما قام به جورج جبور فحسب، بل للدولة السورية بأعلى مستوياتها وأرفع مراتبها الإدارية، ناهيك عن المخاطبات مع جهات ومنظمات وهيئات دولية، كلّها يعرضها جبور أمام صاحب القرار ويقدّم معها رؤيته، وهي تصلح أن تدرّس في المعاهد الإدارية والسياسية لعلاقة الموظف بمرؤوسيه ، لاسيّما الاحتفاظ بقدر من الاستقلالية والاجتهاد من جهة، وبقدر من المسؤولية والانضباط من جهة أخرى.
وحين نقرأ النصوص التي مضى على بعضها ثلاث عقود من الزمان نلاحظ كم كان جبور مكافحاً ومنافحاً يحاول أن يجد فرصة لخدمة بلده والأمة العربية من خلال عمله الوظيفي والإداري الذي يطعمه دائماً بفكره التنويري الحداثي المتطوّر.
موضوع أساسي آخر شغل جبور في مذكراته الإدارية وهو موضوع فكري بالأساس حين ربط قضية فلسطين بحقوق الإنسان، ولاسيّما حين يسلط الضوء على جهوده وجهود نخبة متميّزة ومشتركة بموضوع القرار 3379.
ماري روبنسون وديربن
وأتذكر يوم حضرنا إلى مؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا) العام 2001، كان جبور قد حضر ضمن الوفد العربي السوري الرسمي برئاسة فاروق الشرع، وكنت قد حضرت ضمن وفد عربي للمجتمع المدني حيث كنت عضواً في اللجنة التحضيرية له، وشاركت في مؤتمر عمان الأول الذي اقترحت فيه “وضع عنصرية الصهيونية” ضمن جدول الأعمال والقرار 3379، وهو ما دعانا لإقناع طهران بقبول اجتماع تحضره المنظمات غير الحكومية لكي لا تُدعى إليه «إسرائيل» ، وإلّا فإن المؤتمر سينعقد في النيبال وحينها ستكون «إسرائيل» حاضرة، وكان سبب تحفظ طهران خشيتها من استغلال بعض المعارضين ، فضلاً عن ظهور النساء بما يخالف القوانين والأنظمة المتبعة بما فيها الحجاب .
وكان لي شرف إلقاء كلمة المنطقة العربية باسم 13 منظمة عربية، بينها اتحاد المحامين العرب ومنظمة التضامن الأفرو آسيوي، أشرت فيها إلى قضيتين عنصريتين تشغلان عالمنا العربي: عنصرية الصهيونية وقرار الأمم المتحدة 3379 الذي أُلغي، والحصار الدولي الجائر المفروض على العراق (حسبما يسمح الوقت/ 5 دقائق وكان قد تحدث في الجلسة ذاتها مندوب كل من الصين واليابان والهند وجنوب شرقي آسيا، إضافة إلى كلمتنا) ونجحنا في أن يصدر مؤتمر طهران قراراً لـ إدانة للصهيونية باعتبارها “شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”.
جدير بالذكر أن الأمم المتحدة رفضت في البداية عقد اجتماع عربي واقترحت أن يحضر عرب آسيا في الاجتماعات الآسيوية وعرب أفريقيا في الاجتماعات الأفريقية ، لكننا نجحنا وبضغوط عديدة بإقناع السيّدة ماري روبنسون رئيسة إيرلندا السابقة ومفوضية حقوق الإنسان حينها على تخصيص اجتماع عربي بتمويل محدود لكي تطرح عنصرية الصهيونية.
مع أوجار
ونسقنا جورج جبور ومحمد أوجار وزير حقوق الإنسان المغربي والعدل لاحقاً عن الجانب الرسمي وأنا ومجموعة المنظمات غير الحكومية عن المجتمع المدني، حيث كنّا قد صغنا قراراً يتضمن إدانة «إسرائيل» ودمغ ممارساتها بالعنصرية والتمييز العنصري، وأيدته ثلاثة آلاف منظمة غير حكومية وبدعم خاص من جنوب أفريقيا دولة ومجتمعاً مدنياً، الأمر الذي كان هزيمة حقيقية للصهيونية، ولقي ذلك ترحيب عمر موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية، إضافة إلى الوفود العربية الرسمية، وسط صدمة وسخط الولايات المتحدة و«إسرائيل» وبعض المتواطئين معها بمن فيهم إحدى موظفات الأمم المتحدة الكبار، التي اكتشفنا وجود شقيقتها مع الوفد الإسرائيلي، وهو موضوع سأتناوله في وقت لاحق. وكنت قد كتبت مقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 272، تشرين الأول /اكتوبر/2001 الموسومة ” مؤتمر ديربن – نصف انتصار أو نصف هزيمة؟” وألقيت حينها محاضرات حول الموضوع في دمشق وصنعاء والمنامة والقاهرة، واستقبلني جورج حبش حينها ونايف حواتمة، وقدّما شكرهما من خلالي إلى المجتمع المدني العربي لما تحقق في ديربن.
مبادرات لا تنضب
أستطيع القول بثقة ودون مجاملة لصديقي جورج جبور:
لم أجد شخصاً في موقع المسؤولية مثل جورج جبور انشغل بالقضايا العامة ليس كإداري فحسب، بل لشعوره بواجبه الفكري ومن موقعه خاطب رؤساء دول ووزراء وسفراء ومنظمات دولية وهيئات دينية فيما يتعلق بالقضايا العربية منها: مخاطبته للبابا الذي لم يأتِ الجولان في خطابه مقترحاً جهداً دبلوماسياً سورياً مع قداسته بهذا الشأن (5/2/1990)واقترح جبور أن تمنح جامعة دمشق شهادة الدكتوراه الفخرية لكل من:
1- عبد السلام الباكستاني (الحائز على جائزة نوبل)
2- نيلسون مانديلا بطل شعب جنوب أفريقيا والعالم في مناهضة الفصل العنصري.
3- موشاكوجي الياباني (رئيس جامعة الأمم المتحدة والرئيس السابق لجمعية علماء السياسة) (24/2/1990)
ونبّه لخطر الهجرة اليهودية إلى فلسطين ولا قانونية قانون العودة “الإسرائيلي” 27/3/1990، وطلب الحصول على أسماء الدول التي ستغيّر تصويتها إزاء القرار 3379 من الموافقة إلى المعارضة 1/4/1990، وهو ما كنت قد كتبت فيه رسالة إلى الأخ أبو عمار (ياسر عرفات) (عبر السفير الفلسطيني سميح عبد الفتاح – أبو هشام) وتلقيت رداً منه، وكنت قد نشرت مقالة في مجلة شؤون فلسطينية التي تصدر في قبرص بعنوان: العام 1990 ومصير القرار 3379.
وكان جورج جبور قد أرسل رسالة باسمه يوم 14/4/1990 يهنئ فيها الشاذلي القليبي الأمين العام لجامعة الدول العربية على إبلاغ سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي 11/4/1990 عدم جواز إلغاء القرار طالما أن الأسباب التي دعت إلى صدوره ما تزال باقية، علماً بأن نحو 20 برلماناً أوروبياً اتخذ قراراً بإلغاء القرار 3379، وكان برلمان باناما قد أعلن أن القرار 3379 يناقض ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (مذكرة بتاريخ 18/3/1991).
الكونت برنادوت
ومن اقتراحاته اعتبار يوم 17 أيلول (سبتمبر) يوماً عالمياً لإدانة الإرهاب الدولي ، وهو اليوم الذي اغتيل فيه الكونت فولك برنادوت الوسيط الدولي بشأن فلسطين وهو شخصية سويدية تم اغتيالها في 17/9/1948.
وكان قد قدّم مقترحاً جدّده لاحقاً وطوّره من وضع مقرر خاص بالاستعمار الاستيطاني إلى مؤسسة متخصصة للدراسة المقارنة للاستعمار الاستيطاني (25/2/1992)، وكان قد اقترح إنشاء هيئة معنية بحقوق الإنسان في سوريا عشية مؤتمر فيينا الدولي لحقوق الإنسان (حزيران/يونيو/1993) ، علماً بأن الدولة السورية رشحته في العام 1987 لشغل منصب مدير حقوق الإنسان في اليونسكو. وينبه لاحتمال إقامة الفاتيكان علاقات مع إسرائيل (27/11/1993).
حلف الفضول
ومن المواضيع التي انشغل بها د. جبور وشاطرته جزء من هذا الانشغال ” حلف الفضول” وكتبت عنه في جريدة الحياة اللندنية ، كما خصصت له مبحثاً خاصاً في كتابي ” الإسلام وحقوق الإنسان” العام 2001 و”فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي: الثقافة والدولة العام 2005″ وأشدت بمبادرة جبور ورياديته ويذكر جبور في مذكرة 17/7/1996 أنه قابل العديد من المعنيين بقضايا حقوق الإنسان لإقناعهم بالاحتفال بذكرى حلف الفضول لمرور 1400 عام عليه، وقد أرسل رسالة ووصله جوابها إلى د. عدنان بدران (مدير عام اليونسكو بالوكالة). وقد استعاد جبور بعض ذكرياته واتصالاته المبكّرة مع سيرجيو ديميلو منذ العام 2002 ومراسلاته بشأن حلف الفضول ، وكان ديميلو قد عيّن ممثلاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة في العراق بعد الاحتلال، ولكنه قتل في تفجير إرهابي في 19 آب /أغسطس/2003.
وقدم جبور كما تشير المذكرات اقتراحين بمناسبة زيارة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية إلى المنطقة ، الأول- استذكار مؤتمر بال (مرور 100 عام عليه) والثاني الإعداد لندوة دولية حول الإرهاب الدولي لمناسبة مرور 50 عاماً على اغتيال برنادوت) وتاريخ المذكرة 9/8/1997.
وفي الصفحات من 237 ولغاية 256 يكتب نصاً عن الذكريات والمذكرات وهي خلاصة عمله في مجلس الوزراء لنحو عشرة أعوام، فيتحدث عن فكرة كتابه بالإنجليزية الذي تناول فيه فكرة الاستعمار الاستيطاني لما كان يجري في روسيا الجنوبية ونظام الأبرتايد في جنوب أفريقيا، وربما كان هذا الكتاب هو الذي أوصله إلى القصر الجمهوري، وصدر الكتاب عن مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت وجامعة الخرطوم (1970)، ويقول أن الرئيس حافظ الأسد طلب تلخيصاً لكتابه هذا، وقد كان قد تقرر إصداره من “مؤسسة دراسات الاستعمار الإستيطاني المقارن في العالم” وكرّر المقترح في أواسط العام 2019 إلى الرئيس د. بشار الأسد.
ومثل متابعته لموضوع الاستعمار الاستيطاني كانت حماسته للقرار 3379 وللجمعية العربية للعلوم السياسية التي كان رئيساً للجنتها التحضيرية في الثمانينات ولحلف الفضول والاعتذار عن وعد بلفور من جانب بريطانيا ولتأسيس مؤسسة لدراسات الوحدة العربية، وذلك قبل قيام مركز دراسات الوحدة العربية.
دراسات الوحدة العربية
وكان قد صدر قرار برقم 38 من الرئيس حافظ الأسد بهذا الخصوص في 12/4/1973 ويضع هذا القرار على صفحة الغلاف الأخيرة والقاضي بمهمة دراسة إمكانية إنشاء ” مركز بحوث ودراسات عربية لتوضيح وتعميق فكرة الوحدة العربية” وربطه بوزارة التعليم العالم أو جامعة دمشق وقد ورد في القرار اسم جورج جبور منفرداً في حين ضمت اللجنة رئيس مكتب الدراسات والثقافة والإعداد في القيادة القومية ووزير التعليم العالم ووزير التربية. وحين أسس د. خير الدين حسيب ” مركز دراسات الوحدة العربية” مع نخبة متميّزة من المنشغلين بالقضايا العربية العامة، كان جورج جبور أول من دعم الفكرة وتعاون مع المركز ورفع مذكرات إيجابية عنه إلى الجهات المسؤولة.
مع الرئيس حافظ الأسد
وقبل أن أختتم هذه المطالعة أود أن ألفت الانتباه إلى مسألة مهمة وهي ما تضمنه خطاب الرئيس حافظ الأسد في مؤتمر قمة دول عدم الانحياز في الجزائر (أيلول /سبتمبر/ 1973) من إشارة إلى رسالة ثيودور هيرتزل الأب الروحي للحركة الصهيونية إلى سيسيل رودس أعتى الاستعماريين الذين عانت منه أفريقيا، والتي يقول فيها أنه يود أن يقوم في فلسطين ما قام به رودس بالذات في أفريقيا، وكانت تلك الاستعارة كما يقول جبور قد أشعرته بالوحدة الفكرية مع الرئيس، حيث أتاحت له عملية إعداد الخطاب ليس التعرّف بشكل أفضل على الرئيس من خلال جلستين مسائيتين ليومين متتاليين دامتا 12 ساعة ، وإنما المناقشة المطولة معه حول إسرائيل باعتبارها روديسيا الآسيوية. وقد أثارت هذه الإشارة ضجة في المؤتمر لاسيّما من جانب قادة أفريقيا باتجاه تغيير النظر إلى دور ” إسرائيل” . (ص 246)
وخلاصة ما يدوّنه جبور طموح يستند إلى عودة سوريا لمكانتها وتجاوز المرحلة الصعبة وذلك بالدفاع عن فلسطين وعن الوحدة العربية، فالعرب أبناء اللغة الواحدة يمكن أن يكونوا معاً بما يضمن لهم مصالحهم المشتركة (ص 255).