يُطل علينا اليوم العالمي للعنف ضد النساء والمرأة لا تزال ترزح تحت وطأة مجموعة من الضغوط التي تمارس في حقها، من تعنيف نفسي ولفظي وجسدي أو اقتصادي. إذ لا يخفى على أحد أن للعنف تجليات مختلفة. بعضها مقصود. والبعض الآخر قد يكون دون قصد، وذلك نتيجة طبيعية لقوانين غير مفَعَّلة أو إهمال غير مقصود أو حقوق مهضومة.
فدوافع العنف ضد المرأة متعددة، لكن يُمكن تلخيصها فيما يلي: دوافع اجتماعية ترتبط بالأعراف والتقاليد، وما يترتب عنها من حرمان للمرأة من حقها المشروع في التعليم والعمل خارج المنزل أو تجريدها من الحقوق المشرعة دينيا ودوليا. وقد تكون هناك دوافع نفسية متمثلة في تعرض المرأة في مسيرتها الحياتية لشتى أنواع الإذلال مثل الإهانة اللفظية والضرب والتحرش والاغتصاب. هذا إلى جانب الدوافع الاقتصادية وهي الأشد ضراوة في عصرنا الحالي نتيجة صعوبة الحياة وغلاء المعيشة وطغيان الفكر الاستهلاكي سواء في المجتمعات الغربية أو العربية.
إن المتتبع للمسار النضالي الذي سلكته المرأة في سبيل تحريرها يلاحظ أن ما من شيء كان على المرأة شرا ووبالا مثل مطالبتها بالمساواة بالرجل، لاسيما في دول العالم الثالث. وتفاديا لأي سوء تفاهم محتمل فإن المشكلة ليست في فكرة المساواة في حد ذاتها، فهذا حق مشروع تأخر كثيرا النداء به، والدفاع عنه بعد قرون طوال عاشت فيها المرأة المسكينة مضطهدة، مهضومة الحقوق، مسلوبة الإرادة، مكسورة الجناح، خاضعة في حركاتها وسكناتها لسلطة الرجل، الأب، والأخ، والزوج، وحتى الابن، محرومة من كل شيء لا تعرف من الدنيا إلا ما يُسمح لها به، لا يتعدى دورها في أحسن الأحوال، إذا كانت متزوجة، الإنجاب، وتكثير النسل. وقد كان تحركها في الوسط الحضري، محدودا جدا لا يخرج عن دائرة الانتقال من بيت والدها إلى عش الزوجية ثم زيارتها في مرات نادرة لأهلها، وخروجها في الأخير من الدار الدنيا إلى الدار الآخرة.
وكانت هذه الوضعية الدونية للمرأة مقبولة ومستساغة في حينها وكأنها قدر مكتوب لا مهرب منه. لكن مع توالي الأيام، وتعاقب حركات النضال من أجل تحررها من ربقة الجهل والأمية والأفكار الرجعية التي لا سند لها سوى في الفكر الذكوري الذي استلذ أساليب هذه الهيمنة، واستطاب العيش في رغدها، استطاعت المرأة، بالرغم من ذلك، أن تسترد جزءا من حقوقها المستلبة، وأن تلج مناصب كانت حتى عهد قريب حكرا على الرجل. وقد أثبتت جدارتها في مختلف المسؤوليات التي أسندت إليها، وأبانت عن كفاءة عالية في التسيير والتدبير والابتكار. لهذا سيكون من السخف والغباء أن يُشكك أحد الآن في مشروعية هذا الحق، وأن يبحث عن تعليلات، كيفما كان نوعها أو مصدرها، للتصدي له أو مقاومته بخطاب لم يعد يقنع أحدا بمن فيهم أولئك الذين لا يتوانون في الترويج له عبر مختلف وسائل الإعلام. وسيكون اليوم، من غير المجدي، الرجوع إلى الخلف، والعودة للعيش في كنف الماضي.
ما أود إثارة الانتباه إليه هو أن فكرة مساواة المرأة بالرجل خاصة في السياق العربي الإسلامي، وتحديدا في المجتمعات التي قطعت أشواطا في التمدن، وليس في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، جعلت المرأة، ولاسيما الأم العاملة، تتعرض لنوع من العنف غير المقصود. إذ نجدها تؤدي وظائف متعددة ومتنوعة تستنزف طاقتها، وتهدر مجهودها، وتجردها من إنسانيتها لـتصبح أشبه بالآلة الصماء التي لا حق في الراحة ولا حظ لها في الاستمتاع.
إن تحقيقها لأول هدف في حياتها ألا وهو ولوجها سوق الشغل أسوة بأخيها الرجل سيدفعنا لعقد مقارنة بسيطة بينهما. فكلاهما يشغل نفس المنصب، ويتقاضى نفس الأجر، ويقدم نفس الخدمات وبنفس الكفاءة، غير أن الفرق الكبير بينهما، والذي تتسع هوته يوما بعد يوم، يتمثل في أنها مطالبة إلى جانب ذلك أن تقوم بمجموعة من الوظائف الأخرى التي لا حصر لها من رعاية للأطفال، وتدريسهم، وتطبيبهم، وتغذيتهم، ومرافقتهم للمدارس، والسهر على راحتهم، إلى جانب تحضير الوجبات الغذائية، والاهتمام بنظافة البيت من كنس وغسل وتزيين، ثم التسوق . في حين يُعفى الرجل من كل هذه الأعباء الثقيلة. فقد استقر في ذهنه، بفعل التربية الذكورية، أن هذه المهام هي من صميم اختصاصها، ومجبرة على أدائها، فليس غريبا، والحالة هذه، أن نجد المقاهي، على كثرتها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، تعج في كل الأوقات بالرجال. ولو حاولنا أن نتتبع ونرصد عن بعد يوميات أم عاملة فسنجدها تنسل من فراشها في الساعات الأولى من الصباح الباكر من أجل تحضير وجبة الفطور ووجبة الغذاء وإعداد أكلات خفيفة للأطفال، وتعمل على إيقاظ كل من في البيت بعد أن تكون قد أعدت لكل واحد منهم مستلزماته من الملابس النظيفة والتي عملت قبل ذلك على كيها بعناية فائقة. وإذا كانت تجيد القيادة فهي ملزمة بنقل الأبناء إلى المدارس ذهابا وإيابا لتلتحق في نهاية الجولة الصباحية، وهي في كامل زينتها وأناقتها، بمقر عملها.
وفي المساء، وبعد يوم حافل بالتعب جراء ساعات العمل الطويلة، تعود أدراجها محملة بأكياس التسوق الثقيلة لتهيئ ما تشتهيه فلذات الأكباد والزوج، لأنها أدرى من الرجل في أمور الشراء، وشؤون المساومة. وبعد رحلة ماراثونية في المطبخ، تنزع وزرة الخادمة لتتقمص دور الأستاذة الحازمة، وسيكون ليلها عصيبا إذا ما ألم مرض بأحد أفراد أسرتها الصغيرة، فتُصبح في رمشه عين ممرضة وملاكا للرحمة تُوزع الحنان دون حساب. وإذا ما قدر الله، وأقعدها المرض يوما ما فإن الحياة تتوقف تماما في البيت، وتعم الفوضى، ويختلط الحابل بالنابل، فلا تجد بدا من الاتكاء على عصا الصبر، والمجاهدة، والنهوض، والتظاهر بالشفاء حتى لا تنفرط حبات عقدها الفريد التي نسجتها مع رفيق دربها لسنوات خلت، والتي قدمت خلالها ولازالت تقدم فروض الولاء والطاعة، فهي في الأول وفي الأخير أنثى ستتهاطل عليها اللعنات مدرارا، إذا ما دعاها بعلها إلى الفراش ولم تستجب، متناسين أنها بلغت أقصى درجات التعب.
إن الخلل في هذه الوضعية غير السليمة لا يكمن، كما أشرنا إلى ذلك، في فكرة المساواة أو حقوق المرأة، فهي براء من هذه التهمة. فأصل الداء خارجي له علاقة مباشرة بما حققته هذه الدولة أو تلك من تقدم حقيقي على مستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وله ارتباط وثيق بالعقلية الذكورية المتجذرة عند بعض الرجال التي لا تعارض خروج المرأة للعمل. لكن تُقيد هذا الحق بضرورة التزامها بكل الواجبات المنزلية والمسؤوليات الأسرية والالتزامات المادية المتفق عليها سابقا. فيما يتنصل هذا الصنف من الرجال من هذه الأعباء كلها. ومن هنا فإن مؤسسة الزواج، وهي مؤسسة مقدسة، لم تعد قائمة على الرحمة والمودة والتعاون، ولكن على تنزيل القوانين والشروط التي لوت عنق المرأة، وطوقتها بالمهام العسيرة فخنقتها، وصارت حياتها قطعة من الجحيم. هو جحيم حقيقي لا تشعر به إلا أختها في الجنس. كان الله في عون امرأة لا يُقدر المجتمع تضحياتها، ويبالغ أكثر من ذلك في تبخيس الجهود التي تبذلها لخدمة الأسرة والمجتمع في نفس الآن.