مصطلحات ومفاهيم بديلة ، منظمات المجتمع المدني مثالاً
صباح علي الشاهر
أهو مجرد تطور طبيعي أم أمر خطط له على نار هادئه ، واستغرق إنضاجه عقودأ؟..
فيما مضى كان الواقع الشاخص، غير المزيف ولا المؤول، ومتطلبات الناس الواقعية، ومعاناتهم الملموسة، هي المبررات التي أوجبت إنبثاق تنظيمات تنتظم شرائح من الناس، تتوحد من أجل تحقيق هدف أو جملة أهداف، أو للدفاع عن حقوق ومصالح شرائح معينة من المجتمع . كانت الضرورة الموضوعية وما تزال هي من تستوجب إنبثاق مثل هذه المنظمات، التي لم يكن إنبثاقها نتيجة رغبة إرادوية، سواء لفرد أو مجموعة من الأفراد، وحتى لأحزاب، وأي منظمة تفبرك، وتخلق لأي غرض، فإنها تزول بزوال هذا الغرض، وأي تشكيلات خارج إشتراط الضرورة الموضوعية لا يكتب لها الدوام والإستمرارية مهما كان الدعم الذي تحصل عليه، من سلطة، أو حزب، أو مجموعة متنفذة ، إذ تضمحل بزوال هذه السلطة، أو ضمور هذا الحزب، وتصبح نسياً منسيا .
تتغير السلطات و تتغير الأحزاب، وتظل مثل هذه التنظيمات التي هي حاجة مجتمعية ، باقية ما بقيت الحاجة إليها . الإتحادات الطلابية مثلاً، والنقابات العمالية، والمهنية كنقابة المحامين أو المعلمين، أو الأطباء، أو المهندسين، وتنظيمات الأدباء والصحفيين، والفنانيين، وجمعيات وإتحادات الفلاحين والمزارعين، والحرفيين، والقائمة تطول، ومع إزدهار هذه التظيمات تنبثق تنظيمات وجمعيات متفرعة منها، كالجمعيات الإسكانية، والتعاونيات أو الجمعيات الإستهلاكية ، والتي تقدم خدمات معتبرة، وبالغة الأهمية لمنتسبيها..
مجموع هذه القوى الحية هي التي كانت تمثل المجتمع الأهلي، وبمقدار تجذرها وقوتها، بمقدار ما تكون المعادل الأهلي الشعبي للسلطة، وهي وإن لم تكن حكومة ظل مُعترف بها، إلا إنها تمثل الكابح الذي يفرمل تغول السلطة وأجهزتها قمعية كانت، أم غير قمعية، وهي تملك وسائلها للضغط على السلطة عند اللزوم، من خلال وسائل عدة .
تمثل هذه التنظيمات والجمعيات والنقابات والإتحادات، بكل أشكالها، الرافد الثر للقيادات السياسية والكوادر في كل المجالات، والإحتياطي المجرب لكل الأحزاب والقوى السياسية ، وتشكل المجسات لكل العاملين في الحقل السياسي، أكانوا في السلطة أم المعارضة، ومن هنا فإن السياسي، وكذا المسؤول في السلطة لا يأتي من المجهول، ولا يتكوّن من عدم، وإنما ينبثق من الجماهير ومنظماتها الجماهيرية، وهو بهذا لا يحتاج لمستشار ليعرفة بإحتياجات شعبه، ولا لخبير ليهديه إلى الأصلح في مجال عمله.
واحدة من أهم ميزات هذه التنظيمات أنها تمول نفسها بنفسها، من خلال إشتراكات الأعضاء، أو إيرادات الفعاليات التي تقوم بها، لذا فهي مستقله بحق، حتى لو ألزم القانون السلطات التنفيذية بدفع مساعدات لها، فإنها لا تعتمد في إستمرارها على هذه المساعدات، وهي بالقطع لا تستلم مساعدات من الخارج، كائناً من كان هذا الخارج، وهذا بالتحديد ما جعل الخارج، وبالأخص ذاك الذي يرغب بالهيمنة والسيطرة على البلد والتحكم به، يناصب هذه التنظيمات العداء ويعمل على محاربتها و إضعاف دورها وتهميشها، بخلق بدائل هجينة مدعومة ومموله منه.
لو أضفنا لهذه التنظيمات والإتحادات التي كانت، التنظيمات الشبابية، والإتحادات النسائية، وحركات السلم والصداقة والتضامن، وجمعيات المتقاعدين عسكريين، ومدنيين، والحرفيين، والنوادي بأنواعها، بما فيها الرياضية والعائلية، نتوصل إلى حقيقة صارخة، تقول أن شعباً كهذا، وإن كانت نسبة التعليم فيه غير عالية، إلا إنه ( شعب مسيس بأمتياز) ، وعلى نحو صحيح وعملي وفعّال . كانت جميع هذه المنظمات مبررة، لها مهمة أو مهمات معروفة ومحدده، تعبر عن مصالح وحاجات شرائح إجتماعية، واقعية وليست متخيلة، أو إفتراضية، تسبح في نهرها، وبين جماهيرها، وتعتمد على نفسها، و لا إرتباط لها بالخارج، وغير مدعومة إلا من منتسبيها.
اليوم لا أحد يتساءل أين إتحاد العمال؟ أين نقابة عمال الموانيء ؟، أين نقابة عمال النفط؟، أين نقابة عمال السكك؟ لم تسمعوا بها رغم وجودها، لكنكم تسمعون في كل وسائل الإعلام عن منظمات المجتمع المدني، وهل تساءلتم أين الجمعيات الفلاحية؟ مؤكد أنكم لا تسمعون سوى شيخ العشيرة الفلاني، وتجمع عشائر الوسط، أو الجنوب، أو الغربية! لم تعودوا تسمعون باليساري، أو القومي، أو الليبرالي، أو الإشتراكي، أو الديمقراطي، أو التقدمي، أو الرجعي، لكنكم تسمعون بـ( المدني ) و(نحن المدنيون) !.
ربما سيؤدلج المؤدلجون فيما بعد معنى ومغزى ( مدني ) و ( مدنيون) ، هذا إذا لم تبدأ أقلام التسويغ بهذا، ألم تسمعوا بـ ( المدنيون ينتصرون!) ، ( المدنيون لا يقهرون!) ، ( المدنيون عشاق الحرية !) ، ( المدنيون هم الحب الأسمى !) ، والحبل على الجرار . هؤلاء الهلاميون لم يكتفوا بالتخلى عن المحتوى، بل عملوا على تميعه.
لقد قيض لنا، نحن الذين أجبرنا على مغادرة بلدنا، أن نلمس الطبخ الهاديء في الخارج ، لإنضاج تنظيمات فضائية ، تتشكل لإغراض زئبقية ، فارغة من أي معنى.
كانت الظروف بالغة القسوة، سواء في زمن الحصار أو الإحتلال أو ما بعده، وكانت الأجواء مثالية وجد مناسبة لإصطياد أولئك الذين فقدوا البوصلة، أو أولئك الذين أرهقهم الحرمان، فوجدوا أمامهم (فرص) حسبوا أن عليهم إنتهازها فكان أن فُتحت دكاكين الإرتزاق، باسم أحزاب، عضويتها تقتصر على الرجل وإمرأته أحياناً، أو باسم ما سُمي منظمات المجتمع المدني، أو تحت يافطة مراكز دراسات وأبحاث، قصد الحصول على ذهب الكويت أو الخليج، أو الحصول على دعم ماما أمريكا ، ولا يهم من أي جهة أمريكية كان هذا الدعم ، من وزارة الخارجية، أم السي آي أي، أو البنتاغون، أو حتى إسرائيل .
كانت هذه الدكاكين تتكاثر كالفطر، حتى تجاوز عددها المائة ألف منظمة مجتمع مدني عراقية، في داخل البلد وخارجه، تم إنشاؤها قبل إحتلال البلد بعشرات السنين، وإثناء إحتلاله وما بعد إحتلاله، شملت كل ما يخطر على البال وما لا يخطر، وأبرزها حقوق الإنسان والشفافية، والإعلام، والحقوق التي أسموها حقوق مدنية، و منظمات معنية بالبيئة، وإشاعة الديمقراطية، وحقوق الأقليات، والمرأة، والطفل، والحيوان، ومراقبة العنف الأسري، وقصار القامة، وذوي السحنة الداكنة، وذوي الإعاقة، ومراقبة الانتخابات، وسبر الأغوار، والإستشراف، وحماية الأقليات، ومكافحة العبودية ( إي نعم مكافحة العبودية!!) إلخ .. أنا شخصياً أعرف شخصاً هو رئيس لأربعة منظمات وهمية، عضويتها تقتصر عليه وحده.
وبعد إلإحتلال تم تأسيس شركات بريطانية أو سويدية أو المانية، ومن كل الجنسيات، باسم عراقيين، كانوا على الأغلب رؤساء المنظمات إياها، رأسمال أي شركة من هذه الشركات ليس سوى رسم التسجيل، الذي هو عشرة باونات في بريطانيا، وقد يكون رقماً مقارباً في بقية الدول الأوربية، ومن ثم هجم هؤلاء الإقتصاديون والصناعيون الافذاذ هجوم التتار على العراق، وترافق هذا الهجوم مع هجوم أولياء نعمتهم الأمريكان، الذين ساعدوهم على تدمير البلد، ونهب ثرواته، تلكم الثروات التي كانت كالرز، حسب تعبير السيسي، و التي بنوا بها عمان، ولندن، ومدن الخليج، وعواصم الدنيا بإستثناء بغداد .
ويسألونك كيف نهب العراق وضاع !!