الشاعر يحرّك النص الشعري ويمنع عنه الرتابة ، ويسعى إلى خلق تجربة شمولية في لحظة التوتر والانفعال، متوسلا في ذلك الصيغ المتباينة التي تتخطى المحدود والممل والمألوف، لتنطلق إلى فضاء أرحب له القدرة على التجلي الذي يرضي الفكر والوجدان معا . إن دخول الكلمة في علاقة مع كلمات أخرى ، يخرجها من حالة البساطة باكتسابها صفة التركيب اللازم لبناء النص الشعري ، وهذا الأمر لم يكن غائبا عن النقد العربي القديم ، فقد أرسى الناقد البلاغي (عبد القادر الجرحاني ت ٤٧١هجرية ) في كتابه : دلائل الأعجاز اسساََ يمكن الاطمئان إلى فاعليتها في تحليل النص الأدبي وكشف مراحل بنائه في (نظرية النظم ) مظهرا من خلال طبيعة التركيب في الكلام بقوله:( ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض ، والكلم ثلاث : اسم ، فعل ، حرف ، وللتعليق فيما بينها طرق معلومة ، وهو لا يعدو ثلاثة اقسام ، تعلق اسم باسم ، وتعلق اسم بفعل ، وتعلق حرف بهما …. ) . فالنظم عملية إرادية واعية ، وعند تأمّل معطياتها نرى أنها تضمن قابلية منشىء النص – الشاعر – الذي يعمد على التصرف بعناصر الكلام ، بحسب ما تقتضيه الدلالة ، انطلاقا من المبنى لتحصيل المعنى الذي ينسجم مع تعبّر عنه البلاغة العربية في علم المعاني ، إذ يمنح الشاعر فرصة الاتساع في الدلالة ، وتحقيق المعاني بما يقوم به من محاولات لتغيير التركيب واستحداث أبنية تركيبية جديدة في الكلام ، وهذا ما لمسناه عند الشاعر العراقي المعاصر الذي نجد أن بعض الظواهر الأسلوبية قد شكّلت لديه خصيصة من خصائصه التعبيرية ، فكانت : ( تجليات الاستفهام ، وترددات النداء ، وتدوين الأمر ). من أكثر الأساليب تعبيرا عن التناقض والتوتر في نفسية هذا الشاعر وهو يجس مكامن النص، محاولة منه اكتشاف طبيعة هذا النص وطرائق تكوينه والنهوض بمهمة بناء الجملة أو العبارة ، التي تشكّل علامات متميزة في السياق التركيبي . شكّل الاستفهام ملمحا أسلوبيا في الشعر العراقي المعاصر ، فهو من أكثر الأدوات التعبيرية التي ترد بشكل لافت للانتباه ، وظّفه الشاعر لتوصل رؤياه في بنية متماسكة ، بغية اقناع المتلقي بصدق انفعالاته المتولدة من التجربة الشعرية ، فالاستفهام هو طلب الفهم ، أو طلب العلم بشيء لم يكن معلوما من قبل ، إذ يستخدم الشاعر أدوات الاستفهام ك ( الهمزة ، وهل ، وكم ، ومن .وأين ، ومتى ، وايان ، وكيف …. ) وغيرها من أدوات الاستفهام الأخرى ، وبالصيغة التي تؤديه على أتم وجه ، ومن أمثلة هذا الاستفهام ورود (الهمزة ) في قصيدة الحيزبون ، للشاعر جواد الحطاب :
يدها
مضرجتان بحقد قديم
أتثار من سبي بابل .. ؟
أتحرقها أذرع الحاملين مشاعل
اهرام مصر . .. ؟
أم أن بابا لخيبر – في نفسها – لم يزل خرباََ ..
إن خصوصية تنوع الأداء في الشعر العراقي المعاصر ، كان حاضرا في مخيلة الشاعر ، مما يدل على أن الشعر أكبر من أن يتقولب في قالب دون سواه ، ذلك أن الشاعر يستدعي صورا فيها تفاصيل تجربة ساخنة يرتقي بها إلى مصاف ، التعاطف الإنساني ، كما في ترددات النداء الذي هو من الأساليب الطلبية ، التي تسهم في إماطة اللثام عن مكنونات الخطاب الشعري ، أو بعبارة أخرى ، هو توجيه الدعوة إلى المتلقي وتنبيهه للاصغاء وسماع ما يريده . ولا يبدو هذا النداء غريبا على أساليب الشعراء لانه يشكّل أحد الأعمدة التي يتكىء عليها بناء الجملة الشعرية ، ويشغل حيزا كبيرا لضرورات فنية وموضوعية ، ومن أمثلة هذا النداء وتكراره قصيدة : أدلة أخيرة ، للشاعر
عصام كاظم جري
: أيتها التوابيت
يا خيول الدرك الأول
هذه العزلة
تمضغ الأسئلة التي لا تنتهي
أبدا ،
أنت
يا مساء الأرض
على هضابك
تسير كل الوسائد
وعلى أحلامك الذابلة
يتبعثر ميدان العائلة
ولإننا … لا نعشق سوى اليأس
استولى علينا الطاعون
أيها الشرق .
وإلى جوار هذه الأشكال الفنية يأتي تدوين الأمر في النص الشعري ليشكّل صياغة تركيبية ، وقد عرّفه البلاغيون بإنه طلب حصول الفعل الفعل من المخاطب ، للكشف عن الملامح الفنية المؤثرة في تركيب العبارة أو الجملة ، إذ يشغل هذا الأسلوب مساحة واسعة في الشعر العراقي المعاصر ، فالشاعر يردده في النص ، من أجل الخلق والتحفيز وإبراز المشاعر المكتضة بالوجدانات ، وتعزيز الصورة الشعرية في بنية من التتابع ، تنم عن أسلوب تدويني يتحرك فيه التعبير المؤثر كما في قصيدة : صهيل نملة ، للشاعر
جابر محمد جابر
: أرحم ْ..
أرحمْ حزني وقلقي ، فالصندوق الذي وضعت قلبي فيه انفجر
دهسته الخيول ، أرحمْ خطوي
واستكانة ألمي ، فأنا لا أخشى
الموت ، لكن …
رحمة بكفني
لا تكثر الطعنات
فجل ما أخشاه أن ترهق يديك .
ولعل الباعث على مثل هذا الأمر الفني ، وأعني به مستويات الأداء الشعري ، ليس لمجرد التحلية الجمالية الخاصة باللغة ، إنما لضرورة داخلية ملحّة تفرض نفسها على الشاعر في موقف يراد التعبير عنه ، ويعطي فرصة للرؤية والتصور بحكم الأنشداد الذي تتداعى فيه الأفكار على نحو مستمر .