فرج ياسين
يظل الأشخاص طائفين في سديم بلا حدود ولا علامات، حتى تتخطفهم أمكنة ما فتسارع إلى إغوائهم وادعائهم ، وتظل الأمكنة فارغة حتى يقبل أشخاص من لا مكان ؛ فيرسمون فوقها ويخطون ويعزفون ويكتبون .وفي لحظة ٍ تاريخية نادرة ، يكون لقاء هؤلاء بالمكان أو لقاء المكان بهؤلاء يشبه التحام أحد نصفي كرة ذهبية بنصفه الآخر – الضائع – بعد طول عناء .
في سياق ما يغدو مثل هذا الالتحام ضرورة تكاملية ؛ إذ من دونه يظل الطرفان محبوسين خارج منظومة الصراع ، وقريبين من نقطة التلاشي .
جامعة تكريت (الشابة) في أوائل التسعينيات، استقبلت تدريسيا ً شابا ً في اختصاص الأدب العربي الحديث ونقده، إذ عيّن في كلية التربية للبنات، وباشر تدريس مادة النقد الأدبي الحديث . ومع أن الدائرة كانت ضيقة فلم يكن ثمة سوى صف واحد ٍ لا يزيد عدد طالباته على العشرين أو أقل أو أكثر بنسبة ضئيلة، إلا أن غواية الأثر الخاص بدأت بالظهور والانتشار على نحو لافت؛ لأن هذا الأكاديمي الشاب لم يدخل المكان بفرضية أنه سوف يتوافق مع السياقات المألوفة، ويسقط في حبائلها. ومع أنني لا أمتلك أية فكرة عن كيفية تدريس مادة النقد الأدبي الحديث قبل حضوره ، إلا أنني أفترض أنها كانت تدرس على نحو ينأى عن التحرش بما هو خارج المنهج المقرر سلفا ً، والمتداول بين أستاذة هذه المادة ، وهذا هو الطرح القياسي الذي يرتضيه بعض الأستاذة ، ولا يكادون يبتعدون عن مداراته .
الإشارة الأولى التي وصلتني – وكنت مدرسا ً في ثانوية تكريت المطورة – تتلخص في أن الدكتور محمد صابر عبيد المنقول حديثا ً إلى جامعة تكريت، بدأ يدرس نصوصا ً أدبية غريبة، ويعالجها معالجة ً أكثر غرابة، ولم تكن هذه النصوص سوى مختارات من قصيدة النثر، يتخيّر لها منهجية جديدة غير مألوفة إذ إنه – على سبيل المثال – قام بتحليل نص قصير جدا ً للشاعر خيري منصور يتألف من أربعة أسطر فقط ، بما يزيد على ثلاث صفحات مزودة ًبالإحصائيات والخرائط والجداول، وإنه دائم التعريض بالمناهج السياقية : الانطباعية والتاريخية والنفسية والاجتماعية . وإنه يتصرف بنيّة من يريد أن يؤسس مدخلا ً لتفهّم التطورات الجديدة في الدرس النقدي الجامعي، على غير ما كان سائدا ً في الحياة الأدبية بين نخبة ٍ من أساتذة الجامعات العراقية، على الرغم من تغلغل النقلة الكبيرة التي شهدتها الحياة الثقافية في الوطن العربي منذ أوائل الثمانينيات؛ يوم تبنت الصحافة الأدبية – أول الأمر – طرح المصطلح النقدي الجديد، ومقاربته على نحو ٍ أخذ يزعزع الثابت العتيد الذي لحقه الهرم واليباس .
وفيما جعلت تصلني أخباره تباعا ً ، تذكرت ُ أن مجلة الطليعة الأدبية، كانت قد نشرت لي قصة في أحد أعدادها قبل أربع أو خمس سنوات، وأن مقالا ً نقديا ً للدكتور محمد كان يجاور قصتي في ذلك العدد، مما شكل اقترانا ً استباقيا ً عجيبا ً. فضلا ً على أنني كنت قد قرأت له مقالات في الصحف والمجلات، أذكر منها مقالة أو أكثر عنيت ُ بقراءتها لأنها تتناول تجربة صديقي الشاعر خالد علي مصطفى، وأنني كنت أتلقى أصداء ً عن (المشروع النقدي الجديد في العراق) وكان الدكتور محمد صابر أحد النقاد الشباب الأربعة الذين أطلقوه وروجوا له، وتحملوا مسؤولية تبنّيه وإشاعته في أواخر الثمانينيات، لكن أول لقاء ٍ بيننا كان يوم هاتفني في المدرسة داعيا ً إياي لمقابلته في كلية التربية للبنات لتسلم دعوتي إلى ندوة القصة التي سوف يقيمها إتحاد الأدباء والكتاب في الموصل .
بعد عودتنا من الموصل صرنا صديقين، وانعقدت بيننا أواصر علاقة ٍ كان لها أثرها العميق في مسيرتي الثقافية ، ومنجزي الأدبي على نحو خاص.
منذ بداية عام 1993 غدت علاقتي بالدكتور محمد صابر شبه يومية، وقد فتح ذلك لي بابا ً واسعا ًعلى رحاب الجامعة؛ لأنه أقترح علي أن أستغل فرصة دعوة المتميزين من الموظفين للتقديم إلى الدراسات العليا، لكنني سهوت عن ذلك عاما ً كاملاً. وفي عام 1994 عاود حثـّي على استثمار هذه الفرصة، فتقدمت ُ بامتيازات منها رئاسة إتحاد أدباء محافظة صلاح الدين، ونشر مجموعتين قصصيتين، وعضوية اللجنة الثقافية في المحافظة، وعضوية الهيئة الاستشارية في الإتحاد الوطني لطلبة وشباب العراق .
الآن أصبحت ُ واحدا ُ من طلبة صف الماجستير، وأخذت أتلقى ما أثارني وأثار زملائي وأبهرهم ، إذ إن الرجل كان يدرس في مادة المناهج النقدية الحديثة موضوعات : الشكلانية والبنيوية والتفكيكية ونظرية القراءة والتلقي فضلا ً على السردية والشعرية والأسلوبية وإشكاليات أخرى. أما في مادة تحليل النص الأدبي فقد أدخلنا مباشرة في صلب الحداثة النقدية، حين ألزمنا بقراءة كتب ٍ نقدية مصدرية مهمة، ثم كلفنا بتحليل نصوص شعرية وقصصية عراقية وعربية، أذكر منها قصة لمحمود جنداري من مجموعته (حالات) وقصيدة لجواد الحطاب بعنوان (تمرين بصري) تحليلا ً نصيا ً. وكان قبل ذلك بعام واحد قد كلف طلبته بقراءة وتحليل قصتي(الدرس) واستضافني للمشاركة في المحاضرة المخصصة للاستماع إلى قراءات الطلبة، ثم إلى تحليله الذي نشره بعد ذلك في إحدى الصحف قبل أن ينشره لاحقا ً في كتابه (المغامرة الجمالية للنص القصصي) . وقد حثني ذلك على كتابة مقال صغير نشر في جريدة الثورة آنذاك، تحدثت فيه عن جهود الدكتور محمد صابر في نقل النص الأدبي الحديث إلى (معاقل) الجامعة، مخترقا ً إرثا ً تقليديا ً معروفا ً في الوسط الجامعي يدعو إلى التحفظ الشديد على نتاجات الأحياء أو الأدباء الشباب بحجة عدم اكتمال تجاربهم الأدبية .
ومن مفارقات هذه السنة (التحضيرية) أن الزملاء والزميلات لم يكونوا على توافق وانسجام مع طروحات الدكتور محمد صابر في درسه هذا أول الأمر ؛ غير أن أحدا ً منهم لم ينكر الدرس أو يتنكّر له، معترفين جميعا ً بأن صعوبته المزعومة تكمن في جدته ؛ لأن مثل هذه الموضوعات لم تكن ضمن المقررات الدراسية في مرحلة الدراسة الأولية في الجامعة ، ولم يكن أي من الأستاذة الذين درّسوا لهم قد تعرض إليها، أو إلى البعض منها حتى ولو على سبيل الاستطراد. وبعد سنين طوال، وحين أصبح هؤلاء الطلبة تدريسيين في الجامعة ، دأبوا على التفاخر بأنهم طلبة الدكتور محمد صابر، وأنهم تلقوا صفعة ً علمية ً و ثقافية مبكرة أيقظت فيهم روح المطاولة والاستقصاء والتعلم . ومما غدوت ُ أفكر فيه الآن، وبعد مرور قرابة العقدين من الزمان هو : لو أن الدكتور محمد قد أخذته الرأفة بالطلبة الشاكين وتعامى عن إقحام التقانات الأسلوبية والنصية، ولجأ إلى تبسيط مادته بأن أحالها على ما يرغبون ، فعلمهم ما يعلمون ، وتساهل معهم على نحو ما ؛ لكان الدرس النقدي في جامعة تكريت على غير ما نراه عليه اليوم .
ولو أتيح لمتصفح أن يستعرض الرسائل والأطاريح ، التي أنجزت في خلال هذه الحقبة؛ لتبيين له أن عدد الرسائل والأطاريح التي اشتغلت على الرؤية والمنهج اللذين كان يتبناهما ويشيعهما، يفوق بكثير عدد الرسائل والأطاريح التي كان يتبناهما ويروج لهما دعاة المناهج التقليدية في الأدب ونقده . وما ذلك إلا لأن أصوات تلامذته من التدريسيين الشباب ، صارت هي التي تأخذ بزمام العملية التعليمية في أقسام اللغة العربية في جامعة تكريت. ومع أنني لم أكن من فئة الشباب يوم تتلمذت على الدكتور محمد صابر، إلا أنني حظيت بفرصة شبابية جديدة، أهلتني للاقتراب من مشغله وذائقته، فكان أن درست معه وبإشرافه موضوع (توظيف الأسطورة في القصة العراقية الحديثة) عن ثلاثة من أعلامها هم : محمود جنداري ومحمد خضير وجليل القيسي، وكان حافزنا المرجعي المشترك، هو ما عمق العلاقة الإنسانية والثقافية بيننا ، إذ وجد أن قصصي نفسها لا تخلو من هذا التوظيف بأنماطه التي حددتها رسالة الماجستير، ودرست إشكالياتها، وكان هذا أول إشراف له على رسالة جامعية. وعبر اتصالي بمصادر الأسطورة ، وتأملي اليومي بها ؛ اكتشفت أن ثمة أسطورة تنشأ من الواقع المعيش من دون أن تنتمي إلى مرجعية أسطورية تقليدية، فهي أسطورة مخلقة أو مبتكرة ، فعنّ لي دراستها في مرحلة الدكتوراه، وكان أن أشرف على هذا البحث (أنماط الشخصية المؤسطرة في القصة العراقية الحديثة) أيضا ً. إذ يعد ًُ من النقاد القلائل الذين كتبوا في موضوع الأسطورة، والأسطرة، بوصفها إحدى تقانات القصة العربية الحديثة بعد أن كانت وقفا ً على المعالجات السائدة في الشعر .
إنني – وبإلتفاتة ٍ قاصدة إلى مسيرة الدكتور محمد صابر في حاضنة تكريت (المدينة – الجامعة) – أرى صورة جلية ً للحضور الجدلي الذي أفرز قوة التأثر والتأثير، التي لا سبيل إلى نكرانها؛ لأنه أبدع كل أعماله وهو ماثل في جاذبية هذا الحضور الجدلي، منذ أن اقترحه المكان واستدعاه ، فأستوعب حساسيات متنوعة، وعمل على إيوائها في مفاصل تجربته : شعرا ً ورسائل وكتبا ً وتنظيرات ٍ نقدية، ومشاركات ٍ كثيرة ٍ في مؤتمرات وندوات، وهيئات استشارية، وعلاقات أدبية ، وجوائز ، وصداقات ، وتوجهات إنسانية، منفتحة على مروج الحياة والحب