” محاولة البحث عن المعنى ” وجدلية الذات والموضوع
يعتبر كتاب ” محاولة البحث عن المعنى ” لكاتب وأديب سخر مقدراته الإبداعية ، وطاقاته الفكرية لكتابة القصة والرواية كما يؤكد ذلك في تقديمه للمُؤلَّف : ” هذا التأمل دفعني لأكتب بالموازاة مع الرواية والقصة مقالات ، أحاول أن أبث فيها بعض تأملاتي وخلاصات تفكيري ، بما يمكن أن أعتبره فلسفتي في الحياة … ” ص 3 ، وهي تجربة ذاتية أبى الكاتب إلا أن يقدمها للقارئ بغية عرض رؤيته الذاتية لموضوعات مختلفة تنزاح عن مجال انشغاله واشتغاله الإبداعي كقاص وروائي ينحت عوالم يتجاور فيها الواقعي والخيالي في أشكال سردية ( قصة ورواية) أغنت«ريبرتوار» الخزانة الأدبية الوطنية والعربية كما ونوعا بما انتهجه من أسلوب مغاير ساهم في منح منجزاته مواصفات ارتقت بها لمستوى تجريبي يزخر بإضافات نوعية موسومة بالثراء والتطوير لنكتشف الرؤية الذاتية لقاص مبدع وروائي مُجرِّب لموضوعات مختلفة ومتنوعة نذكر منها موضوع «الذات والآخر» وما يجمعهما من روابط تكامل وامتداد جدلي تفاعلي : ” ترتبط الذات بالآخر ارتباطا وثيقا وجدليا ، حتى أن هناك من يعتبر وجود الآخر ضرورة حتمية لوجود الذات … ” ص 7 ، وما يميز الآخر من تنوع يوطد تجاذباته مع الذات في تنوعها : ” فالحقيقة أو جزء منها تتمثل في أن هذا الآخر ليس على نمط واحد ، فهو متنوع كما نحن متنوعون … ” ص 8 ، لينتقل إلى الجانب الأسطوري في« سرير بروكست » وهي شخصية من الأسطورة اليونانية صنعت سريرا على مقاس محدد يعترض المارة ويمددهم ، مكبلين ، على السرير ممطا أجسامهم ، أو ناقصا من أطرافها لتلائم مقاس السرير، وما يسببه لهم ذلك من ألم ومعاناة ، ليعرج على العديد من الموضوعات ، والتي لا تسعفنا طبيعة هذه الورقة وحدودها على الإحاطة بهاجميعا ، كالقلق مبرزا أسبابه المختلفة ، وما يطبعها من نزعات وجودية وسيكولوجية محددا بعض طرق مواجهته ، والحد من عواقب وتبعات ضغوطاته . والإنسانية التي تتسم بطابعها المشترك الذي تؤثثه مشاعر ورؤى تربطك بالآخر ، وتوطد علاقتك به : ” أن تكون إنسانا معناه أن تشعر بالإهانة حين يهان إنسان أمامك ، لأن إنسانيته امتداد لإنسانيتك … أن تكون إنسانا معناه أن تسعى إلى الارتقاء بالكائن الإنساني داخلك فتقدمه بأسمى شكل ممكن… أن تصلك أي صرخة أو أنين من أي منطقة من العالم …” ص 21 ، والحرية النابعة من الاختيار المقرون بالوعي والإرادة : ” لأن الحرية تستند إلى الاختيار بفعل الوعي والإرادة . ” ص 25 ، والتي تستوجب الاقتناع الراسخ بمبدئها ، وتسخير كل مقدراتك للذود عن جميع أنواعها وأشكالها : ” أن تتبنى حرية التعبير وتدافع عنها ، حتى وإن كان الرأي الآخر مخالفا لرأيك ومعتقدك ومصالحك. ” ص 25 ، عطفا على موضوع الذوق في علاقته بالمستوى الثقافي وليس التعليمي : ” أعتقد أن الذوق الرفيع – مرتبط في بعد من أبعاده – بمستوى ثقافي معين ، ولا أقصد المستوى التعليمي طبعا… ” ص 27، وأيضا بميولات الشخص وشغفه : ” وبالمثل فإن الميولات الفنية كالرسم والنحت والموسيقى ترقى بإنسانية الإنسان أكثر ، وتخلصه من الميولات العدوانية ، وتبعده أشواطا عن الحيوان الكائن في أعماقه والمتربص به دوما… ” ص 28 مما يصقل مشاعره ، ويرقى بها إلى أعلى المراتب الإنسانية وأنبلها. كما يتناول التفكير في الموت ، والانشغال بهاجسه : ” وقد تجلى هذا الانشغال بالموت بداية في الأساطير الأولى…أقصد أساطير البابليين ، وتحديدا أسطورة جلجامش التي تتميز بكثير من العمق والنضج في تناولها لظاهرة الموت… ” ص 30 ليتطرق إلى موضوع الموت الفلاسفة برؤى متعددة ، وطروحات مختلفة : ” وقد توقف الفلاسفة بشتى توجهاتهم عند ظاهرة الموت ، وقاربوها مقاربات متعددة ومختلفة… ” ص 32 ، ليعقب على ذلك قائلا : ” وفي رأيي المتواضع إن الوجودية المنبثقة عن الفنومينولوجية أو الظاهرتية كما يترجمها البعض تعد أكثر ملامسة للموضوع… ” ص 32 ، وفي موضوع السعادة يميز بين أنواعها ومدى اختلافها حسب طبيعة الأشخاص وموقعهم الفكري والأدبي والقيمي العقدي والاجتماعي : ” وهكذا نستطيع الحديث عن سعادات ، فسعادة الناسك المتصوف مثلا لن تكون بالطبع هي سعادة الفيلسوف أو الأديب ، وكلتاهما حتما مختلفتان عن سعادة التاجر والإنسان العادي… ” ص 33 معبرا ، أي الكاتب ، عن رأيه الشخصي بخصوص السعادة : ” فالسعادة – كما أومن بها- هي خلاصة تجربة إنسانية عميقة ، تؤدي إلى توازن نفسي عميق ، يسلحنا باستراتيجية فعالة في مواجهة المواقف الصعبة ، لنستطيع الإفراج عن الابتسامة ونحن في أشد المواقف الحياتية صعوبة وعنتا . ” ص 36 ، أما بخصوص العنف فقد حصره في ثلاث صيغ / تصنيفات : ” يمكن أن نصنف العنف إلى عنف لفظي وعنف جسدي وعنف فكري ، كما يمكننا الحديث عن عنف الأفراد والجماعات وعنف الدولة أو الدول. ” ص 38 . وإعطاء أمثلة للعنف العرقي : ” عرقي كما هو الحال بالنسبة لجماعات النازيين مثلا … ” ص 39، أو الجماعات الدينية كما في قوله : ” ويمكن التمثيل على ذلك بالجماعات الدينية التي تنهج التكفير أسلوبا في تعاملها مع باقي الجماعات.” ص 39. وتناول موضوع الإخفاق معتبرا إياه جزءا من الحياة : ” في حياتي وبعد تراكم تجارب عدة بحلوها ومرها ، اعتبرت الإخفاق دوما جزءا لا يتجزأ من الحياة، مثله مثل النجاح … ” ص 43 بملازمته ، أي الإخفاق ، لنقيضه النجاح في تشكيل سيرورة حياة تعج بالمفارقات والمتناقضات والصدف ، بل اعتبره محفزا ومحركا أساسيا لتحقيق النجاح : ” من حيث العمق لا تحلو النجاحات إلا بكونها ردا قويا عن إخفاقات حقيقية أو مفترضة.” ص 42 ، ثم يحدد العلاقة بين الكتابة والسفر قائلا : ” لهذا فالكتابة سفر لأنها انطلاق حر نحو عوالم مستحيلة ، تكاد لا يحدها زمان ولا مكان … ” ص 45، وهي علاقة تحكمها عرى ووشائج تقوم على جدلية تفاعلية : ” وبالمقابل فالسفر كذلك كتابة ، إذ الانتقال من مكان إلى آخر يولد متعة الاكتشاف … ” ص 46 ، ويفتح السفر آفاق رحبة وغنية لفعل الكتابة بحمولاته الذهنية والوجدانية : ” السفر يفتح نافذة مشرعة على الكتابة ، وكأنه الكتاب السحري الذي ينفتح على مصراعيه ليلجه الكاتب متأبطا أوراقه وأحلامه ومشاريعه … ” ص 46 ،ويربط الكاتب موضوع الأوهام بأسطورة جلجامش فيقول : ” ومن الأوهام الفردية يمكننا الحديث -على سبيل المثال لا الحصر- عن وهم الخلود الذي قاد جلجامش إلى تسطير أسطورته الخالدة … ” ص 50 ، ليخلص إلى تحديد رؤيته الشخصية للوهم في قوله : ” أما على المستوى الشخصي ، فقد كانت حياتي وما تزال مليئة بالأوهام ، أداعبها وتداعبني بكثير من الإصرار، ففي كل مرة أجد نفسي ضحية وهم جديد … سرعان ما يضمحل ولا يخلف وراءه سوى الشظايا المتناثرة … ” ص 50 ، لينتقل إلى موضوع القراءة والكتابة وما يوطد علاقتهما القائمة على التفاعل والتجاذب والتكامل : ” ولجت الكتابة بعد زمن من احتراف القراءة … وبعد أن كحلت بصري بكتابي الأول انفتح لي أفق جديد ، أفق جعلني أخرج من دائرة استهلاك الكتاب فقط ، لأنتقل إلى إنتاجه كذلك. ” ص 72 ،مؤكدا دور القراءة الجادة والمتواصلة في الانتقال من مرحلة الاستهلاك إلى طور الإنتاج عبر اجتراح فعل الكتابة . ليثير في نفس المجال ، مجال الكتابة ، الكتابة لدى المرأة، والتي لا تقل قيمة عن الرجل كما يؤكد ذلك : ” فمن خلال مطالعتي لكثير من النصوص التي تبدعها الكاتبات المغربيات يمكن أن أجزم بأن قسطا من هذه الكتابات تشترك مع ما يكتبه الرجال من هموم وانشغالات نفسية ووجودية واجتماعية وثقافية وإيديولوجية .. ” ص 80 فأبدعن في المجال الشعري : ” ولعل أهمية حضور المرأة الكاتبة في جنس الشعر … توحي بأن المرأة أكثر ميلا في كتابتها إلى البوح والتعبير الذي تجد له في جنس الشعر مجالا واسعا ، يتيح لها بث أشجانها وهمومها الذاتية وانشغالاتها الشخصية … ” ص 83 ، والسردي : ” وقد حدث ذلك خاصة في القصة القصيرة والقصيرة جدا ، التي أبدعت فيهما المرأة نصوصا إبداعية تستحق الاهتمام وتتفوق على كتابة الرجال أحيانا… ” ص 84 .
ولم يفوت الكاتب فرصة التطرق للشعر كجنس أدبي بمكونات جمالية ودلالية ورمزية حيث يقول : ” لذا تحتاج قصيدته ( أي الشعر الحديث ) ، إلى قارئ نوعي مسلح بالمعرفة بشتى أصنافها ، مع إيلاء أهمية قصوى للرمز الذي لم تعد تخلو منه قصيدة من القصائد ، إلا في ما ندر.” ص 102 .
وما يمكن استخلاصه من موضوعات مؤلَّف «محاولة البحث عن المعنى » الطابع الجدلي بين الموضوعي المتمثل في طبيعة الموضوعات التي تناولها الكاتب بأنواعها المختلفة، والذاتي المتجلي في منهجية المؤلِّف من خلال طرحه، واستنتاجاته الشخصية ، وآرائه الذاتية لمواضيع الكتاب حيث أرسى لبنات وأسس كتابة ذات نزعة جدلية موسومة بعمق التحليل وغنى الأفكار وتنوعها.
عبد النبي بزاز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الكتاب : محاولة البحث عن المعنى .
ــ الكاتب : مصطفى لغتيري.
ــ المطبعة : مطبعة بلال ـ فاس/ 2021