سعدي عبد الكريم
وقف بثبات على حافة سياج الجسر بكامل هندامه، أخرج من جيب سترته المتهرئة سيجارته الأخيرة، وراح ينفث دخانها الذي بدا وكأنه يلامس ذلك الفضاء الأزرق الفسيح الذي أحاط به، أخذته ذاكرته بعيدا صوب عبق بيت أبيه العتيق في احد أزقة بغداد، وذلك الأريج البهي الذي يطفح من بين جدرانه المخملية، والذي تعرف من خلاله على أول حب له، لم يعد يرغب بأسترجاع كل تلك الذكريات، إلا ذلك الوجه البلوري الذي بدا كالقمر ليلة تمامه، أنها (نجيه) بنت الجيران.
آه (نجية) تلك الفتاة التي أحبها بجنون، لكنه حينما صارحها بالأمس بحبه، اعترفت له بجرأة، وبثقة بالغة، بأنها تحب رجل غيره، رمى عقب السيجارة من أعلى الجسر وراح يراقب بذهول سقوطه الى الأسفل صوب ماء دجلة الساكن كطفل حالم وبوداعة فطرية، راح يراقب سقوط العقب، وربما سمع صوت انطفاءه على سطح الماء الساكن، حزم أمره على ان يرمي جثته خلفه، وان يغتال قلبه المنكسر، انتقاما لذاته المهزومة، أراد أن يهوي خلف العقب، وبإصرار عاشق فاشل، لكنه تذكر فجأة بأنه لا يجيد العوم، فعدل عن الفكرة، وراح يفكر بمحاولة ثانية مع امرأة أخرى، لعلها تحبه، ويرجع لنفسه هيبتها، ويثأر لقلبه المنفطر، نزل من على سياج الجسر برهبة، وراح يذرع إسفلت شوارع بغداد منكسرا، بيد أن في داخله ثمة أمل لمحاولة حب امرأة ثانية، لكن انفجار عبوة ناسفة قريبة منه، نثرت أشلاءه الوديعة، الحالمة، فأودت بحياته، واغتالت حلمه الجميل، كانت ليلة حالكة بلون ظلمة القبر، هي، ليلة اغتيال الحب، كان حلما مسالما، جميلا، وديعا، لكنه لم يتحقق، حتى وان بَقيَ حَيّا.