تغيّرت طبيعة المجلات الثقافية في العالم العربي في الزمن الحالي، واختلفت في المضمون وفي الشكل وفي الوظيفة عن المجلات الثقافية التي تعددت وتنوعت بين الربع الأول من القرن العشرين والنصف الثاني من القرن ذاته، والاختلاف بين هذه المجلات في الزمنين، كما يرى المفكر كريم مروة استنادًا إلى تجربته الشخصية يعود في الأساس إلى الاختلاف في الشروط التاريخية بين الحقبتين، وهو اختلاف يطال الوقائع السياسية والاجتماعية والثقافية، كما يطال الأنظمة السياسية التي سادت في بلداننا وأحدثت تأثيرات سلبية في كل جوانب الحياة فيها، ذلك إن معظم هذه الأنظمة كان استبداديًا أو سلفيًا بمعنى من المعاني.
ويعود ذلك الاختلاف، في الوقت عينه، إلى التطورات التي شهدها العالم المعاصر سواء في وسائل الإعلام أم في وسائل الاتصالات، أم في سوى ذلك من الأمور التي تركت تأثيراتها على مدارك الناس ومعارفهم وعلى اهتمامهم، كما تركت تأثيراتها على دور الثقافة وعلى وسائل تعميمها (المجلات والكتب ودور النشر) وعلى النخب الثقافية، وانعكست على مجمل هذه التطورات على الوعي الفردي والجماعي في بلداننا وفي مجتمعاتنا.
وأية كانت الأسباب التي أدت إلى الاختلاف في دور المجلات الثقافية بين الحقبتين الزمنيتين المشار إليهما، فإن ذلك لا يعني أن نقلل من شأن الجهود التي تبذل من قبل المؤسسات الثقافية الرسمية والخاصة، لإصدار مجلات ثقافية كبيرة ومهمة في عدد من البلدان العربية.
تحت عنوان «مجلاتنا الثقافية القديمة.. ودورها التنويري» كتب مروة عن بعض الحنين إلى ذلك التاريخ الذي مارست فيه المجلات الثقافية في النصف الأول من القرن الماضي خصوصًا، وفي مطالع النصف الثاني منه دورًا حاسمًا في تكوين شخصيته الثقافية والفكرية والسياسية، كما مارست الدور ذاته في تكوين أبناء جيله، وأبناء الجيل الذي سبقه، وأبناء الجيل الذي أتى بعده، وفي الواقع فإن لهذا الحنين عنده معنى آخر يتجاوز ذلك، إنما يعبّر عن القلق على مستقبل الثقافة من هذا التراجع في دور الثقافة والمثقفين في الحياة العامة لبلداننا على مستوى الدولة ومؤسساتها، وعلى مستوى المجتمع ومؤسساته.
وهو قلق على الحاضر وعلى المستقبل في بلداننا في آن، قلق يطال الجانب الثقافي، ويطال الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والانسانية جميعًا.
إن ما يبدو اليوم انسدادًا في الأفق في بلداننا في اتجاه الحرية والتقدم إنما يعود في الأساس إلى الأنظمة السائدة في بلداننا هي، بمعظمها، أنظمة قديمة مختلفة، يساندها في تخلفها أمران يكمل الواحد منهما الآخر، الأمر الأول يتمثل في تراجع دور القوى التي كانت تحمل مشاريع للتغيير بأسماء مختلفة وبمدارس مختلفة. والأمر الثاني يتمثل بالبروز غير المسبوق للحركات الأصولية بصيغها المختلفة، لاسيما منها الصيغ المتطرفة التي تمعن تدميرًا للحياة الإنسانية في بلداننا وفي مجتمعاتها، وتمعن تدميرًا لكل مظاهر الحضارة.
يفهم من ذلك لا يرمي في حديثه عن هذا الواقع الى تحميل المجلات الثقافية القائمة اليوم مسؤولية التراجع في دور الثقافة والمثقفين. فذلك أمر غير دقيق، إنما أراد أن يطرح للنقاش مسألة استعادة هذه المجلات، في الشروط التاريخية الجديدة، دورًا نحن بحاجة إليه في تعزيز موقع الثقافة والمعرفة في بلداننا، من أجل تحرير الوعي الفردي والجماعي مما أصابه من تراجع وتشويه لصالح الخرافات والبدع، من جهة ولصالح أنظمة التخلف المسؤولية عن بقاء بلداننا خارج العصر وتحولاته من جهة ثقافية.
ولاستعادة هذا الدور لمجلاتنا الثقافية شروط لابد من توفرها لاسيما عند النخب الثقافية الديمقراطية.
ويذكر هنا المجلات الثقافية التي مارس بعضها على امتداد النصف الأول من القرن الماضي، ومارس بعضها الآخر في مطالع النصف الثاني من القرن دورًا بالغ الأهمية في تكوين أجيال بكاملها وفي مقدمتها مجلة «الهلال» لمؤسسها جورجي زيدان، التي لا تزال مستمرة في الصدور منذ ما يزيد عن القرون، لكن في شكل مختلف اليوم عن تاريخها القديم.
ومجلات أخرى توقفت عن الصدور من بينها «المقتطف» لمؤسسها فؤاد صروف، و«المجلة» لمؤسسها سلامة موسى و«الرسالة» لمؤسسها أحمد حسن الزيات و«الكاتب المصري» لمؤسسها طه حسين و«المعرفان» اللبنانية لمؤسسها الشيخ أحمد عارف الزين، ومجلة «الدهور» لمؤسسها إبراهيم حداد، التي ما أن توقفت عن الصدور بعد عام من تأسسها حتى ورثت وظيفتها التنويرية مجلة «الطليعة» ومجلة «المكشوف» لمؤسسها فؤاد جيش، ومجلة «الأديب» لمؤسسها البيراديب، وكلاهما توقفتا عن الصدور، ومجلة «الطريق» لمؤسسها انطون ثابت، التي شارك في تأسيسها كل من عمر فاخوري ورئيف خوري، واستمرت في الصدور من دون توقف من عام 1941 وإذا توقف عن الصدور معظم هذه المجلات الرائدة، فإن مجلات أخرى قامت بصيغ جديدة، ثم توقف معظمها عن الصدور من هذه المجلات مجلة «الثقافة الوطنية» التي صدرت في لبنان بين عام 1952 وعام 1959 وتولى مسؤولية تحريرها حسين مروة ومحمد دكروب، ومجلة «الآداب» التي أسسها سهيل إدريس في عام 1953، ومجلة «دراسات عربية» التي صدرت عن دار الطليعة للنشر ومجلة «الثقافة الجديدة» التي رأس تحريرها صلاح خالص، وتستمر في الصدور في صيغة مختلفة عن تاريخها الأول، ومجلة «مواقف» التي أسسها أدونيس، وتوقفت عن الصدور، ومجلة «الغد» المصرية لمؤسسها حسن فؤاد في الستينات وتوقفت، ومجلة «المعرفة» السورية المستمرة في الصدور ومجلة «العربي» الكويتية التي تستمر في الصدور منذ 63 عامًا.
كما يذكر هنا مجلة «الطليعة المصرية» التي كان يرأس تحريرها لطفي الخولي في الستينات والسبعينات، وتوقفت عن الصدور، ومجلة «الكاتب» التي كان يرأس تحريرها أحمد عباس صالح في الستينات ثم توقفت، ومجلة «شؤون فلسطينية» التي كانت تصدر عن مركز البحوث الفلسطينية وتوقفت، ومجلة «الكرمل» التي كان يصدر محمود درويش ثم توقف ومجلة «النهج» التي كانت تصدر في الثمانينات باسم الأحزاب الشيوعية العربية ثم صارت تصدر مع مجلة «المدى» بمسؤولية فخري كريم وتوقفت عن الصدور، ومجلة «اليسار العربي» ومجلة «القاهرة» المصرية التي كان يرأس تحريرها غالي شكري، ثم توقفت وأعاد إصدارها في شكل مجلة أسبوعية صلاح عيسى و«قضايا فكرية» التي أسسها محمود أمين العالم، ثم توقفت ومجلة «اليسار» التي كان يرأس تحريرها حسين عبدالرزاق ثم توقفت، و«أدب ونقد» وهي تستمر في الصدور عن حزب التجمع المصري، ومجلة «إبداع» التي كان يرأس تحريرها أحمد عبدالمعطي حجازي، ومجلة «المستقبل العربي» التي يرأس تحريرها خير الدين حسيب وتصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ومجلة «الشعر» التي صدرت في مطلع الستينات ورأس تحريرها يوسف الخال فقد أسهمت في تأسيس تيار جديد في الشعر العربي الحديث ثم توقفت عن الصدور.
الخلاصة باختصار ربما يكون من الضروري في هذا السياق من التذكر والحنين إلى تاريخ وتراث مجلاتنا الثقافية القديمة أن تتوقف عند دورها التنويري، وهو ما يطرحه مروة للنقاش وللعمل مهمة استعادة ذلك الدور آخذًا في الاعتبار الشروط التاريخية الراهنة المختلفة عن الشروط التاريخية لتلك الحقبة التي تفصلنا عنها أكثر من ثلاثة أرباع القرن.