الدكتور زاحم محمد الشهيلي
مرت المجتمعات العربية في منطقة الشرق الاوسط بثلاثة انماط من الحياة في العصر الحديث، منها “الحياة البدائية” التي يغلب عليها طابع البداوة وتسيطر عليها العصبية القبلية المحددة باخلاقيات العرف الاجتماعي القبلي وحس الانتماء الى المجموعة اكثر منه الى الوطن، وكان رئيس القبيلة يلعب دورا محوريا في معالجة القضايا الخلافية والمشاكل التي تحدث بين ابناء العشيرة او القبيلة الواحدة او بين قبيلة وقبيلة او عشيرة واخرى، بحيث يلتزم الجميع بما يقرره الشيخ او الامير، ويتعرض للعقوبة الصارمة من يخل بالاتفاق من الافراد، وبناء على ذلك يكون هناك تفاهم واتفاق بين الاطراف يحدده العرف العشائري والالتزامي الاخلاقي القبلي، ولكن رغم ذلك تبقى العصبية القبلية هي التي تطغى على المشهد عند معالجة امور القبيلة ومشاكلها الداخلية والخارجية.
وبعد الثورة الصناعية في اوروبا ووصولها الى بلدان الشرق الاوسط بطريقة وباخرى، اخذت القبائل البدوية تستقر في اماكن محددة وثابتة لها لتعيش “الحياة ذات الصبغة المدنية” حيث صاحب ذلك الاستقرار ظهور التنظيمات السياسية والاقتصادية واصبح الحراك الثقافي اكثر فعالية في توجيه الانسان نحو حياة اكثر رقيا، وسنت القوانين التي تنظم حياة المجتمع، حينها صارت حياة الناس في تغيير مستمر نحو الافضل بعد ان اصبح القانون يكفل حقوق جميع الافراد بما فيهم شيخ القبيلة والعشيرة على قدم المساواة مع الافراد الاخرين، واصبحت المجتمعات العربية تتنفس الصعداء بعد ان انتشرت ثقافة الاهتمام بالامن المجتمعي، والقضاء والتعليم والصحة والبنى التحتية، وتم القضاء نسبيا على الامية، وصار الجهل محاصرا من قبل الثقافة والوعي الاجتماعي، واصبح التفاهم والاتفاق على حل الخلافات والمشاكل من خلال القانون الذي اخذ يقوم الاخلاق العامة للمجتمعات البدوية والريفية باتجاه المدنية والتحضر، وبذلك اخذت المجتمعات تنمو وتتطور تصاعديا، وظهرت الطبقات الاجتماعية وطبقات العمال والفلاحين والمثقفين في اطار النظم العامة للدولة المدنية.
لم تستطع منطقة الشرق الادنى ان تحافظ على سلم تطورها وتنميتها الاقتصادية والبشرية، ذلك لان المجتمعات العربية المستقرة نسبيا لم تسلم من التدخلات الخارجية وحكم العوائل والانظمة الدكتاتورية الصارم والولاءات الخارجية، لذلك بدا الخط البياني للتطور ينخفظ تدريجيا احيانا، وبشكل سريع ومريب احيانا اخرى، للعودة الى حياة الغاب والتشرذم وحكم العشائرية والطائفية والعرقية المغلفة بالعصبية القبلية، وبذلك لم تستطع المجتمعات العربية المحافظة حتى على النزر القليل مما تتصف به حياة البداوة البدائية التي كانت تعيشها، وانما انزلق وبقوة الى منحدر خطير ألا وهي “حياة الفوضى”، خاصة في الدول ذات العواصم التاريخية المستهدفة من قبل اعداء الامة، وهنا عادت العصبية القبلية وحكم العشائر “المغلوط” وسط غياب القانون نتيجة لذوبان الدولة في العشيرة عكس ذوبان العشيرة في الدولة المدنية، واصبح كل فرد من افراد المجتمع لا يفهم من الامور الا ما يعتقد به شخصيا في اطار ثقافته وعصبيته بمنعزل عن الاخرين. ولعدم وجود رادع قانوني وعشائري حقيقي ظهر في الوسط الاجتماعي اشخاص متمردون اخلاقيا على انفسهم وعلى الاخرين يفعلون ما يحلوا لهم نتيجة لغياب هذا الرادع الذي يحجم تمردهم الذاتي لاسباب منها بنيوية نفسية تتعلق بعقدة الاحساس بالنقص والحرمان والجوع، ومنها قبلية عشائرية تتعلق بنزعة الشر، ومنها طائفية هدامة تسيطر على الانسان الفوضوي الى درجة فقدانه لوعيه الفكري وانسانيته التي افقدته حقه القانوني او الشرعي المكتسب في اطار القانون او العرف او الشريعة.
وبذلك بدات هذه المجتمعات تنسلخ تدريجيا عن واقعها التاريخي واخلاقها الدينية والمدنية لتسير في طريق الضياع الابدي الذي سلكته بمحض ارادتها المسلوبة وشخصيتها المغلوبة على امرها. والمشكلة هنا تكمن بان هذه المجتمعات، المنقادة في احيان كثيرة، تعرف تماما ان هذا الطريق هو طريق الضياع المؤلم والهلاك الحتمي، وان لا مستقبل منظور ولا واقع يسمح لها بالاستمرار لكنها مصرة على مواصلة المسيرة الى المجهول والضياع، في حين ترى التطور في مجتماعات مجاورة اضحى يقاس بنبضات اميال الساعة، فطوبى لمن استخدم العقل ميزانا لكي يعيش ملكا وينتج ويعمر في الارض، وتعسا لمن استخدم عصبيته وسذاجته منهجا لكي يسير بقدميه الى الهلاك ويبقى مذموما مدحورا من قبل الناس، وملعونا من الله الى يوم يبعثون.