تنقلب كليا التاريخانيه والسردية المعتمدة في النظر للمجتمعات، بين منظور الارضوية الحيواني الحاجاتي، وبين ماكان يفترض به ان يكون هو المنظور المطابق للحقيقة المجتمعية، باعتبارها طورا ضروريا لتصيّر العقل، وصولا لانتقاله خارج الجسدية والارضوية، لالكي يظل ياكل ويشرب وينام، ويشن الحروب الى ابد الابدين، ليبقى كماهو بجسديته حتى حين يتخيل لنفسه مستقبلا يقرره تطور “العلوم” المفترض، بلا اقرار مناسب بمآل الانفصال الازدواجي البدئي، ومايتلوه وينتج عنه عند المنتهيات.
وحتى نقارب مستوى المجافاة الارضوية للحقيقة التفاعلية العقلية الناظمه لحركة المجتمعات، والمنظمة لوجودها، نلاحظ على سبيل المثال النقص الفادح في افتتاحيات الاركولوجية بالاخص في ناحية بعينها هي ناحية “النبوة” كظاهرة فريدة في التاريخ المجتمعي الابتدائي، مايلفت النظر لقوة الاكراهية المسلطة على الظاهرة المجتمعية، وابتدائها من قبل الاعقال الارضوي المتسيد قصورا، فلا احد على الاطلاق تساءل: ” لماذا عرفت ظاهرة النبوة كشكل تعبيري في هذا الموضع من العالم بالذات ؟” هذا مع مايفترض ان يترتب على مثل هذا السؤال الاساسي، من ذهاب لازم للاجابه، وماقد تنطوي علية من احتمالية هي الذهاب الى الخلفية التي منها يصدر مفهوم فريد كهذا، لدرجة ان الملوك يصيرون في هذا الموضع من المعمورة انبياء توراتيين متتابعين (1).
مااسهل ان يشار الى الفلسفة الاغريفية ببنيتها البداهية مقارنه بمدى تعقيد البنية النبوية اللاارضوية التي تحال الى الاسطوره والخرافه، والدين، هذا ويتواصل التخريف الارضوي الاستبدادي(2) حتى يصل للقول بان ابراهيم جاء من اذربايجان، والا فلماذا ذهب الى حران ولم يذهب مباشرة الى ارض الشام ومصر، وكان هذه حجه تستحق قلب اهم مفهوم مجتمعي كوني، علما بان اذربايجان هي في الغالب واقعه تحت اثر الفارسية، وقبلها البابلية، ولم يعرف عنها اي شكل من اشكال التعبيرية او السبق الحضاري اطلاقا، فاذا حدث ووقع فيها مثل التطور الابراهيمي فالاحرى بها ان تخترق فارس، ثم ان السؤال الاهم هنا هو، هل ثمة وجود لمفهوم النبوة في غير ارض مابين النهرين؟ فابراهيم ليس النبي الاول الذي انجبه هذا المكان، وثمة سلسلة قبله من نبوات واحداث وقصص خليقة، ونمط تعبيرية كان في حال نمو، غير ذلك، فان حران تعني اشور، عدوة بابل، واختيارها ابتداء كمنفى داخلي، ليس بالمستغرب قبل ان يتم اكتشاف استحالة العيش فيها، بسبب بنيتها السلطوية القاهرة الخانقة، هذا عدا عن كون الطريق الصحراوي المباشر لم يكن وقتها مفتوحا للجميع، ماعدا الجيوش، لصعوبته وطوله، ولايقف الامر عند هذا الحد من القصورية الحيوانيه.
فاحد هم، الذي اكتسب شهرة (3) عثر على التوراة في الجزيرة العربية، مرتكبا خطئا بدائيا فاضحا، بتجاهلة كونه يتحدث عن تعبيرية نصية نثرية، في موضع شفاهي لايعرف الانشاء كينونة، وظل كذلك الى القرن السابع، يوم وجد اول نص مبني على التوراتيه الابراهيمه، اعتبر بحكم كونه فريدا / معجزة/ في تاريخ الجزيرة العربية، ومع هذا، ظل غير مقعّد الى ان قعدته البصرة والكوفة، هو مع الشعر الجاهلي الشكل التعبيري الجزيري الاوحد.
بالمقابل يمكن ان يخطر لاحدهم وضع كتاب يختار له اسما مثل “الانبياء كلهم عراقيون” (4) ليبقى الامر الاهم مع ذلك مطويا، ومبعدا من الاحتساب، فلا احد من بين اولئك الذين درسوا التاريخ التاسيسي، تعرض لمسالة ” تطور ومسارات النبوة كشكل تعبيري مجتمعي لاارضوي وصولا لاكتمالها” هذا عدا عن الاقتراب من ناحية جوهرية وجودية، تخص طبيعة التفاعلية المجتمعية من زاوية النظر العقلي، مع تلمس دور هذا الشكل من التعبير والياته، وطريقة عمله وتشكله داخل وخارج ارضه، مع مايحيط بذلك من حركية نوعيه، واحتمالات وتحورات مناسبة بحسب الفترات والحقب، بما في ذلك احتمالية الوصول الى فقد الفعالية والضرورة، قبل انفتاح السبيل امام طبعة اخرى منها، تناسب ظروف قرب انتهاء صلاحية المجتمعية الارضوية.
انشطاريتان متقابلتان، الاولى الاعرق، منشطرة عموديا مجتمعيا، والاخرى منشطرة افقيا طبقيا، الاولى تعبيريتها الكونية الشامله لمعظم المجتمعات، نبوية حدسية، والاخرى الاوربية تعبر عن نفسها فلسفياارضويا، الاوربية الطبقية تفاعليتها مغلقة النهاية، واصطراعيتها ذاهبة عند مرحلتها الاخيرة الى ظهور عنصر ثالث من خارج المجتمعية البيئية البشرية، تكون هي المادة المؤدية الى انهاء المجتمعات الجسدوية الحيوانيه، الغالبة منظورا وتجليا من بداية المجتمعية، ومع الالة تتهيأ الاسباب للطور العقلي من التاريخ البشري، لان يصير هو الحاضر المتغلب، وصولا لانفصاله عن الجسد.
المجتمعات اليدوية هي المجتمعات بصورة عامة، ماعدا في موضع واحد بدئي، يكون محكوما استهلالا لحالة بيئية مختلفة، تضع المجتمعية الاولى على حافة الفناء، لتوجد نوعها اللاارضوي، هكذا يكون تسلسل تاريخ المجتمعية العراقية، اصطراعية اولى بشرية بيئية مجافية طاردة، في غمرتها يتشكل النمط اللاارضوي ونوعه التعبيري، تعقبها فترة اخرى هي الامبراطورية التي يتكرس عندها الاصطراع، بين اللاارضوية والارضوية النازله اليها من اعلى، من “عراق الجزيرة” حيث الاشتراطات البيئية موافقة لقيام مجتمعية ارضوية، تهبط بداهة الى ارض الخصب لتحلب الريع، غير دارية بانها بذلك انما تدخل بالاحرى اصطراعية لاحل لها، مع مجتمعية اخرى، لها نوعها وتكوينها الذي لايمكن قهرة الا بازالته من الوجود، ووقتها تدخل اللاارضوية اصطراعها الثاني المزدوج البيئي المجتمعي الارضوي، مايزيد في تكريس وتعزيز نوعها، وتعبيريتها الخاصة بصنفها، هذا علما بان الاصطراعية في ارض الازدواج، ليست مقفلة النهايات كما الحال الاوربي، فارض الرافدين تخضع لقانون الدورات والانقطاعات، وهي مكونه بحكم الاصطراعية الذاتيه وطبيعتها، لكي تنهار وتختفي ككيانية، وهو ماحدث عبر ثلاث دورات، الثالثة منها الانبعاثية الراهنه، المستمرة من القرن السادس عشر، بعد الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، والاولى السومرية البابلية الابراهيمه.
مع الاله يكون قد حضر العنصر الثالث المختلف نوعا وطبيعة، غير الكائن البشري والطبيعة، الامر الانقلابي المساوي من حيث الفعل والاثر، للبدئية المجتمعية وهي حصيلة تفاعلية مديدة، تتاتى من انسداد التصارعية الطبقية الاوربية بما هي اصطراعية داخل كينونة مجتمعية موحدة، مختلفة من هذه الناحية عن الاصطراعية العمودية المجتمعية، هذا علما بان الاصطراعية المجتمعية، ليست كما يظن وكما هو شائع، خارج هذا التحول الانتهائي المجتمعي، فالدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، وبغداد كعاصمة عالمية لخمسة قرون، وصلت فيها الريعية التجارية مستوى النظام العالمي الممتد من الصين الى اوربا، هيات الاسباب المادية للانقلاب البرجوازي الاوربي، وصولا الى الالة، وبعد الاختراقية اللاارضوية الابراهيميه، وهي اختراقية ازدواجية كونيه من اسفل، تاتي الاختراقية الامبراطورية من الاعلى، لتضع المجتمعات عند حافة التحولية الكبرى، بعدما مرت عليها دورتان من دون تحقق، لافتقادها لعناصر الانتقال الاساس، الاعقالي النطقي، و المادي على مستوى وسيلة الانتاج، وقد صارا بالاله واليوم، متاحين والانتقالية التحولية المنتظرة في الافق.
يتسبب النهوض الارضي في موضع الطبقية وديناميتها العليا ضمن صنفها، في وضع ارض مابين النهرين ضمن نوع اصطراعية افنائية، ذات طابع كوني مختلف لاختلاف الطور المجتمعي، وتبدله من الاشتراطات اليدوية الى الاليه، وماتتيحه من امكانات وطاقه تغلبية كوكبيه، عن ذلك الذي نشا ضمن الاشتراطات الذاتيه، ابان الدورة الاولى، ونتج عنه في حينه اكتمال التعبيرية اللاارضوية السماوية النبوية، ثم الى اعلان انتهائها كختام لاصطراعية الدورة الثانيه، مع الاعلان “الانتظاري” المهدوي، هذا غير تبدل منطويات الاصطراعية الكونية في الزمن الراهن، السائر الى التحول والى انتهاء المجتمعية الجسدية.
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انقل هذا النص من افتتاحية/ ويبكيديا/ التعريفية لكتاب الدكتور خزعل الماجدي بلا تعليق (انبياء سومريون هو كتابُ لمؤلفه الدكتور خزعل الماجدي صدر عام 2018 عن المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع. يبحث الكتاب في موضوع مهم وهو أنَّه كيف تحول عشرة ملوك سومريين إلى عشرة أنبياء توراتيين؟ وهذا هو العنوان الفرعي للكتاب.
الكتاب هو أول دراسة علمية تكشف لغز حقيقة عشرة من الآباء المؤسسين للبشرية والذين درجنا على اعتبارهم، كلّهم أو بعضهم، من الأنبياء، وهم ( آدم، شيث، إنوش، قينان، مهلالئيل، يارد، أخنوخ (إدريس) ، متوشالح، لامك، نوح ) وتتوصل إلى أنهم عشرة ملوكٍ سومريين حكموا مدناً رافدينية معروفة، لكن التوراة حوّلتهم من ملوكٍ إلى آباء / أنبياء بدأ بهم ظهور الإنسان على وجه الأرض).
(2) البعض في زمن الانحطاط العربي الثاني، يذهبون الى مايسمونه “العمل الفكري” ليصلوا حد التخريف البهلواني المزري، كما حالة السيد القمني كمثال، خصوصا نظريته العبقرية عن ابراهيم الاتي الينا من اذربايجان.
(3) المقصود كمال صليبي.
(4) قبل اكثر من عقدين قرات لكاتب عراقي كتابا بهذا الاسم، وقد نسيت اسم الكاتب وبحثت عن الكتاب فلم اعثر علية في مكتبتي، لهذا وجب ان اعتذر من الكاتب والقاريْ، مع التاكيد بان كتابا بهذا الاسم موجود بلا ادنى شك.
متى تغادر البشرية عقلها الحيواني؟/2
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا