(خير الامور اوسطها)
سليم مطر/جنيف
ان الفكر الوسطي، ليس كلام عابر ونوايا حسنة، بل هو فكر عميق قائم على رؤية كاملة للوجود وتأصيل الحياة. مشكلة الانسان انه يميل عموما الى اعتبار ثنائيات الحياة متناقضة، اما خير او شر، اسود او ابيض، مع او ضد :
مع المدينة ام مع الريف؟ مع المرأة ام مع الرجل؟ مع الدين ام مع العلم؟ مع القومية ام مع الوطن؟ مع التراث والتاريخ ام مع الحداثة والمستقبل؟ مع الثورة والعنف ام مع السكوت والخنوع؟… والخ مما لا يحصى من الثنائيات التي قسمت شعبنا واحزابنا الى معسكرات متحاربة، كل منها مع طرف من الثنائية:
ـ العروبي يقدس الامة العربية ويعتبر أي اهتمام بالوطن هو ميل قطري خطير، والقومي الكردي مثله ولكن على الطرف الآخر تماما.
ـ الشيوعي فقد قدس الحداثة والعلم والعلمانية واعتبر أي اهتمام بالدين والتراث والتاريخ نوعا من التخلف والرجعية، بينما المتدين كان عكسه تماما..
ـ انصار المقاومة والثورة يقدسون العنف والقتال باسم مكافحة العدو الظالم، وعكسهم انصار التفاهم مع القوي فانهم يمارسون الخنوع والانتهازية والعمالة للظالم..
وهكذا دواليك من ثنائيات المواقف المتعارضة..
اما الوسطية، فهي تؤمن بأن اغلب ثنائيات الحياة هي (ثنائيات تكاملية وليس تناقضية). فالمرأة والرجل متكاملان واحدهما يكمل الآخر في الحياة، واي طرف ينقص يؤدي الى نقص الطرف الآخر بل غياب الحياة بكاملها.
الريف والمدينة كذلك يكمل بعضهما البعض، كذلك: العلم والدين/ القومية والوطنية/ التراث والحاضر/ الماضي والمستقبل/الديمقراطية والمركزية/ الحرية والمسؤولية..الخ..
اذن الوسطية تتجنب الوقوع في التطرف التبسيطي في(مع او ضد)، بل تعمل على ايجاد الحل الوسط العقلاني والواقعي الذي (يتوسط) ويجمع بين طرفي الثنائية، مثلا:
ـ بالنسبة لثنائية (القومية أو الوطن)، فأنها ترفض التعصب القومي(العروبي والكردي مثلا) المنافي للوطن، كذلك ترفض التعصب الوطني الرافض للانتماء القومي. الوسطية تدعو الى الجمع بين الاعتزاز بالوطن ووحدته، مع احترام الخصوصيات القومية والمحلية ومنحها حقوقها المنسجمة مع الوحدة الوطنية. معتبرة (الهوية الوطنية) اشبه بالبحيرة التي تصب فيها روافد (الهويات الفرعية) القومية والدينية والمذهبية والمناطقية.
ـ بالنسبة لثنائية (الدين أو الحداثة)، فأنها ترفض التعصب الديني الطائفي والسلفي، وكذلك التعصب الحداثي العلماني الالحادي. فتدعو للجمع بين احترام الايمان الروحي والديني، مع تقبل الحداثة والانفتاح على التقدم.
ـ بالنسبة لثنائية (العنف او الخنوع) فأن الوسطية تدعو الى موقف صريح ومكافح ضد جميع الظلام مهما كانت قوتهم، ولكن دون اللجوء للعنف المسلح المدمر للجميع، بل بالكفاح الثقافي والعصيان الشعبي الطويل الامد..
ـ بالنسبة لثنائية (حرية المرأة أو حجبها)، فأن الوسطية ترفض حجر المرأة وحجبها على طريقة التعصب الديني، وكذلك ترفض المغالات الغربية الحداثية في تحرر المرأة وعريها وتحويلها الى ذكر. الوسطية تدعو للجمع بين الاعتراف بانسانية المرأة وحقها بالمساوات القانونية والاجتماعية، وبنفس احترام خصوصيتها البدنية والنفسية الانثوية والامومية وتمايزها الطبيعي عن الرجل.
وهكذا دواليك، جميع ثنائيات الوجود والحياة..
طبعا يجب ان لا يفهم بأن الوسطية لا تؤمن بان هنالك (ثنائيات تناقضية) لا يمكن ابدا الجمع بينهما لانها قائمة على اساس الخير والشر: السلام والحرب، المحبة والقسوة، التسامح والتعصب، العدالة والظلم، الكرم والشحة، الاستغلال والمساوات، الديمقراطية والدكتاتورية… الخ …
بهذه الحالة لا يوجد خيار وسطي ثالث بين الخير والشر، بل يتوجب الوقوف بصورة قاطعة مع الخير ضد الشر.
ولكن يتوجب التدقيق والبحث بعمق للتمييز بين(الثنائيات التناقضية) و(الثنائيات التكاملية). وهنا تكمن اهمية معرفة الفكر الوسطي للمساعدة في عملية التتمايز بين الثنائيات..
ن الوسطية تعني بكل بساطة : تجنب التعصب والتطرف في جميع مواقف الحياة، الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية، وحتى الفردية والنفسية.
ان الفكر الوسطي هو مستقبل الانسانية، لان تجارب كوارث التعصب الحداثي الغربي تدفع الى البحث عن الحلول الوسطى المعقولة من اجل تطوير حضارة انسانية واقعية.
واشد ما تكون امتنا العراقية واجيالنا الشابة بحاجة للفكر الوسطي من اجل التخلص من الانفصام والتطرف والتشرذم بين الثنائيات المهيمنة منذ اجيال طويلة.