ما علمني الطير
طوافُ الإنزياحاتِ الشّعريةِ المميزةِ للقلقِ الإنسانيّ
الدكتور فؤاد مطلب
جامعة الانبار
تزخر مجموعة ما علمني الطير للشاعر خلف الحديثي بأسئلة متنوعة تمحورت حول محورين اثنين لا ثالث لهما فهذه الأسئلة إما أن تكون صوت الوعي الجمعي العراقي الذي تلقى آلاف الكدمات التي ألحقت الضرر بكل شيء فيه إلا روحه والذكريات , أو أن تكون متمحورة حول أسئلة الذات وما يعلق فيها من تجارب تتعلق بالجمال والحب والأمل والتوق للحرية .. ومن الظواهر الشعرية والميتا شعرية التي تمحورت حول المحور الأول كانت الانزياحات الفجائعية التي تحاكي هول الفجيعة في بلاد ما بين الميتتين تلك البلاد التي تحاصر أبناءها بين (طلقتين تخيطان جلد المواجع) أو (التشظي والعيش في ظلال المنافي) وبين هذه الميتة أو تلك يظل سكان هذه الأرض/ المناحة (يتناقشون بأي موت يا ترى ستبيعهم الجيوب المتخمة) .. في قصيدة الأتربة يلجأ الحديثي إلى الانزياحات المزوّدة بأعلى جرعة من الغرابة من أجل تحقيق الصدمة التي يعمل الشاعر إلى أن تكون معادلاً موضوعياً للموت المجاني الذي يصادفنا عند مفترق الطرق وفي بداية (الدرابين) والأزقة الضيّقة , يقول الحديثي في واحدة من استعاراته الصادمة :
وهناك تابوت يدسُّ سُعاله
للراكضين الى خفايا الأنصبهْ
ويبيع للاتين خبز ضلاله
ويقيت من جثث الضحايا مكتبهْ
أو لنلاحظ المشاهد الأخرى التي رسمها في القصيدة نفسها حينما جعل من مشهد الموت والأموات مشهدا عاديا مألوفا يمكن أن يمر بكل واحد منا وينجح بالكاد في لفت الانتباه , ومن الجدير بالذكر القول أن الرثاء يبرز في هذه المجموعة كشاخص طوبوغرافي يرتسم على جغرافيا القصيدة التي هي بحق ذاكرة الإنسان الجمالية. وللرثاء معاني متعددة منها ما يكون رثاء للنوع الإنساني وهو رثاء للإنسان بالمعنى الفلسفي للإنسان باعتباره (كائنا يموت) ومنها ما يكون رثاء لشخص حقيقي ولكن الحديثي ينتقل منه ليتأمل في وضعية هذا الشعب الجنائزية على الدوام . يقول الحديثي :
وأسامرُ الأمواتَ عندَ قبورِها
لتقومَ شاهدةُ الوداعِ مقطِّبَهْ
وكذلك في قصيدة (كانوا هناك) تبرز الإنزياحات الفجائعية لتصور مشهداً سورياليا لا يحدث إلا في بلاد ما بين الميتتين .. يقول الحديثي :
رحلوا وحلمُ اللهِ في أحداقِهم
ميْتٌ يقمّطُهُ الدّمارُ ويصخبُ
ومن أجل أن يستطيع الشاعر إحاطة الوجع وتمكين الصورة الشعرية من الإلمام به فانه يلجأ إلى الثنائيات الضدية المميزة لعصر الحداثة الشعرية لذلك نراه يركز الضوء كثيرا على هذه الجماليات المتأسسة على الثنائيات الضدية فيقول :
مَطري صدوقٌ ما لغيمِكَ يكذبُ
ونزيفُ رعدِكَ في دماكَ مُحدّبُ
في (ساحةِ الطيرانِ) وجهٌ مُتعبٌ
وفمٌ يصيح وآخرٌ يتكسّبُ
يتحاورونَ على مفارشِ جوعِهم
ولهم وعودُ (البرلمانِ) تُكَذّبُ
حيث يبرز هنا حس الانتماء للعراق أرضاً وشعبا وفقراء , كما يبرز حس النقد لهذا الواقع السياسي والاجتماعي الغريب الذي يعيشه العراق في أسوأ لحظاته التاريخية .
لكن التجربة الشعرية عند الشاعر خلف الحديثي لا تتوقف كما أسلفت سابقا عند الفجيعة والتعبير عنها شعريا فقط بل للتجربة الشعرية عنده وجه آخر يضج بالحياة والأمل والتفاؤل ..
ففي قصيدة (أسرار الطين) يبدع الحديثي في الاستجابة لمزاج الحديثيين في حبّ الحياة والانطلاق في الطبيعة الخلابة التي تمارس تأثيرها الساحر على نفوسهم وأذواقهم وطبعا على أشعارهم , ولنستمع إليه وهو ينثر اللؤلؤ الحديثي على مسامعنا :
أجيئُني في فمِ المزمارِ أغنيةً
تُريقُني فيكِ أقداحاً منَ الوَجْدِ
أو يقول في موضع آخر من القصيدة نفسها :
لأنني وَحْديَ المنسيُّ في عطشي
أضعْتُ كأسي وألغى نفسَهُ وِرْدي
كذلك تبرز ظاهرة الفناء في المحبوب في شعر الحديثي وهي ظاهرة جمالية وإنسانية في الوقت نفسه حتى انك لتخال نفسك أمام حالة من حالات النفري أو شطحة من شطحات الحلاج العظيم …يقول الشاعر خلف الحديثي :
يا كلّكِ الآنَ في كلّي أراكِ أنا
وأنتِ كلّي وفيكِ الكلّ يا وَحْدي
وكما اعتمد الشاعر على جماليات الانزياحات الشعرية كذلك نجده اعتمد اعتمادا أساسيا على مبدأ المفارقة في خلق الصورة الشعرية حيث يقول في أحدى انتباهاته المشرقة :
فتّشْتُ عنّي وأخْفى البَحرُ مَوْجَتَهُ
فلمْ أجدْني وملَّ القلبُ مِنْ جُهْدي
وهذا المبدأ الجمالي نجده ماثلا في قصيدة (توهان) فكثيرا ما يتفاجأ القارئ بتتميم المعنى القائم على مبدأ المفارقة ليساهم في بناء شعرية القصيدة من جهة وليشد انتباه القارئ ويهاجمه في أكثر أوقاته طمأنينة من جهة أخرى :
إلى أيْنَ الرّحيلُ أضَعْتُ وجَهي
بوَجْهي حيْثُ يَكْسِرُنا انْكسارُ
هرَبْتُ إلى هروبي دَونَ جَدْوى
وفي المجهولِ ضيَّعَني انْحِدارُ
حيث يركز الشاعر على مبدأ مفاجأة القارئ وكسر أفق توقعه من أجل استمرار مسلسل السحر الشعري أو الشعر السحري ، كذلك نجد الأمر نفسه في قصيدة (تضاريس الخوف) حيث يقول :
رجعتُ إليّ ونفسي استراحَتْ
ولملمْتُ بعضي وشعري الشّفيفْ
في قصيدة جذع النور يكتب الحديثي قصيدته ويمارس بوحه الشعري متناصّا مع القران الكريم وخصوصا مع سورة مريم التي تناص معها في حرف الروي وفي الحالة الإعجازية علاوة على الإيقاع الصوفي للقصيدة وهو في هذا كله يديم أدواته الشعرية التي يحافظ على نصاعتها ورشاقة استعمالها.. فقد أبقى الشاعر على مبدأ المفارقة الشعرية المتعالقة مع الانزياحات اللغوية التي تهاجم وعي المتلقي مراهنة على كسر أفق التوقع لديه ولنستمع إليه قائلا :
هذا الهوى فينا يُلاحقُ ليلَهُ
فيتيهُ موّالاً بهِ رُوحيّا
ويدسُّ في جيبِ الغروبِ بلونِهِ
ويرى به ما لا يرَوْنَ خفيّا
في قصيدة فراشات شعرية يتحفنا الحديثي بقصيدة على مجزوء الكامل مصورا فيها اللهفة والشوق والحنين ..والحب متلوناً بالطبيعة مرة وبقاموس التصوف وشهقات الدراويش مرات أخرى فهو يقول منذ المطلع :
بروحي سِحرُ ألوانِكْ
تُناغي سِرَّ فنجانِكْ
وَتركضُ عندَكِ الأطيار
تَسعى نحوَ أفنانِكْ
تعالي فالمسا قد جاءَ
يَروي فيْضَ ألحانِكْ
فيشدو سرْبُ أطياري
كما يهوى بأشجانِكْ
تَهَادى البحرُ مجنوناً
ليسقي نبعَ رمانِكْ
ويُرْسِلُ موجَهُ تِيهاً
ليَغسلَ ورْدَ سيقانِكْ
وقلبي ظلَّ مَبهوتاً
ليغفو بينَ أحضانِكْ
إليكِ أجيءُ يا وَحْدي
لأعصرَ عِطرَ أردانِكْ
إن تجربة الحديثي هي تجربة شعرية جديرة بالتأمل ولا تكفي هذه العجالة للوقوف بشكل تفصيلي على أسرار هذه التجربة وأبجدياتها المبهرة ولكننا نستطيع التقرير هنا مطمئنين أن الشاعر يبث رسائله التي تمجد الجمال وتقف طويلا في محراب الوجود الذي يبرز شاخصاً في كثير من الأحيان مثل صومعة يلهج فيها العابد المتأمل في (أسرار الطين) وتبتلاته الناسكة .. وأنت تقرأ للحديثي في هذه المجموعة فأنت تستدعي تراثاً طويلا من العشق والوله والانجذاب الروحي والفكري الذي تورط في شرب طريقته كبار العشاق والمتصوفة والمجاذيب ، ولذلك نجح الشاعر في استحضار النفري في تأملاته والحلاج في شطحاته و السهروردي في فنائه .. ويحضر في هذه التكية الكونية أيضاً عمر الخيام في رباعياته المثيرة للجمال والجدل والتي اتحدت بالجمال الكوني لإيمانها بالصدور الواحد عن الجميل جل في علاه .. وبكلمة فان تجربة قراءة (ما علمني الطير)هي سياحة جمالية وفكرية يطوف فيها القارئ ويتعرف على الجمال والحب والوجود الثرّ مجموعا بين دفتي شاعر واحد طاعن بالحب والأقاويل .