في مذكّراته، “حواري مع نفسي”، قصَّ “نيلسون مانديلا”، الزعيم الثوري ورئيس جنوب أفريقيا السابق، هذه القصة الطريقة:
(بعدما أصبحتُ رئيسًا، خرجتُ مع أفراد حراستي للتجوّل داخل المدينة. دخلنا أحد المطاعم، فوقع بصري على شخص ينتظر طلبه. دعوته ليشاركنا الطعام على طاولتنا، وأجلسته بجانبي. كان العرقُ يتصبّبُ من جبينه ويده ترتجف ولا تقوى على إيصال الطّعام إلى فمه! وبعدما انتهينا ومضى الرجلُ، قال لي حارسي الشخصي: “ذاك الرّجلُ يبدو عليه المرض. كانت يداه ترتجفان ولم يأكل إلاّ القليل!” فأجبتُه: “كلا، إنما هو حارسُ السّجن الانفرادي الذي كنتُ فيه. بعد التّعذيب الذي كان يمارسه عليّ، صرختُ طالبًا شربة ماء. فجاء هذا الرجل وتبوّل على رأسي. ربما كان يرتعد خوفًا من أن أردَّ له صنيعه بتعذيبه أو بسجنه. لكنه أغفل أن تلك ليست أخلاقي. عقليةُ الثأر لا تبني الدول، في حين ثقافة التّسامح تبني الأمم.)
ذكّرتني الحكايةُ بمانديلا مصري عظيم تشرفتُ بمعرفته وشرّفني بتصدير أحد كتبي بقلمه الجميل. المناضل الكبير الراحل: “محمود أمين العالم”، رحمه الله وأثابه خيرًا عمّا قدّمه لمصر من نضال وفكر وتنوير.
كان يحكي لي عن ذكرياته في معتقلات 1959، وعن السجّان الغليظ الذي كان يصرخ في وجه مفكرنا العظيم قائلا: (يا مسجون… كسّر الصخرةَ بالفأس. للصخرةِ سبعةُ أبواب. حدِّدْ مكانَ الباب، واضربْ)، هكذا كان يزعقُ سجّانٌ خشنٌ في وجه فيلسوف، وهو يلوّحُ بالسَّوط الذي نالَ من جسد الفيلسوف في المعتقل السياسي. أثناء النهار كان السجّانُ يقسو على السجين ويجعله يُحطِّمُ الصخورَ بالمِعوَل تحت لهيب الشمس. وفي المساء، كان السجينُ يدعو السجّانَ الأُميَّ إلى زنزانته، لكي يُعلّمَه أبجديات القراءة والكتابة، وشيئًا مما فاته من المبادئ العليا وقانون الأخلاق! أهتفُ في عجبٍ: (يا أستاذ محمود! السجّان يجلدك بالسياط نهارًا، وأنتَ تمحو أُميّتَه ليلا؟!) فيقول، وابتسامتُه الرائقةُ الشهيرةُ تُشرِقُ على وجهه: (طبعا يا فاطمة يا حبيبتي. كلٌّ منّا يؤدي دورَه في الحياة بإخلاص وجدية. السجّانُ يظنُّ أنني مذنبٌ أستحقُّ العقاب؛ لأنهم أفهموه أنّ التنوير والمطالبة بالعدالة كفرٌ ومُروقٌ وزندقة وخيانة. ولذلك كان جلْدُه لي واجبًا وطنيًّا يؤديه بأمانة. وأما واجبي أنا، فكان حقَّه الذي في عنقي: وهو تعليمُه وتثقيفه هو وغيره من الأميين الذين فاتهم حظُّ التعليم.) أسألُه في حُبٍّ وإعجاب: (يعني حضرتك لم تكره سجّانَك يا أستاذنا؟) فيجيبُني بحسمٍ ورقّة: (مطلقًا! بالعكس! كنتُ أحبُّه وأشفقُ عليه وأشعرُ بالمسؤولية تجاهه. هو ضحيةُ التغييب والجهل. كما أنني كنتُ أتعلّم منه أسرارَ الصخور ومفاتيحَ أبوابها. أُصغي إليه وهو يتفحّصُ الصخرةَ الكبيرةَ، ثم يشيرُ بإصبعه على مكامن ضعفها السبعة، التي هي أبوابُها، ثم يأمرني أن أهبطَ بمِعولي فوق تلك الأبواب، فتتحطم الصخرة. ذاك كان عملي في عقوبة الأشغال الشاقة. لا تتفتتُ الصخرةُ إلا من نقاط ضعفها السبع، أو أبوابها السبعة. السجّانُ الماهرُ يُعلمني بالنهار كيف أفتِّتُ الصخرَ، وأعلمه أنا بالليل كيف يفتِّتُ أسوارَ العتمة من حوله.) وبعدما ينتهي الأستاذُ الجميلُ من تعليم سجّانه الأبجدية والأخلاق، يقضي بقية ليله الطويل بالزنزانة في كتابة القصائدِ على الحوائط. تلك القصائدُ لا تزالُ شاهدةً وحيّة، شاهدتُها بنفسي، على حوائط سجن القلعة، ترفضُ الحيطانُ أن تمحوَها!
ذلك هو المُفكّرُ والمناضلُ الوطنيُّ الذي كنتُ أسيرُ معه من المجلس الأعلى للثقافة، وحتى بيته في جاردن سيتي، فأراه يصافحُ البسطاءَ في الطرقات، ويمازحُ البوابَ والسائس والشحاذَ، يسألهم عن أولادهم ويسمع شكاواهم! هكذا يفعلُ الكبارُ والأنبياءُ الذين يدركون أن البسطاءَ هم “مِلحُ الأرض” وكنزُ الحياة الذي يجب الاستثمارُ فيهم حتى نعلو ونرتقي. الفيلسوفُ المصري صاحب الأطروحة الملهمة: “فلسفة المصادفة”، التي تُضفِّرُ الفيزياءَ بالرياضيات بقانون الاحتمالات مع الفلسفة والنقد السياسي والجدلية التاريخية، في جديلة فاتنة وخطيرة، تجعلك تعيد قراءةَ التاريخ بعينين جديدتين مُبصرتين بوعي مختلف.
في كتابي الصادر عام 2006: (الكتابة بالطباشير)، كتب محمود أمين العالم مقدمةً فاتنة بعنوان: (تحذير ومقاربة)، يدعو فيها القارئ إلى قراءة كتابي بحذر وتعمّق ودون استسهال. فنشرت جريدةُ “الأهرام” خبرًا عن الكتاب تحت مانشيت مخاتل يقول: (العالم يحذِّر من كتاب فاطمة ناعوت الجديد). يومها أيقظني رنينُ الهاتف في السادسة صباحًا، لأجد أمي تصرخ في الهاتف بهلع: (ليه بيحذّروا من كتابك الأخير؟! كتبتي إيه فيه؟! ) والحكاية أن الخبر لم يضع كسرةً تحت اللام في كلمة “العالِم”، فقرأتها أمي: “العالَم يُحذّر من كتاب ناعوت!”، وارتعبتْ أن يكون كلُّ العالَم كلّه ضدي! “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”
***
مانديلا … محمود أمين العالم … وثقافة السُّموّ
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا