ماركس .. ليس ماركسيا
د. عيسى الصباغ
سافر ماركس الى الجزائر عام 1881 للاستشفاء والعلاج ، مستفيدا من مناخها المعتدل ، كما نصحه الأطباء بذلك ، إذ أنه كان مصابا بالتهاب حاد في جهازه التنفسي ، سبّب له ضيقا في التنفس ، ونوبات سعال شديدة .
وصل ماركس الى الجزائر في العشرين من شباط من العام نفسه ، وبقي فيها ” 72 ” يوما تحت رعاية أصدقائه هناك . من المؤكد أن ذهن ماركس لم يكن خاليا من المعلومات أو البيانات عن هذا البلد ، فقد كان قد قرأ مقالة مطوّلة لأنجلز نشرها في مجلة أمريكية عام 1857 استعرض فيها تاريخ الجزائر السياسي بدءا من المستوطنات القرطاجية على سواحلها وانتهاء بالاستعمار الفرنسي والثورة عليه ، فضلا عن اطلاعه على كتاب ” تاريخ المِلْكية المشتركة ” للمؤرخ الروسي كوفالفسكي الذي أفرد فصلا فيه عن ملْكية الأرض ونظام الزراعة في الجزائر .
الشعب الجزائري وثورته الدائمة
احتلتْ فرنسا الجزائر في عام 1830 م مستغلّة تطوّر آلتها العسكرية آنذاك ، وقد وصف أنجلز الاحتلال الفرنسي في مقالته المذكورة آنفا بالقول :(البلد التعيس بات مسرحا للمجازر الدموية وترويع الآمنين ، وأعمال القمع الوحشية منذ الاحتلال الفرنسي الأول عام 1830) وقد استولت فرنسا على جميع الأراضي الجزائرية وعرضتها للبيع للمستثمرين الفرنسيين حصرا ، مما جعل ماركس يصف هذا الإجراء بأنه ” عملية سطو سافرة ” وفي أثناء وجوده في الجزائر كانت هناك ثورة عارمة يقودها الثائر سِيْدي بو عمامة ، خاض هذا الثائر حرب عصابات شرسة ،ومعارك أسِر في إحداها 300 جنديّ فرنسيّ واستولى على ألف عربة محمّلة بالقمح ، ولم تتمكن قوات الاحتلال الفرنسي من الإيقاع به إلا بعد ان دبّرت مكيدة ، فاعتقلته بعد أن تعهّدت له بالأمان إلا أنها نكثتْ بالعهد وساقته الى المقصلة .
ماركس والثورة الجزائرية
كيف استقبل ماركس هذه الواقعة الثورية ؟
في رسالة بعث بها الى صديقه أنجلز ، مؤرّخة في 18 نيسان 1882 ورد فيها ما يأتي : ( يجب أن أذكر لك هنا مقلبا دبّرته السلطة الفرنسية ضد لص مسكين وقاتل محترف من العرب ، ففي اللحظة الأخيرة التي يسمّيها اللندنيون الخبثاء لحظة الانطلاق نحو الأبدية ، اكتشف بأنه لا يُعدم بالرصاص وإنما سيقطع رأسه بالمقصلة نقضا للعهد ) .
أليس من المؤسف حقا أن ينظر فيلسوف الشعوب المضطهدة الى ثائر عربيّ هذه النظرة المتسمة بالصغار ، واصفا إياه باللصوصية واحتراف القتل ؟ يا ترى كيف كان ينظر هذا الفيلسوف الى مجازر فرنسا في الجزائر ؟ وما مدى أمانته لأفكاره وثورّيته وهو يسجّل صفحة من صفحات كفاح الشعب الجزائري على وفق رؤية مغايرة لما قرأنا وعرفنا عنه ؟ مما لا شك فيه أن ماركس انتبه لثورة الشعب الجزائري ، وانتبه أيضا أن هذا الشعب كان يثور بطريقته وعلى وفق رؤية عربية اسلامية ، مما جعله يأنف من فهمها فضلا عن تأييدها . لذلك قال في رسالة الى ابنته لارا في 13 نيسان 1882 ( ليذهبوا الى الشيطان طالما لم تكن لهم حركة ثورية “) . تجدر الإشارة الى أن المدة التي قضاها ماركس في الجزائر وهي 72 يوما ( لم يحاول يوما الاقتراب من سكان البلد الاصليين ) على حدّ قول أحد الباحثين ، مضيفا : (ولم يُظهر أدنى تعاطف معهم أو مع قضيتهم ، لأنهم عرب مسلمون ) .
أفكار خاطئة
لا أدري من أين جاء ماركس بأفكار وتصوّرات حول الإسلام ، وعدّها مسلمات ، ففي رسالته السابقة الى أنجلز المؤرخة في 18 نيسان كتب حول إعدام قائد الثورة سِيْدي بوعمامة ما يأتي : ( إن السلطة الفرنسية قطعت الرأس عن الجسد بالتمام والكمال ، والآن إذا ما ذهب الجذع الى الجنة ، فإن محمدا سوف يسأله : أين أضعتَ رأسك ؟ أو من ذا الذي فصل رأسك عن جذعك ؟ إنك غير أهل لدخول الجنة ، فلتذهب طعاما لكلاب المسيحيين ، هكذا كان أهله يولولون وينتحبون ) .
كيف يورد فيلسوف علميّ معلومة غير مؤكدة (إن لم يكن ساخرا) ؟ إن إيرادها على هذا النحو يكشف عن جهل فاضح بالإسلام ، فالشهيد شهيد وإن قطّعوا أوصاله جميعا ، وفي عرف الديانة الإسلامية ، أن محمدا لا يطرد أحد من الجنة . إن ما تفوّه به ماركس إنما هي تصورات مسيحية انحدرت اليه من عهود الحروب الصليبية في الأغلب .
وفي بحث حول (تاريخ القضية الشرقية ) يختزل ماركس الحضارة الإسلامية التي امتدّت الى أكثر من سبعة قرون في ثنائية المؤمنين والكفار وهي كما تبدو في غاية التسطيح ، يقول في هذا البحث إن ( القرآن ، والتشريع المستمدّ منه يقلّصان الجغرافية والتنوّع العرقي لمختلف الشعوب في ثنائية سهلة ومريحة وهي : المؤمنين والكفار ) . هل هناك من يجرؤ ويصف هذا الفهم بالفج ؟
وفي أثناء وجوده بالجزائر أهدى الى صديقه أنجلز خنجرا عربيا ، فبعث له أنجلز برسالة شكره فيها ووصف الخنجر بالقول : ” إنه خنجر شرقيّ حقيقيّ ، وحيث يطعن لا ينبت في موضع طعنته عشب أبدا ” والكلام محمول على التورية ، لذا عاد ماركس الى موضوع الخنجر ليقول له : ” إن الخنجر – وكما لمست بنفسك فظاعة العرب – صناعة قبائلية ” . في حين أن ماركس حينما يزور الأسطولين الفرنسيّ والروسيّ في أثناء وصولهما الى الى سواحل الجزائر لا يرى فيهما فظاعة ، وإنما بدا مبهورا ومفتخرا بالتقنيات الحربية لدى الأوربيين .
المركز والهامش
نريد الآن أن نلمّ شتات مواقف ماركس من الثورة الجزائرية وثوارها ، ومن الإسلام والعرب .
كيف نفهم مواقفه هذه ، وهو صاحب الفلسفة التي تريد تغيير العالم والتاريخ ، إذ أثارت صخبا منقطع النظير ، ما زال صداه يطرق الأسماع ويُثير الجدل .
ألمحتْ الباحثة الألمانية مارلينا فسبر في كتابها عن رحلة ماركس الى الجزائر ، الى أن نظرة ماركس الأخلاقية إزاء الشرق إنما هي جزء من نظرة أوربية مركزية استعلائية ، وارستقراطية في جوهرها . والى ذاك أشار أيضا أدوار سعيد في كتابه الاستشراق . نخلص من ذلك الى أن مواقف ماركس (ليس في الجزائر فحسب وإنما في الهند أيضا) نبعتْ من ثنائية الهامش الشرقي والمركز الأوربي . والله وحده يعلم كم في هذه الثنائية من تعالٍ وغرور وبيروقراطية سوّغت سحق الشعوب الشرقية وسرقت ثرواتهم بأيادي المستعمرين وأيادي عملائهم وحميرهم الشرقيين .