علي عبد الأميرعجام
–
يبدو السؤال: “ماذا يعرف الاميركيون عن الثقافة العراقية ؟” مثيرا للالتباس عند مَن سألناهم وهم عراقيون واميركيون على حد سواء، فالاميركي من اصل عراقي يجيب بسؤال استنكاري، وهو على حق: وهل يعرف الاميركي اليوم كثيرا عن ثقافته كي يعرف عن ثقافة الآخرين؟ اما الاميركي فيعترف بان قصورا في فهم التركيبة الثقافية للعراق واكب الغزو وحتى سنوات لاحقة منه، حين بدأت برامج تعتمد قراءات ثقافية واجتماعية للعراق من اجل “فهم يجنب الاميركيين اخطاءً فادحة”، واخذت تلك البرامج تسمية ” معارك كسب العقول والقلوب”.
وحين تسأل: وماذا عن الوجود العراقي الذي بدأ يتعاظم في الولايات المتحدة ما بعد عام 1991 مع لجوء عشرات الآلاف من العراقيين وبعضهم مثقفون وفنانون وكتاب واكاديميون، وما دوره في التعريف بثقافة بلاده؟ يتولى الناقد والاكاديمي حسن ناظم الاجابة بقوله: “الوجود العراقي جديد على اميركا، وعقدان او اكثر لا يمكن لهما ان يخلقا تكوينا اجتماعيا مؤثرا على المستويين الانساني والثقافي وهو ما انجزته ثقافات مهاجرة عبر وجودها لعقود طويلة”.
وفي ما يخص التركيبة الذاتية للتكوين الثقافي العراقي يرى صاحب كتاب “النصّ والحياة” ان “العراقي اقرب الى الفردية، وابعد عن العمل المنظم وهو ما يحتاجه التأثير الثقافي، وعلى الرغم من وجود اكاديميين ناجحين في مؤسسات اميركية وكتـّاب وأدباء وفنانين قبل عام 2003 إلا انهم لم يكونوا مؤثرين اما لكونهم غير معنيين بالعمل العام، او لأنهم كانوا خرجوا من بلادهم بتجارب مريرة عملوا على تدريب انفسهم نسيانها”.
وفي ما يخص المفارقة التي تعنيها مبالغ اميركية طائلة صرفت في العراق على مشاريع اعادة الإعمار، لكنها لم تتضمن مثلا انشاء مركز وطني للفنون، او بناء وحدة انتاج للسينما، ولا حتى بناء مسارح او مراكز للنشر، يقول ناظم”: هناك قراءتان لهذا الامر: الاولى قريبة من “نظرية المؤامرة” وترى ان الاميركيين عملوا على ايصال الاسلاميين الى السلطة، وبالتالي ان هذه المهمة لا تستوجب بناء مراكز ثقافية تنويرية، والثانية هي ان الاميركيين وبعد ان وجدوا ان الاسلاميين هم الاقوى في العراق، تجنبوا الاستثمار الثقافي التنويري كي لا يدخلوا في مواجهة مع مَن يريدون الاقتراب منهم والتحالف معهم اي الحاكمين من الاسلاميين”.
وهذه القراءة تبدو مقاربة لما يقوله الاستاذ الزائر في جامعة ستانفورد الاميركية عباس كاظم، لجهة تغليبه ضعف المعرفة الاميركية بالثقافة العراقية على انه “ناتج من طبيعة النظام الذي تقوم عليه اميركا اليوم: النظام الذي يبدو اقرب الى “الطعام الجاهز” او “الفاست فوود”، فكل القيادات الاميركية وحتى وسائل الإعلام، وهي الوحيدة القادرة على التأثير في الرأي العام، اثناء انشغالها بالعراق لم تكن بحاجة الى المعرفة بقدر حاجتها الى “الايجاز” او “البريفنغ” حتى في اعقد القضايا واكثرها حرجا لاميركا والعراق على حد سواء”. ويضيف الاكاديمي الاميركي من اصل عراقي: ” لا تجد اهتماما لافتا بعرض فني، او كتاب أدبي و فكري عراقي حتى لو كان يخاطب الاميركيين بلغتهم إلا فيما ندر، ذلك ان هذا يندرج في باب المعرفة وهي هنا لا تنسجم مع نظام الايجاز السريع الذي تنتظم فيه القوى المؤثرة في المجتمع الاميركي”.
مسؤولون اميركيون يقرّون بتقصير في فهم ثقافة بلاد الرافدين، واكب توجههم نحو غزوها، ويرون بالذات من عملوا في برنامج متابعة الآثار العراقية المنهوبة، انهم سعوا الى التخفيف من كارثة “التقصير في الفهم الثقافي” وتحديدا ما يخص نهب الآثار العراقية وتدمير المتحف العراق تحت سمع القوات الاميركية ونظرها، ويعتبرون ان مهمة تقصي الآثار العراقية اكان في بلادهم او خارجها، ومهمة العناية بها في داخل العراق، كانت جزءا من برنامج ثقافي جاء تعويضا عن “غياب معرفة ببلاد ضمت كنوزا حضارية تهم البشرية جمعاء”. رسميا ايضا ولكن من الجانب العراقي، هناك المركز الثقافي العراقي بالعاصمة الاميركية واشنطن، الذي استغرق التحضير له نحو سنتين، ويضم نماذج طبق الأصل لتحف قديمة وعريقة وهو مفتوح مجانا للجمهور، وتقف فيه التماثيل السومرية إلى جانب القطع الفنية العراقية المعاصرة، وعنه يقول السفير العراقي لدى الولايات المتحدة سمير الصميدعي:” سيساعد المركز في تغيير التصورات الأميركية عن العراق من مجرد كونه بلدا غارقا في العنف إلى دولة تضرب بجذورها في أعماق حضارة عريقة”.
ويضيف الصميدعي وهو صاحب تجارب في الشعر والتشكيل: أن “العراق كان يعد مركز الابتكار والإبداع في الشرق الأوسط ، بل إنه كان ذات يوم مركز الابتكار والإبداع في العالم قاطبة، ونحن نريد أن يعرف الناس ذلك”. من جهته يرى مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان: ” المركز الثقافي سوف يعزز فهم الأميركيين للعراق فهو يوفر حلقة وصل مهمة من شأنها أن تقدم المعلومات الأساسية والتعليم للأميركيين الذين يرغبون في معرفة المزيد حول العراق وعن المواقع التراثية والثقافية والتاريخية فيه.”
لكن الامر ليس بهذه البساطة في نسختيها العراقية والاميركية، ويظل ابعد ايضا من نشر اكثر من كتاب شعري او روائي لكتـّاب وأدباء عراقيين وليس في عروض موسيقية ينشط في تقديمها فنانون من بلاد منير بشير عرفوا المجتمع الاميركي بعد ان عاشوا فيه مطولا، انه “السيستم” الاميركي في معرفة الآخر، وهو “نظام” يبدو اقرب الى توصيف الاستاذ الزائر في جامعة ستانفورد، عباس كاظم، “نظام لا يستثمر بمعرفة الآخر، ولا بحوار عميق معه، انه اقرب الى دبلوماسية حاملة الطائرات او هو كما عبـّر عنه وزير الدفاع الاميركي الراحل روبرت ماكنمارا حين قال: “هُزمنا في فيتنام لأننا لم نعرف شيئا عن تلك البلاد واهلها”، فثمة مرات عدة كنت اكتب فيها بحوثا معمقة عن العراق إلا انها كانت تعاد الي مع ملاحظة: اختصرها الى اربع صفحات بالكثير.. تلك الصفحات كانت على الأغلب تتحول ايجازا للمعنيين لا يستغرق منهم سوى حديث من دقيقتين او ثلاث”.