لويس أراغـون : الرَّجُـل الـذي جـَمَعَ الأضدادَ في إيقـاع واحـد
الدكتور عبد القادرحسين ياسين
في الثالث والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) عام 1982، فُـُجعـت الأوساط الأدبية في فرنسا، والعالم، برحيل لويس أراغون، أحد أهم وأبرز شعراء القرن العشرين، الشاعر الذي حاول أن يطبع العالم بطابعه.
توفي أراغون عن عمـر يناهز 85 عاماً بعد أن برهن للعالم، بما لا يدع مجالا للشك، كيف يمكن أن يكون الإبداع الفني والأدبي نابضاً بالحياة، مؤثراً وصادقاً في ظل الالتزام اللامحدود بقضايا الإنسان والإنسانية. كان لويس أراغون – على حد تعبيرالفيلسوف الفرنسي بيير موروا – “صوتاً عظيماً.. غـنـَّى للحياة ، في لغة بسيطة ومحكمة”.
ومن نافـلة القول أنه لا يمكن لنا، ونحن بصدد الحديث عن شاعـر، وروائي، وناقـد أدبي، ومناضل سياسي، بحجم لويس أراغون، أن نتناول جميع جوانب حياته، نضاله، فكره، وفنه ،لأنه من الصعـوبة بمكان عمل ذلك مع رجل “يمكنه أن يكتب كلمة واحدة فتعتبر أدباً” ، على حد تعبير الشاعر الفرنسي يوجين غيللفيك، أو مع رجل “جمع الأضداد في إيقاع واحد” ، كما أشار إلى ذلك يانيس ريتسوس، في قصيدته “الضريح الصامت” التي أهداها إلى أراغـون في عيد ميلاده الخامس والسبعين. ولكنني سـأحاول التطرق إلى بعض جوانب حياته الفكرية، والفنية، والنضالية، قدر الإمكان.
جـذور الالتزام
وُلـِدَ لويس أراغـون في ضاحية “نييللي” المتاخمة لباريس، في العام 1897، كطفـل غير شرعي، وقدمته أمه إلى المجتمع الفرنسي كأخ لها، وليس كابن، في الوقت الذي رفض فيه أبوه الاعتراف رسمياً بأبوته له.
لم يدرك أراغـون، الذي عاش عذابات الفقر ، وعانى من عـوز الحياة ، حتى فترة متأخرة من حياته، حقيقة وضعه إلاَّ في سن العشرين. وكانت هذه الواقعة أحد مؤشرات تفسير حياة أراغون الفنية، وروحه المتمردة الرافضة، كما أورثه ذلك كرهاً عميقاً لأسلوب الحياة، والأخلاق البرجوازية المتعـفـنة، وزرع في نفسه بذور الالتزام.
بـيـدََّ أن التطورات الاجتماعية التي عاشتها فرنسا، وعلاقته الخاصة بزعيم الحركة السوريالية، أندريه بريتون، وانضامه إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، كل ذلك أدى إلى التزام أراغون التام، وانحيازه في فـنه ونضاله إلى جانب الجماهير التي آمن بها، وبقدرتها على الفعل والتغيير، حتى يوم رحيله المشفوع بدموع هذه الجماهير، وحبها وتخليدها للرجل الذي أفنى حياته من أجلها، معبراً عن آمالها وتطلعاتها، مستثيراً فيها بكلماته مكامن التضحية، والفداء، باعثاً فيها أسمى المشاعر الإنسانية.
في المعـترك السياسي
ان رهافة روح لويس أراغون لم تـُغمِض عينيه عن قساوة الواقع ومرارته. لقد قاده الواقع إلى الفعل السياسي، الذي جعـله واحداً من أبرز أبناء جيله تأثيراً في هذا العصر.
في العام 1933 عـمل أراغـون محرراً ثقـافيـاً في صحيفة L’Humanité“الأومانيتيه“، الصحيفة المركزية الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي. كما انتخب في ذلك العام عضواً في جمعية الأدباء والفنانين الثوريين، وأدى نشره لقصيدة “الجبهة الحمراء” لملاحقـته من قبل السلطات الفرنسية، وحُكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، بتهمة “إهانة العـلم الفرنسي”. إلاَّ أن الحكم لم ينفذ.
في العام 1934، بدأ أراغوان، الذي “لم يشهد الأدب الفرنسي ، منذ فيكتور هـيجو، شاعراً مثله، له القدرة على اقتحام فنون النثر، وخاصة فن الرواية”، بدأ بإصدار مسلسل “عالم الواقع” برواية “أجراس بال”. وأنهى أراغون هذا المسلسل في العام 1946 بسلسلة “المناضلون”، المكونة من أربعة أجزاء.
وبالرغم من الملاحقة المستمرة له من قبل الشرطة الفرنسية، إلاَّ أن أراغون استمر في خوض غمار المعترك السياسي، من خلال موقعه الأدبي، والتزامه جانب القوى المضطهدة (بفتح الهـاء).
فقد اشترك في العام 1937 في تحرير صحيفة “هذا المساء”، ذات الاتجاه اليساري، التي بلغ معـدل توزيعها نصف مليون نسخة، وبعد أن مُنعت هذه الصحيفة من الصدور، في العام 1939، غادر أراغون فرنسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد لجوئه إلى سفارة تشيلي، من جراء ملاحقة السلطات الفرنسية له.
شاعـرالمقاومة الفرنسية
يعـتبر لويس أراغون، دون منازع، أشهر شعراء المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني النازي لبلاده أثناء الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من أنه كان يقف إلى جانبه شعراء فرنسيون بارزون مثل بول إيلوار، وجان كاسو، وبيير جان، وهنري ميشو، ولويس ماسو، وغيرهم، غير أن هؤلاء ظلوا في الحرب – كما كانوا في السلم – يحملون نبضاتهم الروحية، على أن أراغون نسي نفسه في الصراع، فتكلم عن وطنه المغلوب على أمره، وهو الشاعر الوحيد الذي ترك سجلاً حافلاً بالانفعالات السائدة في زمن الحرب ، تلك الانفعالات كانت تستشعر على نمط حقيقي، منذ أول صدمة للتعبئة، حتى فرصة باريس في التحرير.
بعد عودته إلى فرنسا في العام 1939، قادماً من الولايات المتحدة، أمرت المخابرات العسكرية الفرنسية بوضعه تحت الرقابة الشديدة. إلاَّ أن أراغون، من جانبه ، لبى دون تردد نداء التعـبئة، وخدم أثناء الحرب كمساعد طبيب، باعتباره طالباً سابقاً في كلية الطب لم يكمل تدريبه بعـد.
كانت أولى قصائد أراغون، التي كتبها في الأشهر الأولى من وجوده في الجبهة، تحمل عنوان: “لست أحدَهم”، وفيها يقول:
“لست منهم،
لأن لحمي الآدمي ليس بفطيرة،
حتى يقطع بالسكين،
لأن النهر يبحث، فيجد البحر،
لأن حياتي تحتاج إلى أخت لها”.
في العام 1940، وقع أراغون في أسر القوات الألمانية، إلا أنه تمكن من الهرب، ومُنح لقاء ذلك الوسام العسكري، وهو أرفع وسام فرنسي، وعلى أثر ذلك سُرِّح من الجيش، وكان ذلك في أواخر شهر تموز (يوليو) من العام نفسه.
منشورات منتصف الليل
بعد تسريحه من الجيش استمر أراغون، برفقة زوجته إلسا تريوليه، في خوض النضال السري ضد قوات الاحتلال النازية، فقام بتنظيم جماعات الآباء، واشترك مع عدد منهم في إصدار بعض الصحف والمجلات، الداعية إلى مقاومة الاحتلال.
إن جميع القصائد التي كتبها أراغون، في تلك الفترة الحرجة، من تاريخ فرنسا والعالم، كانت صوراً حية، وتعبيراً صادقاً عن هـول وبشاعة الحرب الدائرة، وعن المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي. ومن أهم هذه القصائد “بساط الخوف الأعظم”، “أغاني فرنسا المهزومة”، “الزنابق والزهور”، و “ريتشارد قلب الأسد”.
وكان لقصائده أثر كبير في نفوس مواطنيه، من خلال إثارتها للشعور الوطني، والثقة بالنفس، للقيام بتحرير وطنهم، وللانتشار الواسع الذي حظيت به هذه القصائد التي كانت تنشر تحت اسم “منشورات منتصف الليل”، لا سيما أن البعض منها تحول إلى أغان تتردد على شفاه الصغار والكبار، وأناشيد تنشد في المعسكرات، لهذا كله طلبت حكومة فيشي العميلة من الصحف والمجلات الفرنسية، في المناطق المحتلة، عدم نشر أية قصائد أو روايات جديدة لأراغون.
في العام 1943 أقام أراغون في مدينة ليون، في جنوب فرنسا، ومنها تابع نضاله، وأصدر ديوانين شعريين، وأسس في ذلك العام، مع كتّاب آخرين، “رابطة الكتّاب”. التي عملت على تأسيس ثلاث من دور النشر في جنوب فرنسا لنشر أدب المقاومة، كما استمر في كتابة قصائده التي تحض على مقاومة الاحتلال والخونة .
وقد جمعت هذه القصائد بعد التحرير، ونشرت في باريس باسم “يقظة فرنسا”. وفي معرض حديثه عن هذه القصائد المطولة يقول الشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس: “إنها كانت تبين الألم الشامخ الذي وسم هـذه الأيام، عندما كان كل شخص تقريباً على أتم استعداد لكي يموت من أجل الآخرين”.
وفي موكب جنازته المهيب سار أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي، إلى جانب كرادلة وأساقفة الكنيسة الكاثوليكية، احتراماً للشاعر الذي “جَمَعَ الأضدادَ في إيقاع واحد”.