تعتبر الحجَاية من الدعامات الأساسية في تطوير عقل الطفل وإعطاء خياله بعدا لا حدود له، وكل الحكايات التي يسردها الآباء لأطفالهم ويستمعون إليهم وهم يحكونها بأفواههم هي من أهم لبنات التنشئة الإجتماعية ،وكل تنشئة إجتماعية خالية من أوقات حكي للطفل حين يريد أن ينام تكون خالية من الروح وربما تعطينا جيلا من نوع لا يكترث ولا يهتم،وبعقل مستلب محدود تؤثر فيه كل أشكال وأنواع البرامج المستوردة فيصبح جيلا فاقدا للهوية واللاشعوربالدفء الإجتماعي كما كان.. لذلك أحكوا لأطفالكم القصص والحكايات وخذوا من أوقاتكم كل الوقت لإمتاعهم وإبحار خيالهم في اللامتنهى مع مداعبتهم وملاطفتهم من حين لآخر كما كانت جداتنا تفعل.
القصة هذه التي اخترت أن أتشاركها معكم هي مأخوذة من عمق التراث الأمازيغي تحمل الكثير من المعاني والدلالات كانت ترويها لنا جدتي في كل مرة فترسخت في خيالينا وروحنا حتى انها ومع تقدمها بالعمر كانت تخلط بينها وبين تفاصيل قصص أخرى فأصحح لها المسارثم تبتسم لي وتواصل السرد وهي تعلم قدر شغفي بحكيها،
هي قصة ساندريلا الأمازيغية أو لونجا التي كان يضرب المثل بجمالها حيث يروى أن مياه النبع جفت ذات يوم فلما استطلع أهل القرية عن الأمر وجدوا خيوط شعرها تحبس مجرى الماء عند النبع لأنها اعتادت تمشيط شعرها الطويل (السالف) هناك.
فكان يا ما كان في سالف العصر والأزمان حين كانت الأرض تأوي مخلوقات من غير الانسان وحين كان المكان يشمل الإنسان والأغوال والأهوال كانت تعيش كل فئة داخل حدودها الخاصة فإن ضل إنسي طريقه وتاه عن حدوده نادى:“ نويرة يانويرا إن كنت من الأغوال والأهوال إبتعدي إبتعدي وإن كنت من الأهل والأحباب إقتربي أقتربي“ فيعيطيه النور المشع من بعيد إشارات يهتدي بها.. وهناك داخل حدود الإنسان كان يسود قانون يسري على أهل المكان فمن يُذنب ُيرمي خارجا ويُلقي به عند الأغوال عقابا له على أفعاله. هكذا كان ومن هناك تنطلق قصتنا في إحدى قرى أرض تامازغا الشاسعة حيث كان يعيش رجل فقير ، كثير الخمول والكسل مع زوجتيه إحداهما عاقلة والأخرى بلهاء وقد أنجبتا له في نفس العمر ولد وبنت وشاءت الأقدار أن تكون الصبية الجميلة هي إبنة الزوجة الحمقاء وهكذا أصبح للرجل عائلة تحتاج لمن يعيلها لكن كسله جعله يكتفي بما يمن عليه أخوه الغني كل يوم وكلما ألحت عليه زوجتاه للخروج والعمل في الحقل كباقي أهل القرية يرد في تثاؤب وخمول:“ من يرزق الوزغة(زرمومية) سيرزقني ايضا „. ظل على حاله كذلك إلى أن حلَ موسم الحرث فاتفقت الزوجتين على تنغيص عيشه لحثه على الخروج للعمل وتناوبتا عليه في الشكوى: “ „مالك يارجل ترضى بالذل والهوان والعيش على الفتات؟ „ألم يقل لك أخوك آخر مرة إذهب واحرث الأرض التي تركها والدك؟“ تكرر الجدال كل يوم حتى ضجر الزوج وقرر أخيرا الخروج للحقل لكن ليس بنية العمل وإنما فقط للإبتعاد عن جو النكد فأمرهما بتحميص حبوب الفول والحمص مع الملح للزرع وتحضير مؤونة شهر له فاستغربت زوجته العاقلة وسألته: “ يا رجل كيف ستزرع حبوبا محمصة؟“ أجابها: „وما أدراك أنت بأمور الفلاحة يا إمرأة ؟ هذه الطريقة ستجعل المحصول وافرا وأفضل من جميع محاصيل الأراضي المجاورة هيا حضرا ما طلبته وكفى ثرثرة وتنڭريش!!“. فحضَرت الزوجتان كل ما طلبه ؛ وفي الغد حمل متاعه على حماره وانطلق في رحلته مارا بكل الأراضي التي يعرفها وتجاوزها إلى أن بلغ أرضا ساحرة و موحشة بطبيعتها الخلابة هناك وجد عينا يتدفق منها ماء عذب فحدَث نفسه: „الله ,أخيرا وجدت المكان المناسب لأرتاح من نكد نسائي و تنڭريشهما، سوف أقيم شهرا هنا لاستمتع بجمال المكان وأسترد نشاطي وحيويتي“ فحط رحاله من أكياس الحبوب, ومؤونته المكونة من تمر و زميتة واستلقى يتأمل جمال الطبيعة الخلاب, هكذا أمضى الرجل أيامه بين أكل وشرب ونوم وخمول إلى أن انتهى موسم الحرث ونفذت مؤونته فقرر العودة لخيمته, شدّ رحاله للعودة ولما وصل تظاهر بالتعب والعياء أمام زوجتيه حتى لا تزعجانه بكثرة الأسئلة عن أحوال الحرث، مع ذلك علقت زوجته العاقلة عليه قائلة:“ يا زوجي العزيز ليتك قضيت شهرا آخر في الحرث انظر كم يبدو وجهك نضرا كأنك لم تشقى أبدا „ضحك في نفسه وتمتم“ ذلك لأني ارتحت من نكدكما“ مرت شهور وأقبل موسم الجني والرجل لم يبرح مكانه لتفقد أرضه حينها سألته زوجته العاقلة: „متى تعود لجني المحصول يا رجل كل أهل القبيلة جنوا محاصيلهم إلا أنت“ رد في تثاؤب كعادته: „طلبتما مني حرث الأرض وقد فعلت الآن اتركاني أستريح“ حينها طلبت منه الزوجة العاقلة أن يدلها على الارض لتجلب المحصول هي وضرتها فوجد الرجل فرصته الذهبية للتخلص منهما للأبد.. قال لهما: „يمكنكما تمييز أرضنا بكل سهولة فقط خذا معكما بلغتي وعصاي وانطلقا إلى أن تبلغا نهاية الطريق ثم واصلا السير ستظهر لكما عين ماء عذب بجوارها مروج خضراء واسعة هناك قيسا حجم المنتوج إن بدت نبتة الفول بحجم العصا وحبتها بحجم البلغة اعلما أنه محصولنا“.
فانطلقتا في الصباح الباكر ركبا على الحمار وقد وضعتا البلغة والعصا في البردعة وأخذت كل واحدة طفلها معها وكلما مرتا بأرض زرعها فول نزلتا لقياس حجم المحصول إلى أن بلغتا مرجا فيه عين ماء فبدا لهما في الجوار فدان شاسع فلما قاستا المحصول هذه المرة وجدتا الحبة بحجم البلغة والساق بحجم العصا فأخذت المرأة الحمقاء تجني وهي تغني فرحا: „هذاهو فولنا والله إيلا فولنا“ سمعها ديك في الزرع فبدأ يصيح: “ حنا الغولة غريب يجني الفول.. حنا الغووولة غريب يجني الفول!! وقد كانت الغولة تخلد للنوم بعدما عادت مرهقة من الصيد لكن صياح الديك شوش عليها قيلولتها فزمجرت: „واش تسكت ولا نجيلك نشرب دمك فجغمة و ناكلك فدغمة و عضامك نقي بيهوم سنّيا“ لكن رغم توعّدها لم يتوقف الديك عن الصياح..فقامت لتلقي نظرة فإذا بها تتاكد من صحة كلامه فسألت المرأتين: „واش الفول اللي كاتجنيو بزريعة ولا بلاش“ أجابته المرأة الحمقاء:“ بالزريعة طبعا“ ابتسمت الغولة مرحبا مرحبا ببنات أختي.. ومن خلال الرد أيقنت المرأة العاقلة أنهما بأرض الغولة.. رحبت الغولة بهما وفكت رحال الحمار ليستريح وألحت عليهما أن لا تجنيا شيئا إلا بعد أن تستريحا وتتناولا الطعام عندها فأخذت العاقلة تجني ما استطاعت من الفول وتخفيه في إزار إبنها أما الحمقاء فتركت ما جنته وتبعت الغولة وفي لمح البصر كانت الغولة قد فصلت رأس الحمارعن جسده وأخرجت لسانه ووضعته في الواجهة ليبدو انه يعلف ثم طهت لهما الجسد وقدمته لهما مرحبة بهما ففطنت العاقلة بمكيدة الغولة وعلمت ان ما تأكلانه هو لحم حمارهما أرادت أن تنبه الحمقاء حتى لا تاكل لكن الحمقاء لم تفهم شيئا وكادت أن تكشفها لولا أن ادعت العاقلة أنها خشيت فقط أن توسخ السجاد فطلبت من ضرتها أن لا تأكل كثيرا.. بعد الوجبة الدسمة وضعت الحمقاء طفلتها التي استسلمت للنوم لكن العاقلة حرصت كل الحرص على ألّا ينام طفلها وكلما غفا بادرت بقرصه كي يستفيق فتركته على ظهرها وهي تفكر في نفس الوقت كيف تخرج من هذه الورطة لأنها تعلم جيدا أن الكل سيلقى مصير الحمار لا محالة، وفي لحظات انتبهت إلى أن جرة الماء فارغة فاقترحت على الغولة ان تجلب لها الماء من العين كنوع من رد الجميل، وبعد تردد قبلت الغولة عرضهما لكنها حرصت على ربطهما بحبل طويل بدعوى أن لا تضلا الطريق عند العودة, أحكمت شد الحبل على قدميهما ودلتهما على الطريق إلى العين.. حملت المراة العاقلة طفلها معها اما الحمقاء فقد كانت طفلتها نائمة ولم تستطع حملها فتركتها عند الغولة وهكذا لم تشك الغولة في نيتهما و ضمنت عودتهما ..ولما بلغتا العين شرحت المرأة العاقلة كل شئ للحمقاء وقالت لها: هذه فرصتنا الوحيدة للهرب خاصة وأن الغولة منهكة في هذه الاثناء!. لكن الحمقاء عز عليها ترك ابنتها هناك.. فطمأنتها العاقلة بأن الغولة لن تستطيع أكل الصبية وإن شاءت الأقدارسوف يأتي من ينقذها وأنه إن عادتا هناك فلن تنجوا بكل الأحوال ؛ إقتنعت الحمقاء وهي تبكي حزنا وقلبها منفطر حزين على فراق طفلتها ، ملأت المراة العاقلة جرار الماء بالحجر حتى تبدو ثقيلة وربطتها بالحبل ثم لاذتا بالفرار. ظلت الغولة تنتظر عودتهما فلما تاخر الوقت قامت بشد الحبال لكنها لم تجلب لها غير جرار ممتلئة بالحجر فاستشاطت غضبا وحاولت اللحاق بهما لكنها كانت مجهدة من رحلة الصيد فعادت لمقرها لتجد الطفلة هناك وصراخها يملأ المكان, حملتها إليها وحذقت بوجهها الذي كان يشع ضياءا فرقّ قلبها لها وأخذت تهدهدها و تغني لها بقلب حزين:“ راري.. راري يا بنيتي يا لونجا.. جيت ناكلك.. توغليلي بين سناني.. جيت نربيك ماغاديش تهنيني“. وهكذا كانت الغولة من سمّىى الطفلة لونجا حين قررت اكتنافها ، فعاشت لونجا في بيت الغولة التي كانت تخرج للصيد وتأكل ما يأكله الأغوال وتجلب للونجا طعامها الخاص بها إلى أن كبرت وأصبحت شابة يافعة بجمال أخاذ ليس له نضير فلاحظت أنها مختلفة عن أمها الغولة وذات يوم سألتها عن السبب فلم تشأ الغولة إخبارها القصة كاملة واكتفت بالقول انها وجدتها عند العين وقررت تبنيها وهي تعتبرها الآن إبنتها.
مرت الأعوام والسنين وفي كل سنة كانت لونجا تزداد جمالا ونضارة، تنشر البهجة بضحكتها العذبة بالرغم من إحساسها بالحزن في قرارة نفسها لإفتقادها خيوط الحقيقة التي قد تدلها عن موطنها وأهلها فظلت تخفي حنينها متقبلة عيشها مع الغولة مكتفية بالحب والعناية التي تقدمها لها. و متأملة ما وراء حدود الاغوال… وهناك في تلك الأطراف المترامية حيث تتواجد قبيلتها كان شباب الحي يلعب الكرة بجوار خيمة عجوز فقدف أحدهم بالكرة عاليا أصابت مقلاة الخبز (الفرّاح) من فوق الكانون فتحطم، فخرجت العجوز غاضبة تسب وتشتم و تلعن ولما عرفت من قذف الكرة توجهت إليه:“ ألست أنت ابن كبير القبيلة؟ لو كان بك ذرة شهامة ما تركت إبنة عمك في بلاد الأغوال و الأهوال وانشغلت باللعب كالأطفال ؟ يا قليل النفس!! “ لم يصدق الشاب ما سمعه وأحس بالإهانة أكتر من الإحراج أمام أصدقائه، كيف لأهله أن يخفوا عنه الحقيقة! كيف !؟عاد لخيمته مشوش البال.. وادعى انه أصيب بالحمى فطلب من مربيته أن تحضّر له طبق عصيدة(حساء ساخن من الشعير) وصحن حناء بارد لعلها تخفف عنه الحمى فلما أتته المربية بما طلب أمسك يدها ودسّه في طبق العصيدة الساخن جدا و أقسم أن لا يترك يدها إلا إن باحت له بحقيقة قصة إبنة عمه المحتجزة في بلاد الأغوال, حاولت المربية أن تفلت يدها لكنه كان مصرّا فوعدته أن تخبره كل القصة ,أخرج يدها من العصيدة ووضعها في صحن الحناء البارد، ثم جلست تقص عليه حكاية لونجا.. أنصت الشاب في ذهول و قررالذهاب لإنقاذ إبنة عمه فمنعته أمه خوفا عليه من أهوال المكان فمن يدخله مفقود ومن ينجو منه مولود ، لكنه لم يبالي إمتطى فرسه وانطلق بسرعة الريح إلى حدود المكان المعلوم وحين بلغ العين ربط فرسه بعيدا ثم تسلق شجرة قريبة وظل ينتظر الوقت المناسب لدخول أرض الغولة وفجأة لمح قدوم فتاة جميلة تحمل جرة ماء، لقد أبهره جمالها فأيقن أنها هي إبنة عمه المفقودة , كان وجهها قطعا من القمروعيناها بحيرتا عسل مصفَى أما شعرها فقد استلَ من الشمس خيوطها الذهبية (إنه سالف لونجا بطبيعة الحال ليس له مثيل) وكانت في كل خطوة تخطوها يهتزخلخالها فيهتز معه قلب الشاب الذي وقع أسيرحبها بعدما جاء لفك أسرها, وحين إقتربت لونجا من العين لتملأ جرتها بدا لها خياله في المياه الجارية فرفعت رأسها نحو الشجرة فزعة: „باسم الله الرحمان الرحيم إن كنت من الإنس انزل وإن كنت من الجن اغبر!“ نزل إليها وطمأنها ثم عرفها عن نفسه وروى لها قصتها كاملة,وكيف وقعت في أسر الغولة وكيف هربت أمها وزوجة أبيها من هناك.. وأخيرا أمسكت لونجا بخيوط الحقيقة وعرفت من تكون لكنها ماتزال تجهل أشياء كثيرة عن الغولة وبالتالي لا يمكنها الهرب وحتى إبن عمها لن يفلت إن اكتشفت الغولة وجوده. أحس الشاب بقلقها من فكرة الهروب فأخبرها بخطته وطلب منها إنتظار الفرصة المناسبة، وإلى ذلك الحين وجب أن تخفيه عن نضر الغولة في مكان آمن. أخذته لونجا إلى المنزل ووضعته في صندوق قديم جدا ،وفي المساء حين عادت الغولة استغربت من رائحة في بيتها فقالت للونجا :“أشم رائحة غريب في المكان ( ريحة ديال القصري والبصري وما يجي عل خاطري)“ طمأنتها لونجا بهدوء:“ يا أمي الغولة كل ما في الأمر أنه دخل طير لبيتنا فاصطدته وطهوته وعمت رائحته المكان“ و مع ذلك أرادت الغولة التأكد أكثر وتفقدت كل أثاث البيت فبدأت تنادي كل أثات باسمه فيأتيها بنفسه واحدا تلو الآخر وتضع عليهم الحناء لتذهب الرائحة الغريبة فأذعن لها كل الأثاث ما عدا الصندوق الذي بداخله إبن عم لونجا فتساءلت الغولة:“ لماذا لا يأتيني الصندوق؟“ قالت لونجا:“ إنه صندوق قديم يا أمي الغولة ولا يقوى على الحركة انظري اليك انت أيضا اصبحتي كبيرة ولم تعودي قادرة على الخروج للصيد كل يوم, أعطني شيئا من الحناء اضعها أنا عليه“ وهكذا نجحت لونجا في إنقاذ الموقف ولم يبق لها سوى إستدراج الغولة لمعرفة كل أسرارها فذهبت إليها ووضعت رأسها على صدرها وقالت لها:“ يا أمي الغولة أنا اليوم إبنتك ولا أزال لا أعرف شيئا عنك متى تنامين ومتى تستيقضين، متى تذهبين للصيد! تتركينني نائمة وحين تعودين لا أعرف كيف تعودين“ أجابتها الغولة:“ أنا يا ابنتي إن سمعتي بداخلي ضجة وأصوات حيوانات و كأنه السوق إعلمي أني في نوم عميق وهذا كل شئ“ ثم تتطلع لونجا الى الأغراض المعلقة بسقف البيت وتسألها مجددا:“ وما بداخل تلك الصُرَات يا أمي إن حصل لك مكروه لا قدر الله لن أعرف أبدا أسرارها“ _“هذه يا إبنتي ثروتي وأسلحتي هنا صُرَة الذهب وبجانبها صُرَة اللويز(سبائك ذهبية) وتلك هناك صُرَة أشواك ومسامير حين أنثرها تصبح الأرض كلها أشواكا فلا يستطيع أحد الهروب والأخرى صُرَة الضباب تحجب الرؤية في واضحة النهار والأخيرة هي صُرَة الوادي إن رميتها يفيض الوادي ولا يمكن قطعه أبدا لكن أنا يمكنني شربه كاملا و إن سقطت مني نقطة واحدة إمتلأ مجددا.
بقيت لونجا بجانب الغولة في سريرها تلك الليلة متظاهرة بالنوم فلم تشأ الغولة إيقاظها واستأنست بجانبها حتى نامت هي أيضا ولما سمعت لونجا ضجة وأصواتا تصدر من جوف الغولة أيقنت أنها في نوم عميق فتسللت ووضعت مهرازا ثقيلا مكانها حتى لا تشعربمغادرتها وفتحت الصندوق على إبن عمها ثم أخذت أسلحة الغولة وتسللا مسرعين وامتطيا الفرس الذي ربطه إبن عمها بعيدا عن البيت وانطلقا خارج أرضها فقطعو مسافات طويلة سهولا وجبالا وفي كل مرة كانت لونجا تسأل البدر(الڭمرة) عن حال الغولة في نومها:“قميرة يا قميرة فين وصلت الغولة ف نعاسها؟“ فتجيبها مازالت نائمة كما تركتها.. فيواصلان عبور الجبال ثم تعود وتسألها مجددا „ڭميرة يا ڭميرة فين وصلت الغولة ف نعاسها؟“ تجيبها أسرعي يا لونجا! أسرعي .. لقد بدأت تتقلب في نومها ثم يقطعان مسافات أطول وتعود للسؤال لكن هذه المرة تخبرها الڭميرة أن الغولة إستفاقت واكتشفت إختفاء كنوزها وهروب لونجا وهي تعلم مكانها من انعكاس صورتها في القمر. كل تلك المسافات التي قطعتها لونجا وإبن عمها كانت بمثابة خطوتين بالنسبة للغولة تخطت بهما جبلين وما إن اقتربت منهما حتى أخرجت لونجا صرَة الشوك ورمتها بها لكنه أعاق الغولة لبعض الوقت فقط ولحقت بهما مجددا فرمتها بصُرَة الضباب الكثيف فلم تعد تراهما وما إن تبدَا الضباب حتى عادت للحاق بهما فلم يبق لدى لونجا سوى السلاح الأخير ما إن رمتها به حتى فاض الوادي وفصلهما عنها فأخذت الغولة تشرب منه كي يجف و تلحق بهما لكن من شدة عطشها كانت كلما شربت منه تسقط قطرة من فمها فيمتلئ مجددا حينها علمت أنها لن تستطيع أبدا اللحاق بهما فنادتها بصوت حزين:“ يا بنتي يا لونجا إني لأحبك كثيرا والآن وقد أصبحت خارج حدودي وكي تبلغي سالمة إلى بلدتك أوصيك إن صادفت أي شخص يطلب المساعدة فلا تساعديه“ ..ثم ودعتها وعادت أدراجها. واصلت لونجا رحلتها مع ابن عمها وفي الطريق صادفا رجلا معه حمار وقد سقطت عنه بردعته أرضا فطلب منهما أن يساعداه في وضعها على الحمار فقالت لونجا لابن عمها:“ لقد حذرتنا أمي الغولة من مساعدة الغرباء“ لكن شهامة ابن عمها تحتم عليه مد يد العون فلم يكترث وسخر من وصية الغولة وقال لها:“ إنها مجرد خدعة منها فهي لا تحب البشر الخيَر“ ثم ساعد الرجل في حمل البردعة ولما وضعها على الحمار طلب منه أن يدلهما على أرض قريبة فيها ماء فدلهما إليها ثم سارا إلى هناك حيث وجدا نسرين يتعاركان فتدخل إبن عمها مجددا لفك النزاع فإذا بالنسر يبتلعه في لمح البصر، فهال لونجا ما رأت وجلست تندب حظها بعدما صارت وحيدة وسط المجهول لكن الطيرعاد محلقا حولها ليدلها عن الطريق إستغربت لمنطقه فأخبرها أنه هو ابن عمها حبيس في جوف الطيروقال لها :“الآن يا لونجا وأنت وحدك إقصدي العين التي تسقي منها خادم بيتنا وهناك إستغفليها واسقيها من العشبة المخدرة من إحدى الشجيرات المسمومة ، أدلك عليها لتغط في نوم طويل ثم أخفيها عن الأنظار وغيري ملابسك بملابسها ولطخي وجهك بالفحم (الكفَوس)حتى تخفي جمالك وتبدي مثلها وعودي بدلا منها إلى خيمتنا.“ حين وصلت لونجا للعين إنتظرت قدوم الخادم وطبقت كل ما قاله لها إبن عمها وعادت إلى الخيمة متنكرة بزي الخادم تحمل جرة الماء لكنها لم تعرف مكان وضعها فسألت سيدتها وكادت بذلك أن تكشف أمرها حين استغربت منها سيدتها :“ألا تعرفين أين يوضع الماء؟“ فاستدركت لونجا الأمر وادعت أنها تفقذ ذاكرتها أحيانا. هكذا لزمت لونجا خلفية الخيمة( الخالفة: وهو المكان المخصص للخدم والدواجن والأواني) تقوم بخدمة عمها وزوجته ليل نهار وفي كل ليلة يزورها الطائر ويسألها محلقا من فوق:“ لونجا! يا لونجا! شنو عشاك الليلة“ فتجيب:“ عشايا النخالة ورڭادي فالخالفة“ فيعود الطير أدراجه وهو يصيح:“ قرْح امَا قرْح ابَا.. قرْح امَا قرْح ابَا “ داوم الطير عل تفقد حال لونجا فانتبه السيد لأمره وطلب من زوجته تغيير عادات أكل ونوم الخادم وظلا ينتظران قدومه ليعرفا مجرى الحديث بينهما فعاد الطير تلك الليلة وسأل لونجا كالعادة „لونجا يا لونجا شنو كان عشاك الليلة؟“ فتجيب:“ عشايا الرفيسة ونعاسي فالڭطيفة“ فرفرف الطير فرحا وراح يردد:“ فرْح امَا فرْح ابَا ..فرْح امَا فرْح ابَا“ حينها تأكد السيد أنه إبنه وقال لزوجته لابد أن ذلك الطير ابتلع إبننا وهو في طريقه لإنقاذ إبنة عمه لم يتمكن من النوم ليلتها ومع بزوغ الخيوط الأولى من الفجر قصد حكيم القرية وأخبره عن الطائر, فكر الحكيم مليا ثم إقترح عليه خطة، طلب منه فيها أن يلحق بالطير إلى رأس الجبل ويقدم له قربانا عبارة عن ثور مالح ولما يأكل منه الطير يمنع عنه ماء العين حتى يسترد إبنه . أعد الرجل الثور المالح ووضعه برأس الجبل فأقبلت الطيور وأكلت منه حتى إمتلأت ثم طارت إلى العين لتشرب إلا طيرا واحدا لم يستطع الطيران لثقل وزنه فعلم الأب أنه هو من ابتلع إبنه فمنع عنه الماء وأمره بلفظ ما ابتلع أولا, إمتنع الطير وبدأ يساوم الأب: ألفظُه أعورا فيرد الأب : لا سليما ..ألفظه أعوجا.. وهكذا حتى اشتدعليه عطشه فلفظه سليما معافى لكن مغمى عليه فاستعان الأب بالبصل ليعيده لوعيه ,استيقظ الإبن أخيرا من إغمائه فحضنه والده حامدا الله على سلامته. في الخيمة كان الجميع فرحا بعودة الإبن لكن الشاب ضل متكتما عن لونجا وحين سُئل عنها أجاب أنه لم يفلح في الوصول إليها والآن بما أنه عاد سالما قد قرر الزواج والإستقرار, زادت فرحة أبويه بقراره ولما سألوه عن العروس أشار الى الخادم. فصُدم الجميع ..كيف لإبن سيد القبيلة أن يرتبط بخادم وهو الذي بإمكانه إختيار أجمل فتاة في قبيلته فأخبرهم الشاب أنها الفتاة الوحيدة التي اعتنت به عندما كان في جوف الطير وكانت كل ليلة تتقاسم معه عشاءها وهوالآن لن يتزوج غيرها. في النهاية رضخ الوالدان لطلب ابنهما وأقاموا لهما حفل زفاف يكاد يشبه المأتم من شدة حزنهما على قراره حيث لم يسعد بالمناسبة غير العروسين وفي صباح اليوم التالي بعثت الأم بالخادمة لتقديم الإفطار للعروسين وما إن دخلت الخادمة حتى أسقطت صينية الفطور وهرولت إلى سيدتها تصيح:“ سيدتي سيدتي إن مولاتي كالقمر وسيدي كالشمس“ لم تفهم الأم قصد الخادمة فذهبت لتقصي الأمر فإذا بها لا تصدق ماترى فزوجة إبنها أصبحت آية في الجمال أي سحر هذا؟ ضحك الإبن من ذهولها ثم سرد القصة كاملة على والديه ،وهكذا عم الفرح كل أرجاء القبيلة وأقاموا إحتفالا يليق بمقام إبنة عمه لونجا التي تربت في بلاد الأغوال سنين طويلة. وهـكـذا ..حــكـــــــايتـــــي مشــــــــات مع الــــواد.. الــــواد وانا بقيــــــــت مع الجـــــــواد.
لونجا
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا