نورالدين التيجاني الادريسي
مهداة الى الطفلة الصغيرة في عمقها سلمى الفيلالي … والشاعر العصامي احمد الشيخاوي في فضائه البدوي الجميل…
ظل صامتا ساكنا أغوار نفسه ، وفيا لأفكاره وتساؤلاته الوجودية إلى حد العناد ، لم تغره شهوة التردي الممتدة عنوانا على عتبات وطنه المسكون عطرا وعشقا، لكنه وفي خلسة من أمره إستيقظ ذات صباح غائم غابت شمسه الربيعية مفعما بحيوية لم تعهدها نفسه من قبل إحتوت كيانه المثقل بفلسفة الحيرة وضيم الجراح ، احلق لحيته المغزوة شيبا لكن دون أن يجرؤ على التضحية بشاربه الذي يحمل في نظره سميائية الشهامة المتناسلة عن أسلاف قيس وعنترة خلع جلبابه البالية لكثرة رقعها ودوام لبسها وألبس جسده النحيف معطفا اسودا باليا ليس على مقاس منكبيه النحليلتين ، أهداه إياه احد أصدقاء الأمس من شاركهم ذات يوم حصير الكتاب وتلاوة بوكماخ وإختلاس بيض الأعشاش ، وقف أمام مايشبه مرآة معلقة بلا إطار ، تمعن لبسه وشكله الجديد كرجل قادم من مدن الجليد ، خرج مثقل الخطوات في إتجاه أمكنة حن لزيارتها ولإستحضار ماتبقى من ذكرياتها ، وفي طريقه شدت مسامعه وشوشات البعض من الفضوليين من أهل قريته أدهشتهم لما رأت أعينهم من تغيير عجيب إحتوى إبن قريتهم وأخرجه من نفسه كناسك قديم ، إبتسم إبتسامة عريضة وإستمر في مشيته غير مكثرت بترهات الغارقين في إسقاطيه الكلام . وفي طريقه إستوقف سمعه وبصره مرج وهرج لتجمع بشري اغلبه أطفال يلهون بكرة مصنوعة من القش ، يتوسطه رجل ستيني يكتنز جسده الشحم واللحم وعلى بطنه ووجهه تظهرعلامات وبركات النعمة والتخمة .وهو يخطب فيهم كفاتح أسطوري عن وعوده المجترة منذ أن أصبح تاجرا للوهم والكلام برحبة النعاج . واصل طريقه ومع نفسه يتساءل ويجيب عن ذلك الوجه المألوفة ملامحه وماهي إلا خطوات قليلة حتى تذكر أن ذلك الفاتح الأسطوري لم يكن غير جزار القلعة القديم الذي حول أحواض ورودها إلى مذابح وساحاتها إلى مقاصل وقراميد أسوارها إلى جماجم وتمائم تحميه من كره الحاسدين. استمرفي خطواته الثقيلة والفرحة تسبقه لاحتضان لوعة المكان الذي أخرجه من وحي نسكه لكن تلك المشاهد القاتمة الألوان حولت ذهنه الى مرستان عتيق طبيبه الجاوي والبخور وبركة الشيخ شمهروش الساكن في العقول والقلوب. إستدارخلفه ، أسرع في مشيته إتجاه الساقية الجارية بقربه مستنجدا برودة مائها لإسترجاع لحظات ذهنه المسروقة منه خلسة في عوالم لايحتمل عيشها ، ولو من باب إستهاماته المنفلتة .وماهي إلا دقائق معدودة حتى وجد نفسه داخل محرابه الأزلي .ولجه حافي القدمين خاشعا ملبوسا بطقوس المكان وبتباريح العشق الممنوع .تشبه شخوص جبران وأرواحه المتمردة جلس على صخرة منحوتة بعوامل التعرية رسمت عليها اشكال هندسية لحضارات حجرية .وصار بتأمل ، يرقب الغروب حين تنسدل الشمس لحظة لحظة بين عراجين الزيتون وسعائف النخل معلنة بحثها عن وطن جديد ربما يتسع لنورها وأشعتها الدافئة دفء صدر امه الحنون الذي افتقدها وهو رضيع في القماط تنهد تنهدا طويلا رددته اصداء المكان ، احس إثرها براحة تغمر جسده النحيل المثقل بوجع الزمن ومرراته تحرك قليلا من موضعه ، اعتدل في جلسته وصار يسترجع ذكرياته مع حكايات المكان.. تذكر لقاءه الأول مع حورية وهي ملفوفة بإزار جدتها كفراشة قزحية تسابق إشراقة الشمس وعذارى القرية لتملأ قللها الخزفية من منبع بئر الزاوية ، تذكر سحر عينيها وغزل جسدها المثير للغواية المحرمة ، تذكر بدموع طعمها الملح سالت منسلة على خذيه حين حكت له عن نغز قلبها وعشقها الاول حين احبته بصمت لبسالة مواقفه لحظات تمرده ثائرا في وجه القائد بوخنجر سالب البقاع والرقاب مدافعا عن محرثة الخماسين وعن شقائهم المداس تحت اقدام الرعاع المخنزرة جناتهم . حين ناحت لإقتياده مأسورا بأصفاد جلاديه في إتجاه قبو القلعة المدفون وشارة النصر الموعود عنوانا كبيرا لوداع الاحبة النائمين دائما بين احضان الهزيمة والانتظار… إنساب حنينه كشلال اطلسي اضاف للمكان طيبا من الذكرى استحلت حواسه المنبعثة من رماد المكان .هزت كيانه .حاول ضم خيط سرابها لكن لم يصدق ان السراب تحول الى حورية الروح والنبض والجسد واقفة امامه كعروس بدوية مدت بحنان وخجل يدها لتلقي عليه بخشوع وروائح القرنفل والحناء وعطر ” الرفضور” تفوح عبقا من فجوات حايكها الشرقي ، ضمت براحة يديها الناعمتين كحرير دمشقي وجه البارد وبصوتها الحنون كترانيم ناي حزين ..إشتقت لك وشوقي بقدر وحشتك لحريتك المأسورة بصدأ الاقفاص مسك بيديها مستنجدا دفء لمساتها إستنهاض قواه لإحتضان طيفها المنبعث من رماد الاحلام كطائر الفينق تعانقا عناق اللهفة احتوى جسدها بين ذراعيه ودخلا في حوار الهمس الخفي تعطلت إثره لغة الكلام وتوقفت حكايات المكان لتبدأ حكايات اخرة إسمها العشق الجميل..
قاص مغربي