فرج ياسين
كأنّ إصبعا وكزَني في خاصرتي ، وكأنّ سانحاً إلهيا أوقع في روعي همسا ناعما : أليستْ هي ؟ أنظر بملء عينيك وبجمرة ذاكرتك .. هذه دُنيا ! كما عرفتَها في سن التاسعة ، تقف في طابور الخبز مع الغروب ، وتُخفي شعرها الأسود القصير بإنشوطة قماش لونُه بنّي ، بعرض الكف ، تتدلى فوق كتفيها ، من دون أن تخفي طُرّة الوِحام الحمراء في نحرها .
هُرعتُ إليها ، وضربتُ الأرض بقدمي فانتبهت ، ولم تبد ِ أية ردة فعل تنّم عن المفاجأة حين رأتني .
قالت : أينَ أنت يا سعد ، لقد انتظرتُك عند عتبة البيت في الزقاق ؟
ولا أدريْ كيف ولماذا قلتُ لها وأنا أرتجف :
ولكنك متّ منذ أربعين عاما !
فشهقتْ متعجبة ، وضحكت بصوت مكتوم ؛ واضعة كفها فوق فمها ، ثم انسحبتْ من الطابور وأقبلتْ حتى صار وجهُها لصقَ كتفي .
همستْ في أذني : سوف يظن الناس أنك مجنون يا سعد ، دعني اضحكُ منك .. ألم تكنْ قد أوصلتَنيْ بحزمةِ الحطب التي أحضرناها من منزلكم هذا الصباح ؛ لكي تَسجرَ بها أمي التنور ؟