د.عبدالخالق حسين
قبل عام كتبت مقالاً بعنوان (نحو علاقة عراقية-أمريكية متكافئة) ذكرت فيه أنه من مصلحة العراق إبرام اتفاقية إستراتيجية قوية بين الدولتين. وكالعادة، تلقى المقال تأييداً حاراً من قبل الواعين المخلصين من العراقيين، ولكن في نفس الوقت انبرى نفر من المصابين بـ(أمريكا فوبيا)، ينتقدون ويكيلون لنا الاتهامات الجاهزة بالعمالة، ليس لأمريكا فقط بل وحتى لإسرائيل. وقد أثبتت الأحداث الجارية الآن صحة ما ذهبنا إليه.
فالعراق بعد أربعة عقود من حكم الفاشية غارق بمشاكل كبيرة وكثيرة لا تعد ولا تحصى، فهناك التمزق والشقاق والنفاق، والصراعات السياسية والأثنية والدينية والطائفية بين مكونات شعبه وكياناته السياسية، إضافة إلى تكالب أعداء الخارج من حكومات يمتلكون الثروات النفطية الهائلة مثل السعودية وقطر وغيرهما، بإمكانهم شراء أصحاب الذمم الميتة، وما أكثرهم في العراق لتدمير بلدهم. والحكومات الإقليمية تريد عراقاً ضعيفاً تحكمه حكومة دكتاتورية تضطهد شعبه، وتبذر أمواله على الحروب العبثية بدلاً من صرفها على البناء والإعمار والازدهار الاقتصادي لرفاه شعبه. وفي هذه الحالة، لا يمكن لأي من يقود الحكومة وفريقه، ومهما أوتي من وطنية وإخلاص وقدرات معرفية وصبر وحكمة أن يقود هكذا وطن وشعب إلى بر الأمان ويخلصه من هذه المشاكل (الكوابيس) التي تهد الجبال، إلا بمساعدة الدولة العظمى، أمريكا. ويجب أن نعرف أن معظم خالقي هذه المشاكل هم يأتمرون بأوامر أمريكا. وتاريخ العراق الحديث يخبرنا أن الجهة التي معها أمريكا هي التي تنتصر، وأفضل مثال هو ما حصل لثورة 14 تموز من تآمر داخلي ودولي إلى أن تم ذبحها في 8 شباط 1963 الدموي الأسود. لذا لا نريد تكرار شباط آخر. فما يجري الآن في محافظة الأنبار على أيدي الداعشيين، وهم أبناء الشباطيين، إلا محاولات يائسة مستميتة لتكرار مجازر شباط الأسود. يقول الفيلسوف الأمريكي، الاسباني المولد جورج سانتايانا: ” الذين لا يستطيعون تذكر أخطاء الماضي محكوم عليهم بتكرارها.”
وبغض النظر عن مقاصد أمريكا في تحرير العراق من أبشع نظام دكتاتوري همجي في التاريخ، إلا إن الشعب العراقي هو المستفيد الأكبر من هذا التحرير رغم ما حصل من خسائر بسبب تبعات إسقاط حكم البعث، والشعب الأمريكي هو الآخر دفع خسائر بشرية، ومادية كبيرة. وهذا ما يسميه آدم سميث بـ(يد التاريخ الخفية) وراء الأحداث الكبرى، فيقول: “نتائج غير مقصودة لأفعال مقصودة، ولكن في نهاية المطاف تكون في صالح المجتمع البشري”. وفي هذه الحالة، في صالح العراق خاصة، والعالم عموماً، حيث تخلص من أبشع نظام فاشي كاد أن يُفرغ العراق من شعبه.
ونتيجة للتركة الثقيلة من الفاشية، وعلى رأسها الصراع بين مكونات الشعب العراقي وغياب الوحدة الوطنية، واستعداد قيادات هذه الكيانات السياسية للتعاون حتى مع الشيطان في سبيل مكاسب شخصية وفئوية عابرة على حساب مصلحة الشعب الدائمة، لذلك نرى قيادات بعض الكيانات السياسية، مثل (متحدون) وجبهة الحوار في زيارات مكوكية إلى السعودية وقطر وتركية من أجل الدعم المالي وتلقي الأوامر والتعليمات، إضافة إلى دور هذه الدول في دعم التنظيمات الإرهابية لوأد الديمقراطية.
وقد استفاد أعداء الديمقراطية من الموروث السياسي العراقي بتأثير من اليسار في عهد الحرب الباردة، بإثارة العداء لأمريكا خاصة والغرب عامة، ورفض أي دعم أمريكي للعراق، ليجعلوه فريسة سهلة لأعدائه، في الوقت الذي يسعى فيه أعداء العراق كسب أمريكا إلى جانبهم واستعدائها على الحكومة العراقية. وهذا واضح من الإعلام العربي، وعلى رأسه فضائية الجزيرة التي كل همها حث الشعب العراقي والرأي العام العربي نفاقاً، على معاداة أمريكا، في الوقت الذي لا تبعد أكبر قاعدة أمريكية عن مقر هذه القناة إلا بضع مئات من الأمتار، وقد بات معروفاً أن أمريكا هي التي تقرر من يحكم دولة هذه القناة، قطر. ونفس الكلام ينطبق على السعودية التي أمرت وعاظ بلاطها من مشايخ الوهابية بإصدار بيانات وفتاوى دعوا فيها الشباب الى التوجه الى العراق لاداء “فريضة الجهاد” بعد أن حقنوهم بالشحن الطائفي ضد الشيعة “الروافض عملاء الفرس المجوس”، لنصرة أخوتهم أهل السنة، واستمرت حملة الشحن الطائفي إلى هذه اللحظة. ونتيجة لهذه الفتنة دفع الشعب العراقي عشرات الألوف من أبنائه الأبرياء ضحايا الإرهاب الأعمى. والأسوأ، أنه حتى القيادات السياسية للمكونة التي دفعت أكبر قسط من الضحايا على استعداد للتعاون حتى مع الشيطان في سبيل المناصب ومعاداة أمريكا. فزعيم التيار الصدري (مقتدى الصدر)، المستفيد الأكبر من إسقاط نظام قتل والده وعمه وعمته وأخوته، كان أول من ينكر الجميل ليرفع السلاح بوجه محرريه ويضرب اليد التي أحسنت له.
فمن نافلة القول، أن شعباً عانى كل هذه المظالم طوال تاريخه الدموي المرير لا يمكن أن ينتقل من أبشع نظام دكتاتوري إلى نظام ديمقراطي بين عشية وضحاها بسلام وسلاسة، لذلك كان من حسن حظه أن تم إسقاط حكم البعث الصدامي الجائر على يد أمريكا، وهذا ما يسمونه بمكر التاريخ. فحكم البعث كان أسوأ من أي سرطان خبيث في جسم العراق. لقد تم استئصال هذا السرطان بعملية جراحية كبرى وخطيرة على يد الجراح الأمريكي، والمريض كان ومازال بحاجة إلى رعاية الجراح وفريقه إلى أن يعبر دور النقاهة، ويتعافى بالكامل. وكيف له أن يستعيد العراق كامل عافيته وقد تكالبت عليه الأعداء من كل حدب وصوب، في الداخل والخارج لقتله وهو في غرفة الإنعاش؟
لذلك، ناشدنا المسؤولين في الحكومة أنه من مصلحة العراق إبرام اتفاقية استراتيجية متكافئة ودائمة مع أمريكا التي ضحت بالكثير في هذه العملية. ولكن من المؤسف أن نرى حتى من أقرب الناس الى رئيس الوزراء، مازالوا يعتبرون العلاقة الاستراتيجية مع أمريكا وصمة عار. فهؤلاء لا يعتبرون العجز في دحر الإرهاب وصمة عار، ولا يرون استشهاد العشرات من أبناء شعبنا الأبرياء يومياً وصمة عار. ولا يبالون بالمخاطر الكبرى التي تهدد الشعب بالإبادة على أيدي شذاذ الآفاق من داعش والقاعدة ومنظمات الجريمة المنظمة وصمة عار.
لقد ساهمت أمريكا مع حلفائها في تحرير القارة الأوربية من النازية والفاشية، واليوم لها قواعد عسكرية في أقوى الدول اقتصادياً مثل ألمانيا، واليابان وكوريا الجنوبية، وحتى الكويت، وقطر وعشرات الدول الأخرى، بل لها قواعد عسكرية حتى في بريطانيا العظمى، ولم يخدش الوجود العسكري الأمريكي من سيادة وكرامة هذه الدول ومكانتها في المجتمع الدولي. ولكن بمجرد وجود بضعة آلاف عسكري أمريكي في العراق لتدريب العسكريين العراقيين على الأسلحة والتكنولوجية العسكرية المتطورة لمواجهة الإرهاب يعتبر مساً بالعزة والكرامة والسيادة الوطنية، ويتصاعد الصراخ وامعتصماه!! أيها السادة، إنه الشعور بالنقص، والإزدواجية في شخصية الفرد العراقي التي أشار إليها عالم الاجتماع الخالد علي الوردي.
نؤكد مرة أخرى، أنه لا تقوم للعراق قائمة، ويتخلص من الإرهاب إلا بمساعدة أمريكا. لذلك نعتقد أن الحكومة العراقية ارتكبت خطأً إستراتيجياً جسيماً حين رفضت إبقاء عدة آلاف من القوات الأمريكية في العراق.
والجدير بالذكر، أنه قبل مغادرة آخر جندي أمريكي العراق في نهاية عام 2011، سلَّمت أمريكا للحكومة العراقية عدة قواعد عسكرية كلفتها عشرات المليارات الدولارات، قدمتها هدية للجيش العراقي. فماذا حصل لهذه المعسكرات الأمريكية الجاهزة؟ لقد سطى عليها الحماة اللصوص (حاميها حراميها) ونهبوها وباعوها في سوق الخردة بأثمان بخسة. فلو بقيت قوات أمريكية وحتى بأعداد رمزية لحماية هذه المعسكرات وتدريب العسكريين العراقيين لما حصل هذا النهب والدمار، ولما عاد اليوم الداعشيون من أبناء الشباطيين ليحتلوا محافظة الأنبار وينشروا في مدنها الإرهاب. بينما الآن يتوسل العراقيون بأمريكا لتدريب العسكريين العراقيين، ليس في العراق، بل في الأردن!. ولماذا ليس في العراق؟ لأن عقدة الكرامة والشعور بالنقص، والمكابرة والعناد. وهنيئاً للأردن على ما يكسبه من فوائد من كوارث العراق. (مصائب قوم عند قوم فوائد).
يمر العراق اليوم بأزمة خطيرة تهدد وجوده بالكامل من قبل المنظمات الإرهابية، القاعدة، وداعش وتجمعات إرهابية أخرى مدعومة من السعودية وقطر وغيرهما. وغني عن القول أن منظمة داعش هي تجمع جيش الحرس الجمهوري المؤلف من غلاة البعثيين منذ عهد صدام لحماية حكمه من الشعب. نهبوا جميع معدات الجيش وذخيرته قبل التحرير وخزنوها في مخازن سرية معدة مسبقاً لهذا الغرض، وحافظوا على طاقاتهم استعداداً لهذه الهجمة. ويتلقى هذا الإرهاب الدموي الشرس الدعم من الشركاء في العملية السياسية، وحكومات إقليمية أشرنا إليها آنفاً. وإذا كان الإرهابيون ركزوا وجودهم في الفلوجة والرمادي والموصل وديالى، فإنهم يواصلون تفجيراتهم اليومية في جميع أنحاء العراق. كما ويخططون لضرب المؤسسات الاقتصادية وعلى رأسها المنشآت النفطية (العمود الفقري لاقتصاد العراق). لذلك شعر المخلصون في الحكومة بهذا الخطر الداهم، فقام وفد عراقي برئاسة نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة، الدكتور حسين الشهرستاني بزيارة إلى أمريكا ولقائه بوفد نظير له للتعاون في مجال حماية المنشآت الاقتصادية العراقية.(2) ولكن رغم كل ذلك ينبري بعض المحسوبين على رئيس الوزراء بمكابرة وعناد لينفوا عقد مثل هذه الاتفاقيات الأمنية لأنهم يعتبرونها وصمة عار!!.
ومن كل ما تقدم، نناشد الحكومة العراقية بتنشيط الاتفاقية الأمنية الاستراتيجية مع أمريكا، وبشكل نزيه، إذ ليس من الإنصاف أن يتجاهل العراقيون هذه الاتفاقية ويطلقوا تصريحات معادية لأمريكا، ولكن ما أن يتعرضوا إلى تصعيد موجة الإرهاب، ليركضوا إلى أمريكا ويرجونها بتقديم المساعدة، وكأن أمريكا صاحبة دكان لبيع الخردوات يمكن الشراء منها عند الحاجة. يجب على الحكومة العراقية أن تعيد النظر في هذه الاتفاقية، وتنشطها نحو تعاون عسكري صريح إلى جانب التعاون في المجالات الأخرى. فالوضع العراقي لا يتحمل المزايدات في الوطنية المزيفة، والمكابرة والعناد، والاجتهادات الخاطئة والأخلاقيات البدوية الرعناء. الذين يعتبرون معاداة أمريكا شرط من شروط الوطنية يلحقون أشد الأضرار بالشعب والوطن، فهم سجناء كهوف الحرب الباردة والتي انتهت بهزيمة أيديولوجياتهم الفاشلة وفق مبدأ البقاء للأصلح. فالسياسة فن الممكن، والبحث وراء مصلحة الشعب. وكما قيل: “ليس في السياسة أصدقاء دائمين، ولا أعداء دائمين، وإنما هناك مصالح دائمة”.
[email protected]
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
ــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1- عبدالخالق حسين: نحو علاقة عراقية-أمريكية متكافئة
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/?news=570
2- Crucial Iraq energy security seeks U.S. focus
http://www.iraqoilreport.com/beyond-the-headlines/crucial-iraq-energy-security-seeks-u-s-focus-11802/