ميسون أسدي
لماذا تبكين؟
سألت صابرين صديقتها جيهان التي كانت “تداري دمعتها”، وغارقة في تفكيرها، كما لو أنّ لهيب روحها قد خمد. فقد بدت وكأنّها قدّت من شمع. استغربت صابرين هذا الصمت الذي لم تعهده من صديقتها، فهي كثيرة الكلام وتتحدّث دون توقّف.
احترمت صمت صديقتها ولم تكرّر السؤال عليها، وفجأة انفجرت جيهان وقالت بغضب:
الرجال هم الرجال، لا فرق بين عربي وأعجمي.
ثمّ عادت إلى صمتها، فوجدت صابرين في جملتها مفتاحًا لفتح حديث قد يخفّف عنها كربها، فقالت:
والنساء هم النساء، لا فرق بين عربيّة وأعجميّة.
شعرت جيهان بأنّ صديقتها وضعت اصبعها على جرح لم ينكأ بعد… فقالت وهي تصطنع الكبرياء:
أنا الآن بدون صديق، تبًّا لجميع الرجال.
وهل تلومين الرجال بما أنت عليه الآن؟
فكّرت جيهان قليلا، قبل أن تجيب، وهذا أيضًا أثار استهجان صديقتها، فهي تعرف بأنّها تجيب عن كل سؤال بسرعة، دون أن تفكّر… وما هي إلا لحظات حتّى انطلقت بالحديث كعادتها، دون توقّف.
كما تعرفين، كنت أسكن بالإيجار في بيت جميل في القدس، لعدة سنوات، وكنت أتأخّر أحيانًا بدفع الايجار بسبب ظروفي الاقتصادية، ولكنّ صاحب البيت كان متفهّمًا ومحبًّا لي لأنّي دائمًا أدفع، حتّى لو كان هناك تأخير. وكما تعلمين أيضًا، أنّي بعد أن تركت مكان عملي في القدس وانتقلت إلى عمل جديد في بيت ساحور، وضّبت أغراضي في صناديق كرتونية وقلبي منقبض لأنّي سأنتقل إلى بيت جديد ومالك جديد، وأنا لا أملك قوة لذلك، فانتابتني موجة من الحزن وأنا أرى أغراضي أمامي مكوّمة في الصناديق، فرحت انتحب بحرقة ومرارة، وكان صديقي السابق ألبرتو بجانبي، وسألني: “لماذا تبكين الآن؟”، لم يعجبني السؤال، فصياغته ونغمت صوته كانت تنمّ عن عنف سلبي ألغى كلّ مشاعري. تمالكت نفسي ومسحت دمعتي ولم أجب على سؤاله، فأنا لست بحاجة لإعطاء تفسير لأي أحد. أنا حرّة أن أبكي متى أشاء وأين أشاء…
قاطعتها صابرين مستفسرة:
لحظة، لحظة… لم أفهم الغرابة في سؤاله عن بكائك. ألم تروي لي بأنّ صديقك هذا، يعيش طوال حياته متنقّلا بين بلد وأخرى نظرًا لطبيعة عمله؟ فأنا أرى سؤاله قد جاء لأنّه اعتاد التنقّل والأمر بالنسبة له عادي ولا يحوج البكاء.
أنا أيضًا اعتدتّ التنقّل.
إذًا فسؤاله منطقي، ويبدو أن هناك سببًا آخرًا جعلك تبكين!
ألبرتو شاب إيطالي، معه ماجستير في إدارة أعمال، متزوج من سيّدة رومانيّة وله اربعة أبناء، وهو كالبحّارة له خليلة في كلّ ميناء. عمل في عدّة دول أفريقية، وحدّثني كثيرًا عن علاقاته مع النساء السود وكيف أنّه كان يضطرّ أن يدفع لهنّ أجرة الباص ذهابًا وإيابًا لكي يحضرن إلى بيته ويمارس معهن مُتعه السريرية. فهو أحمق كالطير المنتوف. يا له من متعجرف ويتصرف بفوقيّة مع النساء السود، وأنا متأكّدة بأنّه كان يعاملني بالمثل، بيد أن هذا يتأتى عن الجهل.
استغلّت صابرين لحظة صمت وقالت مقاطعة:
لكنّك مختلفة، فأنت حاصلة على الدكتوارة في موضوعك، أي أنّك بمستواه وأكثر.
صحيح، لكنّه وسيم وأنا تخطّيت الأربعين وسمراء واعتبر عانس في عيون الكثير.
كيف تمّ التعارف بينكما؟
التقيت معه في إحدى أمسيات القدس، اتفقنا أن تكون اللقاءات فقط من أجل المتعة، فأنا وحيدة وهو وحيد. التقينا لمدّة شهرين، وقد تطاير مثل تطاير الدخان في الرياح كل ما كان يفصل بيننا وكل ما هو مصطنع ومعقّد وبقيت فقط الشفتان الملتصقتان بالشفتين والعينان المحدقتان في العينين.
وكيف تمّ الانفصال؟
مرّة توجّه اليّ ألبرتو وطلب منّي أن أعمل في مشروع خاص لصالح الشركة التي يعمل بها مقابل مبلغ جيّد، وكنت بحاجة ماسّة لذلك، فوافقت شرط ألا نتواصل عاطفيا معًا خلال هذه الفترة.
لماذا هذا الشرط، فالعلاقة لن تؤخرك عن عملك، ومن المؤكّد أنك لن تعملين ليل نهار، وتحتاجين لفترات راحة بين أحضان رفيقك؟
هو أيضًا استغرب الأمر، لكنّي أفهمته بأن لقاءنا سيضر بي من ناحية مهنية، فإذا أشيع بأنّي أعمل لصالح من أقيم معه علاقة غراميّة، فلن أحصل على مشاريع عمل مع شركات أخرى في المستقبل وستتزعزع مهنيتي وهي فوق كل شيء. وما همّه هو، فهو مدير الجمعية التي سأعمل بها وهو سيد نفسه.
وماذا حصل بعدها؟
انقطعت عن لقائه خلال العمل على البرنامج نحو شهر ونيّف، وفي إحدى المرّات، مررت بالقرب من بيته، فقرّرت أن أقوم بزيارة خاطفة له، وعندما رآني، سألني بعنجهية وفوقية: “شو عدا ما بدا؟ ألم تجدي من يقوم بمهمتي؟”. فأجبته على الفور: هذا ليس من خصوصياتك ولا تشرعن لغيرك ما لا تشرعنه لنفسك. وتألمت نفسي كربًا وغمًّا.
أفهم أنّ شعورك ناتج عن كونك امرأة عربية وبأنّك لست بمستواه على جميع الأصعدة، يعاملك مثل النساء السود في افريقيا.
صحيح، فسؤاله التهكّمي كان من منطلق فوقيّته عليّ حتّى ولو كان أجنبيا.
عزيزتي هذا شعور بالنقص ليس له مبرّر، إلا إذا كنت غير موفّقة مع الرجال بشكل عام، وقد شعرت بأنّك ستفقدين هذا الشاب الوسيم كما ذكرت؟
لنفرض أن كلامك صحيح، فلماذا ماطل في الدفع مقابل العمل الذي أنجزته له؟
كيف ذلك؟
انهيت التقرير الذي طلبه منّي، وطلبت أن يدفع أجرتي حسب الاتفاق الذي بيننا، وهو ثلاثة آلاف يورو، ولكنه تهرّب من الدفع بحجج واهية وغلّبني كثيرًا. فاضطرت أن أتوجه برسالة لمديرته المقيمة في روما مع نسخة له، ولكنّ المديرة لم تجب، وهو جنّ جنونه عندما علم بأنّني شكوته لمديرته، وعندما سألته عن عدم رد المديرة على رسالتي، أخبرني بأنّ المديرة لا تعرف الإنجليزيّة، فهي تتحدّث الإسبانيّة والايطاليّة، فطلبت منه أن يخبرها بأن تردّ عليّ بالإسبانيّة، لأنّي أجيدها.
وهل فعل ما طلبت منه.
نعم، وأجابتني بالإسبانيّة، تشكرني على جهودي التي بذلته للشركة، وبأنّ المبلغ سيصلني في الوقت المحدّد، أي بعد تسليم المشروع بثلاثين يومًا.
وهل حصل كل ذلك بالفعل؟
حصل.
عادت جيهان للصمت وأخذّت تفكّر بالإجابة الأخيرة لها وهي تنظر إلى صديقتها صابرين مع أكثر من علامة سؤال.
ابتسمت صابرين وقالت بهدوء تام:
يعجبني أنّك توقفت عن الحديث، فهذه أوّل مرة أراك تتفحصين جوابك جيّدا، مع أنني كنت متأكّدة منه، ولكنّني سألتك إيّاه لأدلك عن موقع الألم الحقيقي لديك، اسمعيني ولا تقاطعيني. تعالي نستعرض المعطيات… أولا، كان هناك اتفاق بينكما أن تكون العلاقة فقط من أجل التسلية، وهذا بطلب منك… ثانيًا، خلال العلاقة، وفّر لك عملا تجنين منه مبلغّا جيّدًا من المال، في الوقت الذي كنت بحاجة ماسّة للمال، واستجاب لك بأن تقطعي العلاقة معه أثناء العمل، رغم أنّه لم يتّفق معك بالرأي… ثالثًا، كان مصيبًا بأنّ المديرة لا تعرف الإنجليزيّة وطلب منها أن تتواصل معك بالإسبانيّة، والنتيجة حصلتِ على أجرتك حسب الاتفاق وفي الموعد المحدّد. وأنا لا أرى في تحاملك عليه سوى ما قلتيه لي في بداية حديثنا.
طبطبت جيهان بقدمها وشبكت يديها واسبلت جفونها وقالت:
ماذا قلت لك؟
قلت “أنا الآن بدون صديق”. ثمّ أردفت “تبًّا لجميع الرجال”. أصبحت ساخطة على جميع الرجال لأنّك فقدت هذا الصديق، مع أنّك كنت تعرفين أن العلاقة ستنتهي، لكنّك نسيت ذلك، وأخذت تحمّلين تصرفاته على أنها أخطاء ومن منطلقات فوقيّة وعنصريّة، وهو لم يقصّر معك، فقد كان معك حتى آخر يوم، عندما رزمت أغراضك في الصناديق الكرتونيّة، وانتقلت من بيتك… وأريد أن أذكّرك بما قلنا في بداية حديثنا “الرجال هم الرجال والنساء هم النساء”.
فقالت جيهان بصوت خاو:
نسيت أن أقول لك، بأنّني على عجلة من أمري، فهناك الكثير من الأعمال المتراكمة وعليّ إنجازها. إلى اللقاء…