د. عماد الدين الجبوري
عندما أستولى الشاه إسماعيل الصفوي (1501-1524) على بغداد في 914 ه/1508 م، نصّبَ خادم بيك والياً عليها؛ وأطلق عليه لقب “خليفة الخلفاء”. وهو بذلك قد أنقص من قيمة التشيع الذي فرضه عنوة في 1507، وناقض العبارة التي أدخلها في الآذان: “أشهد أن علياً ولي الله”. حيث جعل من خادمه يعلو مرتبة خلفاء رسول الله في عصر صدر الإسلام، وكذلك لبقية الخلفاء المسلمين. ورغم إن هذا التنصيب ينم عن تهكم وإحتقار واضح، وإنحراف عن الإمامية نحو تشيع فارسي فاضح. إلا أنه يكشف أيضاً حقيقة التستر بالمذهب الديني لأهداف سياسية ولغايات فكرية تعكس العقيدة الصفوية المتصلة بالنزعة الشعوبية الفارسية التي ظهرت في العصر العباسي الثالث (946-1055). وكان من أقطابها الشاعر أبو القاسم الفردوسي (935-1020) في ملحمته “الشاهنامه” التي يهجو بها العرب إيما هجاء.
يشير المؤرخ والفقيه بدر الدين الحسن أبن شدقم (1526-1587) في كتابه “تحفة الأزهار وزلال الأنهار” قائلاً: “فتح الشاه إسماعيل بغداد وفعل بأهلها النواصب ذوي العناد ما لم يسمع بمثله قط في سائر الدهور بأشد أنواع العذاب حتى نبش موتاهم من القبور”.
ويقول المفكر الإيراني علي شريعتي (1933-1977) أن السباب والشتم واللعن هما من منطق التشيع الصفوي. وهو “تشيع الجهل والفرقة والبدعة، وتشيع المدح والثناء للسلطات، وتشيع الجمود والركود بتأدية طقوس عبادية ومذهبية دخيلة على التشيع الأصيل”. أن هذا التشيع يُعطل مسؤوليات المسلم. ويضيف أن التشيع في إيران ورموزه هي “رموز مسيحية ومظاهر مسيحية، أدخلها الصفويين على طلائع الغزو الغربي لكي يفصلوا إيران تماماً عن الإسلام السّني الذي كان مذهب الدولة العثمانية”.
أما الشاه عباس الصفوي (1588-1629) فقد أثخن القتل والدمار بنحو يفوق ما فعله أسلافه. ففي توجهه إلى بغداد، أعطى الأمن والأمان للبغداديين شريطة أن يسلموا أسلحتهم. وما أن فعلوا حتى غدر بهم، فأخذ يسفك الدماء ويهتك الحرمات بلا هوادة. وخرب الجوامع ونهب المراقد، ومنها مرقدي أبو حنيفة وعبد القادر الكيلاني. وكذلك حول المدارس الدينية إلى إصطبلات. وبما أن معظم أهل بغداد فضلوا الموت على أن لا يغيروا عقيدتهم بالتشيع الصفوي، لذا كان الهلاك نصيبهم. وأخذ أطفالهم ونسائهم وباعهم كعبيد إلى إيران، ولم يُعرف لهم خبر. وكان ينوي إبادة “أهل السّنة” في بغداد، فطلب من سادن كربلاء أن يعد قوائم حول هذا الشأن.
لكن بغداد تبقى عصية على أعدائها، لأنها في قلب العراق والعراقيين. فإذا أستطاع الشاه عباس من دخول بغداد والسيطرة على الموصل وكركوك ومعظم مناطق البلاد، فإنه لم يحقق غير تدمير الحجارة، وتدنيس تربة الرافدين التي غادرها في 1626.
وإذا أستند عباس الصفوي على التحالفات الأوروبية في حروبه وتوسعاته في بلدان المسلمين، فإن هكذا نهج ما زال مستمراً في السياسة الإيرانية العدوانية. وما توافقها مع المحتل الأمريكي الذي دخل بغداد في 9-4-2003، إلا حلقة جديد في سلسلة قديمة. لذلك لا غرابة أن يفعل الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (2005-) ما لم يفعله أحداً قبله في العالمين العربي والإسلامي. حيث زار بغداد في 2-3-2008، ليرسخ الكتلة المصنوعة والمدعومة إيرانياً في تسلطها على مقاليد الحُكم. خصوصاً وإن زيارته جاءت تتويجاً لِما مهدت إليه فِرق الموت الصفوية بتأجيج الفتنة الطائفية التي راح ضحيتها مئات الآلاف من العراقيين ما بين 2006-2007. ناهيك عن أربعة ملايين في شتات التشريد والتهجير داخلياً وخارجياً.
وبعد أن فشلت خطة تمزيق النسيج الإجتماعي العراقي. وألحقت المقاومة العراقية هزيمة ميدانية بالجيش الأمريكي الذي أعلن إنسحابه قبل 31-12-2011. والتقهقر والتخلف الذي يعانية شعب العراق على مدى السنوات العشر الماضية. فضلاً عن الظلم والحيف والإستبداد والطغيان الذي يمارسه رئيس حكومة الإحتلال الخامسة الطائفي نوري المالكي، والتي تجلت في مجزرة الحويجة بتاريخ 23-4-2013. لذا تحولت التظاهرات والإعتصامات في المحافظات الست المنتفضة إلى ثورة شعبية لم تنسى شعارها “قادمون يا بغداد”.
لذلك بدأت منذ فترة وجيزة الميليشيات الصفوية المتمثلة في “عصائب أهل الحق” التي يرأسها قيس الخزاعي، وكذلك “جيش المختار” الذي يقوده واثق البطاط، بالإنتقام والتطهير الطائفي في بغداد. فمن قتل المصلين جهاراً نهاراً إلى عمليات الخطف والإغتيالات المتواصلة. ومن بين الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام العراقية، ما نقلته “منظمة الرصد والمعلومات الوطنية” بما يلي:
“قامت ميليشيات العصائب بعمليات إغتيالات واسعة للعراقيين من المكون السّني. وتشير المعلومات إن هذا اليوم الموافق 22-5-2013 بتصفية 13 من سكنة مدينة الحرية في بغداد، من ضمنهم أشقاء اللاعب السابق خميس حمود. ويذكر شهود عيان إن هذه المجاميع المجرمة تتحرك في مناطق بغداد بحرية تامة، وتقتل بالقرب من السيطرات الحكومية ومراكز الشرطة في المناطق المختلطة وغير المختلطة. لأنها تتحرك وتنفذ بسيارات الحكومة، ومزودة بباجات لغرض المرور بحرية من نقاط التفتيش، وتتكتم أجهزة الإعلام الحكومية ووسائل الإعلام الأخرى المرتبطة بها على عمليات التهجير والتطهير الطائفي في مناطق بغداد. ويتحدث المواطنون إن عمليات التهجير والقتل الطائفي بدأت رسمياً”.
لماذا بغداد؟
إن التركيز الصفوي المستمر تاريخياً بالإنتقام من بغداد وأهلها، لا علاقة له بمكون معين من المسلمين. فلو كان الشيعة هم الأغلبية الكبرى في الأمة الإسلامية، لأختار الصفويين المذهب السّني ملجأً يتخندقون فيه، وينطلقون منه في محاربة الشيعة. فالحقيقة إنما تكمن في العقلية والنفسية السلبية التي تطغي على سلوكية الصفويين. إنهم الإمتداد الطبيعي إلى الحركة الشعوبية في القرن العاشر الميلادي، التي تمجد العنصر الفارسي، وتحط من منزلة العرب والعروبة.
إن بغداد هي رمز الحضارة العربية الإسلامية، وهي التي جعلت بلاد فارس تمارس اللغة العربية على مدى أربعة قرون، فحسّنت وطوّرت اللغة والأدب الفارسي. ألم يكتب الفردوسي للخليفة العباسي قصيدة عربية من ألف بيت. وفي بغداد نظم قصة “يوسف وزليخة” لإرضاء أهلها عما كتبه في “الشاهنامه”. إن بغداد أسماً وموقعاً يعود إلى الزمن البابلي، فقد كانت قرية في عهد الملك حمورابي (1792-1750 ق. م) وشيد عليها الخليفة العابسي أبو جعفر المنصور (136-158 ه/754-775 م) عاصمته التي أسماها “مدينة السلام”. فهي عراقية عربية عريقة الوجود، ولا تخص إلا العراقيين وحدهم.
ومن هنا تجد أن الصفويين دائماً يتربصوا الفرص للإنقضاض على بغداد بغية خراب حاضرها وطمس ماضيها وتضييع مستقبلها. بيد أن بغداد أزلية الوجود وأبدية البقاء المكاني. وإن قبائل الفُرس جاؤوا من شرق الهند وأستقروا في منطقة شيراز في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد. وإن “فارس” تعني السائب أو الغازي، حيث كانوا قُطاع طُرق. وأن أقدم نص مدون عنهم قبل قيام الدولة الإخمينية (559-331 ق.م)، هو ما جاء وصفهم في التوراة على أنهم: “أناس برابرة جداً، وسفاحون لا يرحمون جداً”. وبالتالي فإن بغداد التي تمثل التدفق الحضاري العراقي، فإنها الشاهد الثابت عبر العصور والأزمان، ومنه وقتنا الراهن الذي يظن الصفويون الجُدد إنهم سيحققوا ما لم يحققه أسلافهم.
فهل عرفتم السبب؟