في أعقاب انقلاب 17/30 تموز/يولبو 1968 بدأ صدام حسين في وقت مبكر ببناء جمهورية الرعب البعثية، على أسس معينة لا تختلف كثيراً عن جميع الدكتاتوريات في العالم، خاصة في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ولكنها تميزت عنها في عدة نواحي تستوجب الإشارة إليها لأهميتها في مواجهة نظم من هذا الطراز في المستقبل، منها:
* استفاد إلى أقصى الحدود من خبرة وتجارب الدول الأخرى في سبل ممارسة الإرهاب والقمع والقسوة البالغة لحماية النظام الدكتاتوري من الرافضين له والمناضلين ضده أو المنافسين له من أعضاء حزبه.
* كوَّنَ خمسة أجهزة أمنية رسمية تمتد أفقيا وعموديا في المجتمع العراقي والقوات المسلحة كانت تقوم بمراقبة الناس أولا، وكان بعضها يقوم بمراقبة البعض الآخر ثانياً، وكان يديرها أفراد من عائلة صدام حسين وخيوطها جميعاً تنتهي بيديه، كما أن بعضها كان يعمل في الخارج لمراقبة الجاليات العراقية أو الحصول على معلومات تجسسية لمصلحة النظام ثالثاً. وكان أفراد هذه الأجهزة يرتبطون بعدد كبير جدا من الوكلاء الرسميين وغير الرسميين من النساء والرجال، سواء أكان ذلك وفق إرادتهم للحصول على مكاسب أم تحت طائلة التهديد والوعيد. وهي أجهزة كانت منظمة وفق الأسس الحديثة ومزودة بأحدث وسائل التكنيك والتكنولوجيا وبالخبراء من مختلف البلدان، إضافة إلى الخبرة التي تراكمت لدى العراقيين العاملين فيها. كما أرسل مجموعات كبيرة إلى البلدان الاشتراكية والرأسمالية للتدريب والحصول على أحدث المعلومات في مجالات تنظيم العمل والتجسس وانتزاع الاعترافات. (أنظر: الخفاجي، عصام د. إرهاب الدولة والانحطاط السياسي في العراق. تقرير الشرق الأوسط، أيار/مايس-حزيران/يونيو 1992 (باللغة الإنجليزية).
* وضع تدريجاً أفراداً من عائلته ومن عشيرته على رأس الأجهزة الأمنية ودوائر الدولة والوزارات المهمة وهو المشرف والمراقب لها. فقد “أصبح كامل حسين زوج ابنته رغد، (قبل ذبحه وذبح أخيه بعد هروبهما مع زوجتيهما إلى الأردن وعودتهما إلى بغداد، ك. حبيب) وزيراً للدفاع، وأخوه صدام كامل حسين رئيساً للأمن الخاص، وأصبح أخو صدام غير الشقيق وطبان إبراهيم الحسن وزيراً للداخلية، كما وأصبح الأخ الثاني غير الشقيق سبعاوي مديراً للأمن العام ولجهاز المخابرات، وكان كلاهما لم يكملا غير التعليم الابتدائي تماما مثل حسين كامل. أما ابن عم صدام حسين، علي حسين المجيد (علي كيماوي)، فقد أخذ ينتقل من مسؤولية كبيره الى مسؤولية أكبر وكان من ضمن ما تسلمه إدارة الأمن العام ووزارة الحكم المحلي، ووزارة الدفاع وعضوية مجلس قيادة الثورة والمسؤول المباشر عن تنفيذ عمليات الأنفال الإجرامية ضد الشعب الكردي واستخدام السلاح الكيماوي في مدينة حلبچة ومنطقة بهدينان بكردستان العراق، وكان مثل حسين كامل لا يملك غير شهادة الابتدائية، بينما كان الابن البكر لصدام عدي، قد تسلم من أبيه رسميا أوراق ترشحه كوريث للحكم” . (أنظر، جعفر المظفر، د.، رنا صدام وحسين كامل .. ليلة الغدر بشيخ القبيلة. موقع الحوار المتمدن، العدد 6830، في 03/03/2021). أما ابنه قصي فقد أصبح مرشحاً لوراثة أبيه لحكم العراق بعد إصابة عدي بعاهة بعد محاولة اغتياله. وكان قصي “مشرفاً على “الحرس الجمهوري” و”الحرس الجمهوري الخاص” المكلف مع “لواء الحماية” الخاص بصدام وعائلته وعلى “الأمن الخاص” المكلف بالتعاطي مع الاضطرابات وأشكال المعارضة المسلحة التي شهدها العراق حينها كذلك أشرف منذ العام 1999 على “جهاز المخابرات” من خلال عمله في “مجلس الأمن الوطني” الذي شكله والده عام 1992 من أجل انهاء حالات التمرد التي قد تواجه الحكم، وهو ما كان قد حصل في “الانتفاضة الشعبية” في آذار مارس 1991 بعد حرب الخليج الثانية.1991″. (أنظر: قصي صدام حسين، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، أخذ المقتطف بتاريخ 05/03/2021).
* شكل النظام وصدام حسين محكمة الثورة التي ترفع إليها كل المسائل التي تمس قوى المعارضة السياسية العراقية والدولة التي كانت أحكامها تقع في الغالب الأعم بين الموت والمؤبد، إن لم يكن الشخص المتهم قد قتل تحت التعذيب حتى قبل تقديم اسمه للمحاكمة.
* استخدم في ممارسة الإرهاب وإرعاب المجتمع وقمع المعارضة كل الأساليب التي عرفتها النظم الاستبدادية السابقة مضيفاً إليها كل ما استجد من أساليب التعذيب وممارسة القسوة في إسقاط الضحية أو تدمير كرامته وثقته بنفسه وقدرته على الصمود، أي أنه دمج بين أساليب القهر البربرية للاستبداد التقليدي وأساليب القرون الوسطى والأساليب الحديثة الأكثر تطوراً من الناحية التقنية والمنتجة في بلدان الشرق والغرب.
* حظي النظام قرابة 30 عاماً بدعم كامل من دول الشرق والغرب ومساعدة في التسلح وخوض الحروب الداخلية ضد الشعب العراقي والحروب الخارجية وفي مساعدة النظام للإفلات من العقاب بسبب ممارسته سياسات مناهضة لحقوق الإنسان والتعذيب والقتل الجماعي، رغم أن العالم كان يعرف بكل ما كان يجري في العراق تماماً. كما أنه حظي بدعم الدول العربية لسنوات طويلة حتى غزوه واجتياحه واحتلاله الكويت وتهديده لبعض الدول في منطقة الشرق الأوسط.
لقد تسنى لصدام حسين الحكم الفعلي في العراق قرابة 35 عاماً باسم البعث، سواء كنائب للرئيس أو باعتباره رئيساً مباشراً للجمهورية العراقية، وبادعائه منتخباً من الشعب بالرغم من رفض الشعب العراقي له ولنظامه الفاشي الدموي. ويمكن تلخيص أهم الأسس التي أقيم النظام الصدّامي على أساسها في النقاط المهمة التالية:
1. اعتبار كل الناس في المجتمع، سواء أكانوا من الرجال أم النساء، أعداء محتملين للنظام الجديد الذي أقيم في العراق عبر انقلاب عسكري، وبالتالي يفترض هذا التفكير تطوير أساليب وأدوات اليقظة والحذر منهم جميعاً دون استثناء.
2. من اجل حماية النظام من جميع الأعداء المحتملين لا بد من تكوين ألة عسكرية قوية وعقائدية قادرة على تدمير العدو المحتمل حال بروز شك بسيط به، حتى لو كان أقرب أقرباء رأس النظام، فالولاء بالأساس ليس للنظام بذاته بل لرأس النظام ومن خلاله للنظام الذي يقف هو على رأسه. لقد سعى لخلق أسطورة القائد الضرورة والتاريخي للأمة العربية والنموذج القدوة في كل شيء.
3. من أجل حماية النظام يفترض تغييب كل أصحاب الفكر الآخر والناشطين في الحياة السياسة من غير أتباع النظام أو العاملين والعاملات تحت رايته، سواء بتصفية تلك التنظيمات أو الأشخاص بالتي هي أحسن ومن خلال تقديم الجزرة المناسبة، أو بالسجن والتعذيب والتدمير الكامل الجسدي لوجود صاحب الرأي والموقف الآخر. وفي هذا الموقف لا يوجد أي تمييز بين المرأة والرجل فكلاهما سواسية ويتحملان نفس العواقب من جراء حملهما للرأي الآخر. ومن الجدير بالإشارة إلى أن الذهنية الصدّامية، التي ساهمت بتعميق وتشديد الجوانب العنصرية والشوفينية والاستبدادية والقمعية في فكر البعث العفلقي، فهو فكر إقصائي واستئصالي للآخر، سوا أكان الآخر فرداً أم جماعة أم حزباً أم جماعة قومية أخرى أم حتى شعباً آخر.
4. تعتبر كل مخالفة لقواعد النظام أو القوانين التي أصدرها بمثابة عدوان على النظام وعلى رأس النظام وبالتالي فالعقوبة تنزل بهم كما تنزل بالسياسيات والسياسيين المعادين للنظام أو المخالفين لرأي رأس النظام.
5. يفترض العمل على كسب الناس إلى حزب النظام ومنظمات النظام، سواء أكانوا مستقلين أساساً أم أعضاء في أحزاب أخرى، ويفترض ممارسة جميع الأساليب لتحقيق هذا الهدف، ومنها العنف والقسوة للفرد، سواء أكان رجلاً أم امرأة، ولأفراد عائلته. إلا أن عضوية الحزب أو المنظمات المهنية التابعة له لا يعني الثقة بها، بل يفترض فرض الرقابة عليها وعلى أفعالها والتيقن المستمر منها. وقد أكد في خطبه له “إن كل العراقيين بعثيون وأن لم ينتموا!”. (عبد الخالق حسين، د.، البعث الصدامي والبعث المعتدل، موقع دويتشة فيله، DW، في 10/12/2009).
6. وللوصول إلى مثل هذا الهدف لا يمكن الاعتماد على جهاز واحد، إذ أن الشك بولاء الأجهزة الأمنية ذاتها يفترض أن يبقى قائماً باستمرار لكيلا يضعف موقف اليقظة والحذر منها، خاصة وأنها تمتلك وسائل العنف في يديها أيضاً، وبالتالي لا بد من تشكيل أكثر من جهاز أمني متعدد الأغراض وأحدهما يراقب الثاني وهلمجرا، وتبقى خيوطها بيد رأس النظام ذاته وأقرب المقربين له من أفراد عائلته وعشيرته وناحية العوجة في تكريت (محافظة صلاح الدين).
7. إن وجود التعدد في الأجهزة الأمنية غير كاف لحماية رأس النظام من المجتمع، فلا بد والحالة هذه أن يتحول جزء كبير من بنات وأبناء المجتمع إلى مخبرين للنظام الأمني الذي كونه، سواء بدفع رواتب لهم أم بالتطوع. على أن يكون عمل هؤلاء في مختلف المجالات والمستويات وأكبر عدد ممكن منهم، إذ بذلك يتم ربط هذه المرأة أو ذاك الرجل بالنظام وحركة عجلته واتجاهات تطوره. ويمكن لهؤلاء أن يرتبطوا بآخرين وبالتالي يمكن تحويل الملايين من البشر ممن لا يثق النظام بهم بأساليب وطرق مختلفة بالنظام وأجهزته الأمنية وغير الأمنية وبمنظماته المهنية. والهدف من وراء ذلك شد المواطنة والمواطن بعدة خيوط لا يمكن الإفلات منها ويبتعد عن كل نشاط يمكن أن يؤذي النظام بأي صورة من الصور.
8. ولا يكفي ربط النظام بمثل هذه الخيوط الأمنية لحماية النظام من نشاط المناوئين له، بل لا بد له من السيطرة الكاملة على الجهاز والنشاط الاقتصادي في البلاد لكي يشعر كل إنسان في المجتمع بأنه محتاج للنظام في الحصول على رزقه وعلى حجم الرزق الذي يريد الحصول عليه. وتتم السيطرة بشكل خاص على أجهزة الإعلام كلها لضمان تربية المواطنة والمواطن بالأفكار والسلوكية التي يريده رأس النظام لأفراد المجتمع، إذ بدونها يمكن نشوء بؤر مضادة له. وقد وفق الاقتصاد الريعي النفطي الأموال اللازمة لربط عدد كبير من الناس ورزقهم اليومي بالدولة، وبالتالي منحه القدرة على التحكم بهم معيشياً وانتزاع تأييدهم له.
9. وأكثر الأمور أهمية بالنسبة للنظام هي أنه يمنح الحرية لمن يشاء ويسلبها ممن يشاء في كل الأمور التي تمس المواطن وحقوقه المشروعة دولياً، ولكن من حيث المبدأ لا توجد حياة حرة ولا ديمقراطية بصورة مطلقة، إذ يفترض على المواطن إبداء آيات الخضوع والطاعة التامتين لرأس النظام وتعليماته في الحياة والعيش والعمل، وفي أوقات الحرب والسلام. وخطبه وتعليماته تعتبر قوانين وقواعد عمل ملزمة للناس، سواء أكانوا من الرجال أم من النساء.
10. لا تكفي فروض الخضوع والطاعة لرأس النظام، بل يفترض العمل المتواصل على تمجيد رأس النظام والتسبيح بحمده. ومن هنا تعززت وأصبحت فعلاً يومياً، وهما العقاب لمن لا يلتزم بذلك، والثواب لمن يلتزم بذلك. فتبارت مجموعات من الشعراء والقاصين والكتاب والرواة وكاتبي المقالات الصفراء وناشري مطبوعات التمجيد عن الحياة الشخصية للدكتاتور وعن “أفعاله العظيمة!” من النساء والرجال التي ارتبطت بحصولهم على أوسمة وهدايا نقدية وعينية كالسيارات ودور السكن والحلى الذهبية والمعالجات الطبية باعتبارها عطايا القائد الضرورة للمخلصين والمخلصات له من أبناء شعبه، لكل المادحين والمداحات. وكان النسيان أو العقاب يشمل الآخرين ممن لا يقف مع فرق المداحين والمداحات.
11. وخلال فترة غير قصيرة مارس النظام سياسة فرق تسد ونهج التحالف لضرب وتدمير طرف ثالث وهكذا استطاع النجاح في ضرب العديد من الأطراف بهذه السياسة. ولكن لم يكن العيب فيه وحده، بل العيب في الأطراف التي قبلت الوقوع في فخ التحالفات المؤقتة للتخلص من الآخرين، أو لقناعة بأن في مقدورها التأثير على وجهة سير النظام، رغم الدروس الماضية التي كانت قد أوضحت بعدم إمكانية الوصول إلى تغيير في طبيعة هذه المجموعة من القوى السياسية ذات الاتجاهات الشوفينية والعنصرية والاستبدادية. ومع أن القوى التي وقعت في حبائل النظام لم تكن كثيرة، إلا أنها كانت كافية لتعزيز مواقع النظام في فترات أحس بها بالضعف والحاجة للآخر وأضعفت مصداقيتها في أعين كثير من المؤيدين لها قبل ذاك.
12. ومن أجل منح فكره وسياسته قوة دافعة وكاسحة هيمن النظام على أجهزة الإعلام السمعية والبصرية والمقروءة وعلى النشر والطباعة والمسرح والسينما بهدف التثقيف الكامل بوجهة البعث، وكذلك على مناهج التدريس في مختلف مراحل التدريس ابتداءً من الروضة وانتهاءً بالدراسات العليا.
13. ووفق سياسات خارجية معينة مارسها النظام تسنى له ولفترة طويلة التحكم بعلاقاته السياسية والاقتصادية والثقافية مع أغلب دول العالم في فترة كان العالم ما يزال يعاني من عواقب الحرب الباردة بين الشرق والغرب أولاً، كما كانت سياسة دول العالم، التي تقوم على أساس المصالح وليس على المبادئ التي تضمن حقوق الإنسان والشعوب، وبالتالي كان النظام مستعداً لتلبية مصالح تلك الدول من خلال الثروة النفطية الهائلة من جهة، ومن خلال استيراد المزيد من السلع العسكرية والاستهلاكية بسبب امتلاكه لعوائد النفط الخام المصدر من جهة ثانية. وقد حققت الدول الكبرى وغيرها الكثير من الأرباح على حساب مصالح وحياة ومستقبل الشعب العراقي من خلال أسلوب وأهداف تعاملها غير الإنسانية مع النظام العراقي. هذا الواقع سمح للنظام التعامل الوحشي مع المجتمع العراقي ومع النساء العراقيات لأكثر من ثلاثة عقود.
14. إن النهج العسكري العدواني والحروب التي أججها النظام البعثي نحو الداخل والخارج لم تتسبب في موت العسكريين من الرجال فحسب، بل وفي موت الآلاف من المدنيين بينهم نساء وأطفال، إضافة إلى الحصار الاقتصادي الدولي، الذي نجم عن اجتياح واحتلال الكويت ورفضه الانسحاب منها، الذي أتى على حياة عشرات الألاف من المواطنين والمواطنات، لاسيما الأطفال والنساء والمرضى وكبار السن خلال الفترة الواقعة بين 1991-2003. وكان الدكتاتور المتوحش صدام حسين يتحدى الناس، ومنهم النساء والأطفال الذين يعانون من الفقر والجوع والحرمان، من على شاشات التلفزة، حين كان يقول بأنه لا يعاني من الحصار الدولي المفروض على العراق، بل أنتم، لأنه يتناول لحم الغزال الذي يقوم باصطياده!!
15. ومن الجدير بالإشارة إلى أن واقع الاقتصاد الريعي النفطي والموارد المالية الهائلة التي تساقطت على رأس النظام الدموي قد ساعدته في فرض الدكتاتورية والتسلط على الشعب، وبشكل خاص عدد من المسائل الأساسية: 1) هي التوسع في جهاز الدولة المدني والعسكري وربط الموظفين وعائلاتهم بالنظام من خلال الرواتب والامتيازات والمنح والعطايا؛ 2) بناء ترسانة عسكرية هائلة في العراق لم تكن للأغراض الدفاعية فحسب، بل واقتناء أسلحة هجومية حديثة، وإقامة صاعة عسكرية واسعة بمساعدة ودعم الدول المنتجة للسلاح، إضافة إلى سعية لإنتاج أسلحة دمار شاملة لاسيما الكيماوية والجرثومية؛ 3) وفرت له إمكانية التعامل الاقتصادي والعسكري مع الخارج لا في شراء تأييدها له بل ودعمها المستمر لنظامه السياسي الدكتاتوري؛ 4) التوسع في بناء قاعدة اقتصادية للقطاع الحكومي بهدف الهيمنة على مجمل العملية الاقتصادية وإخضاع القطاع الخاص له والهيمنة على المجتمع.
أساليب تعذيب النسوة في نظام البعث وصدام حسين
نتيجة كل ذلك أقام صدام حسين في العراق نظاماً دكتاتورياً يتميز بالقسوة والشراسة والسادية الدموية، نظاماً لا يميز بين الشيخ والصبي، وبين المرأة والرجل، وبين المريض والناصح، في التصدي لمن يشعر بأنه يشكل بهذا القدر أو ذاك خطراً عليه. وفي المقابل سكت العالم عن كل ما كان يعرفه من ممارسات إجرامية لهذا النظام سكوت أبي الهول. ولهذا السبب أيضاً تمكن النظام من البقاء فترة طويلة في الحكم. وبقي المجتمع العراقي إلى حين سقوطه عام 2003 يعاني من قسوة النظام وجلاوزته ومن سياساته وعقوباته ونشاط أجهزته الأمنية العديدة. والنسوة في العراق عانين من طبيعة هذا النظام ومن سياساته باتجاهات عديدة، فقد فقدن أقرباؤهن في الحروب الداخلية والخارجية وفي السجون والمعتقلات، وحرمن من حقوقهن المشروعة وجرى التجاوز حتى على حقوقهن التي ضمنها الدستور المؤقت للنظام. كما واجهن غضب النظام وقمعه الشرس بشكل مباشر عبر الملاحقة والاعتقال والتعذيب والسجن دون محاكمة والاغتصاب الجنسي والقتل تحت التعذيب أو الإعدام بمختلف الأسباب والأساليب.
لقد فقدت المرأة حقوقها البسيطة التي تمتعت بها قي ظل العهود والحكومات السابقة، وخاصة تلك الحقوق التي تمتعت بها بعد ثورة تموز 1958، وأصبحت من جديد تعاني من ويلات اضطهاد الرجل في البيت والذكور في المجتمع عموماً ومن الدولة بقوانينها وعقوباتها وسلبها كامل شخصيتها تقريباً.
لقد صادرت دولة البعث وصدام حسين حق المواطن العراقي في السفر إلى خارج البلاد دون تأشيرة سفر رسمية. والحصول على مثل هذه التأشيرة مقترن بمجموعة من العقبات الكبيرة أولها موافقة أجهزة الأمن والاستخبارات على سفر المرأة أو الرجل، حيث يمنع كل الأشخاص المشتبه بانتمائهم إلى حزب أو منظمة سياسية معارضة أو مشتبه بكون المواطن يحمل افكارا مخالفة لأفكار حزب البعث من السفر. ومما يزيد من صعوبات السفر حتى بعد الحصول على موافقة أجهزة الأمن عجز الغالبية العظمى من أبناء وبنات الشعب العراقي عن دفع المبلغ المقرر عن تأشيرة الخروج والتي تبلغ 400000 دينار عراقي أو ما يعادل 400 دولار أمريكي. وفي خضم الحملات الإيمانية الهستيرية للنظام أصدر القانون رقم 32 لسنة 1999. “فوفقاً لقرار مجلس قيادة الثورة البعثي وعلى وفق ما جاء بقانون رقم 32 لسنة 1999 الساري المفعول بالوقت الحاضر يشترط صراحةً موافقة ولي الأمر قبل بلوغ المرأة سن الأربعين، أما اذا كانت المرأة متزوجة فيشترط موافقة زوجها، واذا كان متوفياً ففي هذه الحالة يشترط ان تعرض شهادة وفاة زوجها إضافة الى وجوب تسجيلها في هوية الاحوال المدنية للزوجة. وبالنسبة لأطفالها يجب أن يكون لديها قيمومة وحجة وصايا وابرازها، وفي هذه الحالة أي إذا كانت ارملة فإنه لا ينتهي شرط الموافقة وإنما يجب في هذه الحالة موفقة ولي أمرها طالما انها لم تبلغ بعد سن الاربعين، وذات الشروط التي ذكرناها بالنسبة للمرأة الأرملة تنطبق على المرأة المطلقة وعليها ابراز ورقة طلاقها والتي يجب ان تكون مسجلة في المحكمة لا أن يكون الطلاق خارج المحكمة. ” وهي اخر موضة بعثية هدفها حرمان المرأة من حقها الطبيعي في السفر الذي كانت تمتلكه قبل ذاك. ومثل هذا القرار يعتبر إساءة كبيرة إلى سمعة المرأة ويقلص من حقوقها ومن حريتها التي كفلها لها حتى الدستور المؤقت البعثي. (أنظر: سفر المرأة دون محرم..بين القانون وآراء الناس، موقع وكالة نون الخبرية، في 22/11/ 2008)، يضاف إلى كل ذلك عدم السماح للأشخاص العاملين في المهن الحرة وكذلك الوزراء والموظفين السابقين من درجة مدير عام فما فوق بمغادرة البلاد إلا إذا حصلوا على ترخيص من الدوائر الأمنية وأودعوا مبلغا ماليا ضخما لضمان عودتهم، (المنظمة العربية لحقوق الإنسان. تقرير المنظمة.1997. مصدر سابق. ص 151). إذ في حالة منحهم موافقات على السفر يعتبر النظام أفراد عائلات المسافرين بمثابة رهائن لدى الحكم تُقتاد إلى السجون وتتعرض للتعذيب أو حتى القتل في حالة عدم عودة هؤلاء إلى العراق. والقيود الأمنية لا تشمل السفر إلى خارج البلاد فقط، بل تمتد أيضا إلى داخل البلاد، وبخاصة إلى منطقة كُردستان وعموم الشمال من جهة، وإلى منطقة الجنوب من جهة أخرى. وكانت نقاط المراقبة الأمنية منتشرة على امتداد الطرق بين بغداد والمدن الأخرى والجنوب أو بينها وبين الشمال ومنطقة كُردستان.
ولم تختلف أساليب التعذيب التي كانت تمارس ضد النساء عن تلك التي مورست ضد الرجال، فكن في هذا الأمر سواسية، إلا أن ما كان يصيبهن وهن حاملات مثلاً يفوق ما كان يصيب الرجل، إذ غالباً ما كن يفقدن حملهن بسبب التعذيب، أو يقتلن وفي بطونهن حملهن أو يلدن وهن في السجن ثم تتم مصادرة أطفالهن أو حتى يقتلون.
نشرت الكاتبة البريطانية جين ساسون في عام 2003 كتاباً جديداً باللغة الإنجليزية، ثم ترجم في نفس العام إلى اللغة الألمانية تحت نفس العنوان “ميادة ابنة العراق”. Sasson،( Jean.
Mayada Tochter des Irak. Blanvalet. 2. Auflage. München. 2003. S. 118).
يحكي هذا الكتاب قصة حياة سيدة عراقية من عائلة عراقية معروفة هي “ميادة نزار جعفر مصطفى العسكري”، حفيدة الشخصية القومية العربية المعروفة ساطع الحصري من جانب الأم (سلوى الحصري)، وحفيدة القائد العسكري العراقي ووزير دفاع أسبق في العهد الملكي جعفر مصطفي العسكري من جانب الأب (نزار العسكري). وفي هذا الكتاب تسجل الكاتبة البريطانية لوحة مريعة ومحزنة جداً لواقع النظام العراقي في فترة حكم صدام حسين وتضع القارئة والقارئ في صورة واقعية، ولكنها جزئية، لمعاناة النسوة في بعض معتقلات النظام العراقي وخارجه وعن جملة من أساليب التعذيب التي مورست ضدهن في معتقلات مديرية الأمن العامة (البلديات) في بغداد على أيدي جلاوزة النظام، كما تقدم لوحة صادقة عن سلوكيات بعض أبرز مسئولي النظام وأجهزته الأمنية. وضعت السيدة ميادة العسكري في الزنزانة رقم 52 الخاصة بالنساء. كانت الزنزانة قد صممت لتسع ثمانية أشخاص في الحد الأقصى، ولكن وجدت نفسها مع سبعة عشر امرأة. تفوح من هذه الزنزانة رائحة العفونة والبول والرطوبة وبرودة الأرضية الكونكريتية المسلحة. ثمانية عشر امرأة: سمارا وعلياء ورشا ورولا وإيمان وصباح ومنى وسفانة وسارا وجميلة وحياة وآسيا وأمان ومي وأماني وأنوار ووفاء وميادة. ليس بينهن سوى ثلاث نساء اتهمن بهذا القدر أو ذاك بالسياسة، إحداهن بعثية وأخرى متهمة بقربها من الشيوعيين وثالثة اعتقلت لأن زوجها وابنها هربا إلى تركيا خشية الاعتقال بسبب اتهامهما بالعمل مع الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية. أما ميادة فاتهمت في احتمال استخدام أحد العاملين لديها جهاز الاستنساخ في مكتبها في استنساخ بعض البيانات لقوى دينية شيعية. أما البقية فالاتهامات الموجهة لهن أما السفر بجواز سفر مزور أو فقدانهن جواز سفرهن واستخدامه من أخريات للسفر إلى خارج العراق أو حصول سرقة في الدائرة التي يعملن بها أو تلاعب مديرهن بحسابات البنك الذي كانوا يعملون به …الخ.
جميع النسوة المعتقلات في الزنزانة رقم 52 تعرضن للتعذيب الشرس يومياً تقريباً وبالتناوب لانتزاع اعتراف منهن بأنهن مشاركات في التهم الموجهة إليهن دون أن تكون التهم الموجهة لأغلبهن، إن لم نقل لجميعهن، صحيحة أو مستندة إلى وثائق دامغة، إذ لم يكن التحقيق سليماً من الناحية القانونية، كما لم يكن التحقيق سوى عملية تعذيب وإهانة واستباحة، وخلال عملية التعذيب كانت تطرح الأسئلة من الجلادين أنفسهم. بعض النسوة قضى ثلاث سنوات مثلاً وانتقل من معتقل إلى آخر إلى أن حط الرحال في الزنزانة رقم 52، وعانين من التعذيب بمختلف صوره وأشكاله في كل تلك المعتقلات، ولكن قمة العذاب كانت في معتقل الأمن العامة في البلديات. أغلب النساء المعتقلات كن من أتباع المذهب الشيعي، إلى جانب الكرد وميادة العسكري وهن من أتباع المذهب السني.
تصف الكاتبة البريطانية وصفاً دقيقاً وحزيناً لحالات من التعذيب التي تعرضت لها سارا مرة وسفانة مرة أخرى أو سمارا أو منى أو جميلة أو ميادة أو غيرهن من المعتقلات. كما كانت تنقل عن ميادة وصفها لحالة المعتقلين الآخرين من الرجال والنساء في الزنازين المجاورة. ففي نهاية الفصل الموسوم “جدو ساطع” الحصري، نقلاً عن ميادة العسكري، تشير الكاتبة ساسون إلى المعتقل الإسلامي أحمد المتهم بالوهابية، والذي كان يؤذن في الصباح الباكر أو يتلو آيات من القرآن بصوت مرتفع يصل عبر الجدار العازل بين زنزانته وزنزانة النساء فتقول:
“من خلال الجدار كان بإمكانهم سماع صوت الشاب الوهابي المتدين وهو يدعو إلى الصلاة بصوت مرتفع. وفجأة تحولت صلاته إلى صراخ. بلغت التوتر العصبي لدى ميادة إلى الحد قفزت من مكانها وتشبثت بذراعي سمارا وصرخت مرعوبة: “إنهم يقتلونه! إنهم يقتلونه!”
ردّت عليها سمارا بصوت منخفض قائلة: كلا، ولكن ما يفعلونه به هو أبشع من الموت، وبشكل خاص لرجل مسلم متدين.
لم تفهم ميادة ما كانت تعنيه سمارا، إلى أن سمعت، كيف كان الرجال يسحبون أحمد إلى الممر حتى وصولا به بشكل متعمد أمام مدخل زنزانة النساء. وبدأوا باغتصابه واحداً بعد الآخر. كانت ميادة في حالة ارتعاب. الاغتصاب البهيمي استمر حوالي ساعة واحدة، ثم سمعت ميادة، كيف كان أحد الحراس يضحك وهو يقول لأحمد: ” ريح نفسك. أنت الآن امرأة لثلاثة رجال ويجب أن تكون منذ الآن طوع إرادتنا”.
( Sasson، Jean, Mayada Tochter des Irak, Blanvalet 2. Auflage, München,
2003, S. 118, ترجمة النص من ك. حبيب).
وفي الفصل الموسوم بـ “التعذيب” تصف الكاتبة نقلاً عن ميادة حالة الزنزانة والنسوة المعتقلات وأساليب التعذيب التي كن يتعرضن لها يومياً، سواء أكان ذلك في الصباح أم في الليل، رغم أن عمليات التعذيب كانت تتم في غرفة التعذيب الخاصة ليلاً. مورس في الغرفة المهيأة لأغراض التعذيب من قبل جلادين ضخاماً غلاظ النفوس وبليدي الإحساس، قساة لا تعرف الرحمة طريقها إلى قلوبهم، يتلذذون ويقهقهون ويتندرون فيما بينهم وهم يمارسون الأساليب التي تؤدي إلى إصابة المرأة المعتقلة بالرعب والخوف والتشنجات العصبية بسبب عذابات التعذيب أو خشية الموت تحت التعذيب. كان الضرب المبرح بالسياط على الظهور أو الضرب بالعصي والسياط على باطن الأقدام أو الضرب العشوائي في كل مكان من أنحاء الجسم، وخاصة على العمود الفقري والرقبة، أو التعليق والضرب وتقييد الأيدي أو استخدام التيار الكهربائي على المواقع الحساسة من جسم المرأة وإنزال الصعقات التي تعرض الضحية إلى شتى أشكال العذاب والاقتراب من الغيبوبة أو السقوط بها فعلاً. كان التعذيب عادة يومية لا مناص منها، ولكنها كانت تتباين فيمن يسحب للتحقيق أو لمجرد التعذيب والتلذذ به. يجري التعذيب في أحيان غير قليلة والمرأة عارية تماماً بهدف إذلالها أو التمتع الجنسي السادي بعذاباتها وهدر كرامتها أو بعض الأحيان اغتصابها دون أن تجرأ المرأة المغتصبة جنسياً التحدث بذلك أو حتى دون أن يجرأن الأخريات من النسوة الاستفسار عن ذلك. ولكن كل الدلائل كانت تشير إلى حصول ذلك. وتحت سياط التعذيب سقطت جميلة جثة هامدة. كان فرك أعقاب السجائر المشتعلة في جسم الضحية، على الثديين والحلمة وفي البطن والظهر والساقين والمؤخرة حالة اعتيادية في عمليات التعذيب. وكان التعذيب يمارس بسبب اعتياد الجلادين على ممارسته دون الرغبة في الحصول على معلومات، إذ كان الجلادون يدركون أن ليست هناك معلومات يمكن الحصول عليها أو يمكنهن الإدلاء بها.
وتصف ميادة عبر الكاتبة البريطانية ما حصل لهن جميعاً حين جاء الجلادون واقتادوهن واحدة تلو الأخرى وبحركة سريعة جنوبية صوب غرفة التعذيب والصراخ يملأ الممر والقاعة التي وضعوا فيها وكيف بدأ التهديد بإطلاق العيارات النارية وكأن هناك من يريد قتلهن جميعاً. كانت الصورة مأساوية وكان الرعب قد سيطر على كل النسوة دون استثناء وكان الصراخ منهن يعم القاعة وكانت قهقها وزعيق الشرطة السرية المكلفة بحراستهن وتعذيبهن والتحقيق معهن يعلو كل الأصوات. كن قد تدافعن واصطدمت الواحدة بالأخرى في غرفة مظلمة لا يعرفن أين وماذا يراد بهن، ثم تم دفعهن إلى مؤخرة القاعة حيث فرض عليهن الوقوف جنباً إلى جنب ووجوههن صوب الحائط. ثم بدأت الشرطة بتهيئة البنادق الرشاشة وكأنهم يريدون رمي النساء. أيقن النسوة بأنهن يعشن آخر لحظات حياتهن، فبدأ بعضهن بالصلاة والدعاء وبعضهن الأخر يفكر بما ترك خلفه من أطفال وأمهات كبيرات السن.. الخ. وبعد عدة ساعات من هذا النمط من التعذيب النفسي والجسدي أعدن إلى زنزانتهن وهن أقرب إلى الغيبوبة والموت منهن إلى الحياة. هكذا كانت رغبة الجلادين في أن يتمتعوا بتعذيب النسوة على هذه الطريقة، إذ لم يكن لهم ما يقومون به غير ذلك النوع من العمل غير الإنساني والبشع.
لم يكن النظام العراقي قد مارس التعذيب ضد النسوة تماماً كما كان يفعل مع الرجال فحسب، بل زاد عليها بقطع رؤوسهن بحجة العهر والرذيلة، في حين كان النظام نفسه يغوص في العهر السياسي والرذيلة الفعلية واغتصاب النساء والرجال على حد سواء، إضافة إلى الفساد المالي والإداري.
لقد تميز نظام البعث العراقي، بقادته وأجهزته الأمنة وسلوكه الفعلي، بالعنصرية والشوفينية إزاء القوميات والشعوب الأخرى، كما تميز بالفاشية السادية والدموية. يكفي أن نشير هنا إلى أحداث مريعة نفذها نظام البعث ضد الشعب الكردي في عمليات الإبادة الجماعية ضد الشعب الكردي في إقليم كردستان العراق في عام 1988 حيث استخدم القتل الجماعي وتسبب في قتل وموت أكثر من 182 ألف مواطن ومواطنة من كردستان العراق وأغلبهم من الكرد المسلمين والإيزيديين، إضافة إلى المسحيين، كما استخدم السلاح الكيماوي في حلبچة حيث راح ضحية الإبادة الجماعية واستخدام السلاح الكيماوي والتغييب القسري والموت الألوف من النسوة والأطفال وكبار السن. ومثل هذا النظام لم يكن ليستحق البقاء لولا وقوف الدول الكبرى ولسنوات طويلة إلى جانب هذا النظام والاستفادة من نفط العراق وموارده المالية.