ميثم عبد الجبار
لم أترك الصدفة تقودني إلى المكان الذي طالما حلمتُ بصاحبه، رجلٌ نحيفٌ بلحيةٍ غير مُشذبة، يبتسمُ بأسى بائن، كما لمْ يخف حزنه ولاشجنه أو حتى الدمعة التي صاحبته في سنيّ حياته.
عبرتُ ثلاثة جسور وشوارع مكتضة عن آخرها بالسيارات، سماءُ بغداد حارقة واسفلتها يتصاعد منه الجحيم، وجوهُ الناس مُرهقة وسحنتهم طحنتها الحياة وسخام الشمس العراقية، ملامحُ التعب والإهمال الكوني أكلهم عن آخرهم، غير أن بعض تلك الوجوه؛ على قلتها، كانت نَضِرة أخذت قسطاً كافياً من الغذاء والدواء والنوم والعافية، نقاء البشرة وبياضها، السيارات الفارهة المُكيّفة بزجاجها المظلل والملابس الأنيقة، عدم الإكتراث لكل ما يحصل خارج السيارة. كل هذا يدلّ على شريحة غريبة عن تلك التي تملأ الشوارع، الجسور، والإشارات الضوئية المُعطّلة.
لم يبق غير جسر واحد لأصل إليه. كيف كان يقطعه العجوز؟ هل كان يطيل النظر إلى دجلة قبل أن يعبر بقدمين حافيتين متخشبتين من الرصافة إلى الكرخ؟ أكان يأخذ معه رغيفاً من مخابز الرصافة، ليقف كما يفعل (ابراهيم أبو العرق) في منتصف الجسر يفتت الخبز ويرمي به إلى الطيور المُحلّقة فوق المراكب القديمة وتلك المنتشرة على ضفتيّ النهر؟ هذا فعلٌ شديد الحساسية من (إبراهيم أبو العرق) الذي لم نسمعه يتحدث غالباً.
الحمّالون يتسابقون في طلوع الجسر، يشدّون على الأرض بسياقنهم، فيما تتحرك أكتافهم بقوةٍ لسحب عجلات العربة والصعود بها إلى عنقِ الجسر، والذي ما إن ينحدر نزولاً حتى تأخذ المهمة شكلاً جديداً من العناء والتعب.
ضُحى عند وصولي، كان الزقاق يخلو من المارة، سوى صبيان ركضوا خلف قطٍ قفزَ المسكين إلى خرابةٍ لائذاً بها، لم يتركه الصغار بل غابوا خلفه بصراخٍ وضحكٍ سرعان ما تلاشى كأثرِ مَسيرٍ تكنسهُ الريح.
الزقاقُ بجدرانه المُتهالكة القديمة، تختلطُ فيه الأصوات القادمة من عمقِ تلك البيوت، بينما روائح الطبخ المُنبعثة من القدور البغدادية تمتزجُ برطوبةِ المكان وعفونته. وصلتُ البابَ الذي يرتقي إلى الداخل بأربعِ سلالمٍ من الإسمنتِ المُتصدعِ. حتى أن صوت المراوح المُتهالكة يصلك قبل الدخول.
كان أبا المغيث يجلسُ القُرفُصاء في هذه الجادة الضيّقة العتيقة. كما أن تسبيحه يملأ المكان. أما ضوء جسده يشعُّ فوق إنحناءة رؤوس مريديه. جلستُ إلى جواره، ناولني كسرة خبز يابسة، وأكمل أنشودته إلى جلاّسه. لم أشأ أن آكلها، بل آثرتُ أن أدسها في جيبي، غير أن ولداً، تبدى لي أنه كان واحداً من أولئك الصبية الذين أقتفوا أثر القطّ بداية دخولي الزقاق، أشار لي برأسه مُبتسماً: أن كلها الآن. أخرجتها من جيبي تناولتها وسرعان ما تكسرت بين أسناني وغابت في جوفي.
كنت وحدي أجلس مُتربعاً على أول سلّمة في المدخل، صبيّة تقابلني تحملُ خبزاً وتراقبني بدهشة، أظن أنها كانت ترددُ: يا نسيم الريح قولي للرشا.. بينما غصنها الغضُّ يتمايل كخيطِ شمعٍ فتيّ.
ولكن أين أبو المغيث؟ سألتها، أشارتْ إلى الباب وأقفلتْ ذاهبة في الطريقِ الذي جاءت منه على غير هدى نحوي. دخلتُ الحجرة الخضراء، أدعيةٌ وكُتبٌ تالفة، وشاهدةٌ ترتفعُ بغطاءٍ أخضر مزركشة الحواف. لمْ يكن أبو المغيث يُحبُّ هذه الجلبة والزركشة، قلتُ لرجلٍ مُسنٍّ يخدمُ المكان وقد غطى رأسهُ بقماشٍ أبيض ولفّ حوله قطعة أخرى خضراء. ما أدراك؛ أجابني مُستهجناً. لمْ أكن أدري ما أدراني بهذا، لكنني أدري تماماً أن ما من أبي المغيث هنا، في هذه الحجرة الضيّقة بشاهدةٍ ترتفعُ من الأرض مُغطاة بهذا القماش الأخضر المزركش الحواف. أدري تماماً أنه هناك في الخارج الآن، قرب دجلة ربما، في المكان الذي طارت فيه روحه لأول مرّة، ثم أذرى رماده بعين بغداد التي لاترى.
لا أدري سيدي الشيخ ما كان يُحبُّ الرجل، وأعذرني لأنني لمْ أدرِ قبلاً بهذا، غير أن روحه روحي وروحي روحه، ربما بهذه علمتُ الطريقة وعرفتُ، وربما لأنه لمْ يبق جالساً في حُجرتهِ وقتَ صار عليه حتمياً أن يقول كلمته، قبل أن يمضي إلى إتساع الزمن.. تعال معي، قلتُ للشيخ، تعال معي أرجوك.. تعال نجلسُ هنا في الخارج، أو…. لا لا … تعال معي إلى الجسر، إلى منتصفه، نقفُ هناك، ونرمي بفتات الخبز إلى الطيور المُحلّقة، كما يفعل (ابراهيم أبو العرق).. ها.. تستهجن العَرَق صحيح نسيت هذا.. لكن الرجل كان يطعم النوارس، والطيور الضالة.. وأنا… أنا ياسيدي طيرٌ ضال ولمْ يُطعمه، على اتساعه، هذا المدى.
#مانموت