ان اطلاق العنان لاقتصاد السوق المنفلت، واعتماد سياسة الانفتاح التجاري والمالي وبدون حدود وضوابط، في ظل شيوع الفساد المالي والإداري والسياسي، على نطاق واسع، وإبقاء ميزانية الدولة معتمدة اساسا على موارد النفط (وبالتالي تأكيد الطابع الريعي للاقتصاد العراقي)، وتردي القدرة الانتاجية الوطنية الى أدنى المستويات، وانتشار الفوضى في ادارة اقتصاد البلد، وفي جميع مرافق الحياة العامة، ان هذا كله لا يمكن ان ينتج إلا اقتصادا رأسماليا تابعا ومشوها، ووحيد الجانب، ولا يمكن ان يفرز إلا استقطابا اجتماعيا وطبقيا، يهمين فيه تحالف البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية مع الكومبرادور، تحالف ذوي الثراء الفاحش وغير المشروع، من أجل السيطرة على مصائر البلد. حيث تتراكم بأيدي القلة ثروات هائلة، مقابل الاغلبية الساحقة من ابناء الشعب، وبالخصوص الكادحين منهم، وبالذات الطبقة العاملة والفلاحين المعدمين وقطاعات عريضة من الفئات الوسطى، الذين يعانون الفقر والعوز والحرمان، والاستغلال الظالم في ظل غياب القوانين المنظمة للعملية الانتاجية، والضامنة للعدالة الاجتماعية.
وما يثير الانتباه هنا ان المنهج الذي اتبعته الحكومات المتعاقبة (علاوي- الجعفري- المالكي- العبادي – عبد المهدي واخيرا الكاظمي) – مع اختلافات على مستوى الشكل والدرجة لا النوع – هو رهانها على “توزيع الادوار” بسبب عدم وجود رؤية ولا استراتيجية واضحة المعالم تعرف ما الذي تريده في اللحظة التاريخية الملموسة. والمتابع لممارسات تلك الحكومات سيلحظ نوعا من الثنائية او بعبارة أدق نوعا من الازدواجية. فمن جهة جرى ويجري الترويج للانفتاح على القطاع الخاص، وجذبه وتحفيزه على الاستثمار وتوسيع دوره ولكن بالمقابل ينافح “المستشارون” في المستويات العليا للنظام دفاعا عن “الخصخصة التلقائية” أي ان تجري هذه العملية في اطار وصفة صندوق النقد الدولي، ونتائج هذه الوصفة معروفة وأقل ما يقال عنها انها تدميرية. وبالمقابل، وفي مفارقة “طريفة”، تعزز بيروقراطية الدولة، بمختلف شرائحها، مواقعها وهيمنتها مروجة لشعار “اقتصاد السوق” مع احتفاظها بحيازتها لمؤسسات القطاع الحكومي، واستخدامه لمصالحها الخاصة والزبائنية.
ويمكن القول، استنادا الى التجارب التاريخية الملموسة، أن مشاريع الخصخصة والتكييف الهيكلي التي صاغتها المؤسسات الرأسمالية الدولية المتخصصة لم تكن تمثل محاولات لحل الأزمات البنيوية التي تعاني منها البلدان النامية، بل هي بمثابة عناصر أساسية لإستراتيجية عالمية البعد لتكييف تلك البلدان للظروف الجديدة التي يعيشها الاقتصاد الرأسمالي العالمي ومحاولات للخروج من الازمة البنيوية العميقة التي يعاني منها النسق الراسمالي العالمي بجزئية: المتطور والتابع. ومع ذلك يصر “المستشارون” الجالسون في غرف مكيفة على ان هذه المشاريع هي وحدها التي ستحمل “الخير” للاقتصاد العراقي والكفيلة بحل أزمته البنيوية المتعددة الصعد. وتجربة السنوات التي تلت 2003 تبين كم من “الحكمة والتدبير السليم” تتمتع بها استشارات “المستشارين”.
ومنعاً لأي التباس لابد من التأكيد على أنه ومنذ نشأت الرأسمالية كنظام عالمي، وهي تسعى دائماً لأن تخضع العالم لمتطلبات نموها وشروط حركتها. وكان “تكييف” الأجزاء غير الرأسمالية في مختلف أنحاء العالم كي تتلاءم مع الحاجات المتغيرة والأزمات المختلفة للمراكز الرأسمالية شرطاً ضرورياً ولازماً لاستمرار النسق الرأسمالي العالمي وإعادة انتاج العلاقة “التاريخية” بين مراكزه وأطرافه على قواعد “اكثر حداثة”. ولهذا فإن مصطلح “عمليات التكييف” الذي جرى ويجري الترويج له، منذ فترة طويلة، في كتابات المنظمات الرأسمالية الدولية المتخصصة و”منظريها الكبار”، لا يشير الى ظاهرة جديدة، بل هو في حقيقة الأمر يعبر عن ظاهرة قديمة، قِدم النظام الرأسمالي نفسه، تعاد صياغتها على أسس أكثر “معاصرة”.
ولاشك أن برامج “التكييف” التي تفرض في مثل هذه الظروف لا تستحق التسمية الخاصة بها. فهي ليست خططا لتحويل الهياكل الإنتاجية لكي تتفق مع شروط إنعاش الأسواق وتوسيعها، بل لا تعدو أن تكون سوى تكييفات ظرفية خاضعة لمنطق إدارة الأزمة في الأجل القصير، خاصة لمقتضيات ضمان الربحية المالية لفائض الأموال، ولو على حساب التنمية.
وإذا أردنا أن نرد هذه التحولات الى جذورها فإنه يمكن القول انه لم يكن ممكنا حدوثها بمعزل عن جملة عناصر وعوامل من بينها بل وأهمها:
– النشاط الذي قامت به سلطة الاحتلال بقيادة الحاكم المدني آنذاك (بول بريمر) حيث عملت على “إعادة بناء” الاقتصاد العراقي من خلال اتخاذ جملة إجراءات اقتصادية، استهدفت تكييف هذا الاقتصاد وتحضيره لمرحلة جديدة تسمح بدمجه في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وقطبه المتقدم على قواعد “اكثر حداثة”.
لم يساهم هذا المشروع في تقديم حلول جذرية للازمة الاقتصادية بل فاقمها وعمق تناقضاتها. وتجلى ذلك في جملة من النتائج:
- اعاق تطور الاقتصاد العراقي؛
- واغرق الأسواق المحلية بالسلع الأجنبية؛
- وحرم البرجوازية المحلية الصناعية والبرجوازية الصغيرة والحرفيين من النمو وتحقيق التراكم الرأسمالي الوطني المطلوب؛
- وقلّص إمكانية تنشيط تنمية وتوسيع عملية إعادة الإنتاج الموسع في الاقتصاد العراقي؛
- كما اعاق ايضا إيجاد فرص عمل جديدة للعاطلين عن العمل، بل والأسوأ من ذلك أفضى الى تعاظم مديات البطالة بوتائر غير مسبوقة؛
- وأبقي الاقتصاد والمجتمع معتمدين على إيرادات النفط الخام وعلى استيراد السلع المختلفة من الخارج وبالتالي ساهم في اعادة انتاج البنية المشوهة والمتخلفة والأحادية الجانب للاقتصاد الوطني؛
- وقلص إمكانيات تغيير البنية الاجتماعية المتخلفة وعطل سيرورات رفع مستوى الوعي الاجتماعي في البلاد.
- عدم تبلور استراتيجية اقتصادية – اجتماعية لدى القوى المتنفذة التي تتالت على الحكم، استراتيجية ترتكن الى رؤية محددة تعرف ماذا تريد، مما افضى الى ان تتخذ اللوحة الاجتماعية/الطبقية هذا المسار بحيث أصبح يهيمن عليها التحالف الثلاثي: البرجوازية الطفيلية/البيروقراطية/الكومبرادورية.
وهنا ثمة قضية مهمة لا بد من الاشارة اليها وهي ان احتدام الصراعات الطائفية/الاثنية وحالة الاستقطاب التي رافقتها قد انعكس سلبا على وحدة الانتماءات الطبقية، وعلى تبلور الوعي الخاص بكل طبقة وفئة وشريحة، مؤديا الى تشظي قطاعات منها على أسس طائفية او قومية أو مناطقية، الامر الذي جعل الولاء والانحياز الطائفي والقومي والمناطقي من المعالم المميزة لهذه المرحلة.
وعندما يتكرس الطابع الطائفي- المناطقي لبناء الدولة، ينشأ تناقض بين الدور السياسي التقليدي لها، والمتمثل في تأمين ديمومة النظام المسيطر دون عوائق، وبين دورها الاقتصادي المتمثل في تأمين “الريع” لـ “الاقطاعات الطائفية – القومية – المناطقية” الطامحة الى السلطة والثروة، والتي تحتل مواقع السيطرة على المفاصل الاقتصادية والسياسية والأمنية الاساسية.
إن بلادنا تواجه منعطفا سياسيا – تاريخيا يتسم بدقة متناهية، وخطورة كبيرة، وآفاق مفتوحة وذلك في ظل وقائع عديدة من بينها التفاوت في وتائر ما تحقق على المستوى السياسي، على تواضعه، وما تحقق على المستوى الاقتصادي – الاجتماعي. وإزاء حجم المشكلات الاجتماعية-الاقتصادية المتفاقمة على مدى سنوات، سواء على مستوى مكافحة البطالة لتنشيط التشغيل أو على مستوى “امتصاص” الفقر في المجتمع او مكافحة الفساد الذي تحول الى “مؤسسة” يشار لها بالبنان!!، أو على مستوى تجاوز مظاهر التخلف المريع الذي تعاني منه الخدمات من مختلف الانواع، اضافة الى انعدام الامن والأمان الذي يعانيه المجتمع، فإن الجهود المبذولة لمكافحة هذه الآفات الاجتماعية لم تستطع تحقيق وثبة معتبرة، تمكن من وضع البلاد على عتبة نهضة اجتماعية – اقتصادية، متوازنة، شاملة وواعدة.
وتقتضي الضرورة الاشارة الى ان الفقر في بلادنا يعدّ اليوم ظاهرة جماهيرية مجتمعية صارخة، وبالتالي هو ليس نتاج تصرفات “بعض السياسيين الحمقى”، على كثرتهم، بل نتاج سنوات طويلة من السياسات الاقتصادية الخاطئة وانعدام الاستراتيجيات التنموية المتكاملة والمعللة علميا. فالفقر إذن ليس سوى النتيجة المنطقية لتحويل الثروة من الفقراء الى الاغنياء وتمركزها. انه نتاج استيلاء أقلية على موارد المجتمع عن طريق الاستغلال و النهب الذي يسمح به نمط معين لعلاقات الانتاج المهيمنة (وهي، في ظروفنا الملموسة، علاقات الانتاج الرأسمالية التبعية). ولهذا فان تقليص الفقر يرتبط في الواقع بعملية اعادة جذرية لتوزيع الدخل القومي، مما يطرح قضية تحويل علاقات الانتاج على طاولة البحث والتفكير عند بناء بدائل تنموية. أي ان المطلوب ليس “تشريك” الفقر بل الحد منه!.