لا تثقوا بالولايات المتحدة :
————————-
(41) هنري كيسنجر مجرم حرب قتل مليوني مواطن بالقصف والغاز السام يسرح حرّاً ولا يُحاسب ويحصل على 30,000 دولار عن اللقاءات العامة!!
————————————————————
ترجمة وإعداد :
د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة – 2015
# “إنه قرار مجنون وإهانة وطنية أن يكون لدينا قانون يمنع رئيس الدولة من الأمر بالإغتيال”
هنري كيسنجر
اجتماع في مجلس الأمن القومي – 1975
(تساؤلات تمهيدية عن سرّ المجرم الطليق – تمهيد عن جرائمه “الصغيرة” – أوّلاً : سرّ وشاية عام 1968 التي تسبّبت في مقتل 20,000 أمريكي و600,000 فيتنامي- ديغول يحتج على السلوك الدموي لكيسنجر- “مصداقية” كيسنجر أطالت الحرب وقتلت 20,000 أمريكي و600,000 فيتنامي- عملية “ماياغو” أخر عملية يقتل فيها الأمريكيين والكمبوديين- كيسنجر أسهم في التاريخ المُضلّل للحرب الفيتنامية والنصب التذكاري لها يفضح ذلك- ثانياً : جرائم الحرب التي ارتكبها هنري كيسنجر في الهند الصينية وقتل فيها 350,000 مدني في لاوس و600,000 مدني في كمبوديا و500,000 فيتنامي- كيسنجر يجب أن يُعدم مثل الجنرالات اليابانيين- الإستهتار بحياة الضحايا : القصف الجوي حسب الوجبات الغذائية الخمس- يتفاهمون حول قصف الأبرياء وهم سكارى !- 4 ملايين طن من القنابل لنصف مليون قتيل- ثالثاً : قبرص : محاولة قتل الكاهن المشاكس- الرئيس المنتخب ديمقراطيا سبب الأزمات وليس الطغمة العسكرية الديكتاتورية- فضح الكذّاب- الكذّاب لا يستطيع ترك الكذب والتآمر- نصير النظام العسكري الديكتاتوري- كيسنجر كذّاب .. كذّاب .. كذّاب- المجرم المسؤول الأول عن تقسيم قبرص- الكذّاب يُطلق كذبة ضخمة جديدة- ملحق :هنري كيسنجر: مجرم حرب أم قاتل من الطراز القديم؟- خلفيّة القضيّة- قمع الصحافة من أجل مجرم حرب- تأديب الصحفي بيتر أرنت من أجل كيسنجر- ملاحظة عن هذه الحلقات الخاصة بالمجرم هنري كيسنجر- ملاحظة عن هذه الحلقات) .
# تساؤلات تمهيدية عن سرّ المجرم الدولي الطليق :
————————————————–
وهذا إفراز عجيب ومُدمّر آخر من إفرازات الحياة الأمريكية الشيطانية السامّة على حيوات الشعوب وأمنها وسلامها ، يندهش به ويُصدم به حتى المواطنين الأمريكيين أنفسهم. كيف لمجرم حرب مُتّهم بإبادة الملايين من النساء والأطفال باستخدام القصف الجوي والغاز السام المُحرّم أن يجول ويصول حرّاً في الولايات المتحدة والعالم ؟ كيف لمجرم حرب ملأ شوارع العالم بالدماء أن يقود المباحثات من أجل السلام ويحصل على 30,000 دولار مقابل ظهوره في الأوساط العامة كمحاضر أو وجه سياسي ؟ كيف لشخص تخصّص في تدمير التجارب الديمقراطية وإسقاط وقتل الرؤساء المُنتخبين وتعيين الرؤساء العسكريين الديكتاتوريين أن يتحدث عن الديمقراطية وضروة احترامها ؟ كيف مُنح هذا المجرم السفّاح “الحصانة” إلى حدّ أن تعتذر منه وسائل إعلام كبرى حين يجرؤ صحفي منها على الحديث عن جرائمه وإبادته البشرية للملايين بل تقوم بطرد الصحفي الذي تجرّأ على ذلك ؟ كيف وماذا تفعل شركته العملاقة التي جنت المليارات وهي سرّية هي وعملاؤها وما هي “الاستشارات” التي تقدمها لتربح هذه المليارات ؟ ما هي مؤهلاته وهو سياسي ليشتغل مستشاراً في عشرين شركة اقتصادية مثلاً ؟ كيف يكتب مذكراته الضخمة بأجوائها المتعدّدة المليئة بالأكاذيب فتلهث الوكالات والناس خلفها ولا تتعرّض إلا للقليل من النقد والإعتراض ؟ ما هو سرّ هذا السياسي الأمريكي الذي يصافح السياسيين في كل مكان من العالم ويداه ملوثتان بدماء شعوبهم؟
إنّه المجرم السفّأح الإرهابي الدكتور “هنري كيسنجر” وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي السابق وصاحب شركة “شركاء كيسنجر” حالياً . هذا الأنموذج هو الذي يعكس بصورة دقيقة وكاملة سيكولوجية السياسي الأمريكي الذرائعي المُحترف ؛ السياسي القاتل الذي يدعو إلى السلام، والديكتاتوري الذي يمجّد الديمقراطية، والاستغلالي مصّاص الدماء الذي يدعو إلى المساواة وتبادل المنافع ، والكذّاب الذي شعاره الصدق والأمانة . هو امتداد لكل الرؤساء والسياسيين القتلة ، والأنموذج الذي يقتدي به الرؤساء والسياسيين الذين عاصروه وجاءوا بعده ليعيثوا في الدنيا فساداً وتقتيلاً .
# تمهيد عن جرائمه “الصغيرة” :
——————————–
نقدّم هنا فقط الجرائم التي اقترفها هنري كيسنجر والتي تشكّل الأساس لاتهامه قانونياً بـ : أنه مجرم اقترف جرائم الحرب ، جرائم ضد الإنسانية ، وخروقات للقانون الدولي تتضمن التآمر لارتكاب جرائم قتل وخطف وتعذيب.
ولهذا يمكننا هنا أن نذكر تجنيد كيسنجر وخيانته للأكراد العراقيين الذين شجّعهم بشكل مخادع على حمل السلاح ضد صدام حسين بين عامي 1972 و1975 ، والذين تخلى عنهم إلى حدّ إفنائهم من قبل صدام حسين مقابل صفقة دبلوماسية مع شاه إيران ، والذي كُذب عليه وتمّ التخلي عنه أيضاً .
وبنفس الطريقة قاد كيسنجر التغطية السياسية والعسكرية والدبلوماسية لسياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ليقدّم سجلاً أخلاقياً مقيتاً كان من نتائجه المدمّرة تحطيم استقرار أنغولا .
الشيء نفسه والتحفظات نفسها تُقال عن ترؤسه للجنة الرئاسية عن أمريكا الوسطى في بداية الثمانينات والتي تكفّل بها أوليفر نورث والتي نظّمت عمل فرق الموت التي أبادت مئات الألوف من المواطنين هناك. في آب 2002 ، نشرت وزارة الخارجية أخيراً سلسلة من الوثائق تتعلق بالأرجنتين، والتي تكشف تورّط كيسنجر وذلك من خلال جعل الطغمة العسكرية الديكتاتورية تعتقد أن الولايات المتحدة (كيسنجر اساساً) قد أعطتها الضوء الأخضر للقيام بالإنقلاب العسكري . ويحتفظ أرشيف الأمن القومي بهذه الوثائق. وكذلك عن الحماية السياسية التي وفّرها حينما كان في السلطة لعائلة بهلوي في إيران وماكنتها القمعية والتعذيبية.
والقائمة تطول حتماً ويمكن أن تمتد لمجلدات ضخمة ، ولكننا سنحدّد أنفسنا بالجرائم التي اقترفها هنري كيسنجر والتي توصله إلى الإدانة والمحاسبة القانونية .
وهذه تشمل القتل الجماعي للسكان المدنيين في الهند الصينية ، والشجيع والتخطيط لقتل ضابط معيّن دستورياً في دولة ديمقراطية هي شيلي التي لم تكن الولايات المتحدة في حالة حرب معها تمهيداً لانقلاب قتل فيه الرئيس المُنتخب وقضى على الحياة الديمقراطية في البلاد. وقد امتدت تأثيرات عقلية هنري كيسنجر الإجرامية إلى بنغلاديش وتيمور الشرقية وقبرص ، بل حتى إلى واشنطن العاصمة.
# أوّلاً : سرّ وشاية عام 1968 التي تسبّبت في مقتل 20,000 أمريكي و600,000 فيتنامي :
——————————————————————
هنا يُكشف الدور التآمري القذر الذي قام به هنري كيسنجر في عام 1968 وأفشل به مفاوضات السلام لإنهاء الحرب الفيتنامية ، بين الفيتناميين الشماليين من جهة والفيتناميين الجنوبيين والأمريكان من جهة أخرى . السبب وبكلمات مباشرة هو أنه مع خريف عام 1968 ، قرّر ريشارد نيكسون ومبعوثيه إفشال مفاوضات باريس حول السلام في فيتنام. والطريقة التي اختاروها كانت بسيطة جدا : أكّدوا بصورة سرّية للحكام العسكريين في فيتنام الجنوبية أن التعامل مع نظام جمهوري مُقبل سيمنحهم فرصة لصفقة أفضل من التعامل مع نظام ديمقراطي ، ولذلك عليهم أن يتصلّبوا ويعاندوا في المفاوضات لإفشال الإنتخابات التي ستنهي الحرب . بهذه الطريقة قطعوا – وفي نفس الوقت – كلّاً من المفاوضات نفسها وكذلك الستراتيجية الانتخابية لنائب الرئيس الأمريكي “هوبرت همفري” . لقد نجح هذا التكتيك ، بجعل الطغمة العسكرية في جنوب فيتنام تنسحب من المفاوضات قبل الانتخابات بثلاثة أيام، وبذلك تحطمت مبادرة السلام التي كان الديمقراطيون قد أقاموا حملتهم الانتخابية على أساسها .
أي أنه خائن لرئيسه “جونسون” الذي كان من معاونيه المتحمّسين في حملته الإنتخابية من أجل نائبه همفري، والذي – أي جونسون – لم يجد مخرجاً لاسترضاء الناخبين إلّا بإنهاء الحرب الفيتنامية التي صار التحرّك الشعبي ضدّها عارماً ولا مجال لمقاومته، خان كيسنجر رئيسه الذي كان يلهج باسمه علناً ويتآمر ضده سرّاً، وذلك بأن قام بالوشاية بما يجري في الاجتماعات السرّية وتوصيلها إلى المُرشّح المنافس آنذاك “ريشارد نيكسون” الذي اعترف بالوشاية في مذكراته لاحقاً ، وبسبب وشاية كيسنجر هذه طالت الحرب حيث انهارت المفاوضات وعاد القصف من جديد وفاز نيكسون الذي بتأثير من كيسنجر الذي أصبح – الآن – مستشاره ووير خارجيته أمر بتوسيع القصف ليشمل لاوس وكمبوديا.
# ديغول يحتج على السلوك الدموي لكيسنجر :
——————————————–
لقد عُقد اجتماع في البيت الأبيض بين الجنرال ديغول وهنري كيسنجر ، في هذا الاجتماع سأل المحارب القديم “ديغول” كيسنجر : بأي حق تعرّض إدارة نيكسون الهند الصينية لقصف شامل مدمّر هو شكل من أشكال الإبادة البشرية. فردّ كيسنجر – وكما ذكر في مذكراته “سنوات البيت الأبيض” – بأن الإنسحاب المفاجىء سيسبّب لنا مشكلة في المصداقية” ، وعندما سأله ديغول : في أيّ مكان سيسبّب مشكلة في المصداقية ؟ ردّ : في الشرق الأوسط ! ..
# “مصداقية” كيسنجر أطالت الحرب وقتلت 20,000 أمريكي و600,000 فيتنامي :
——————————————————————–
في الحقيقة كان الأمر كله يتعلق بـ”المصداقية” وحفظ ماء الوجه على طريقة كيسنجر، ومن المعروف أنّ : 20,763 أمريكي ، و 109,230 فيتنامي جنوبي ، و 496,260 فيتنامي شمالي ، فقدوا حياتهم في الهند الصينية بين اليوم الذي تسلم فيه نيكسون وكيسنجر السلطة، واليوم الذي بدأ فيه سحب القوات الأمريكية عام 1973 ، والذي عاد فيه كيسنجر إلى التفاوض وفق نفس الشروط التي طُرحت عام 1968 !! تلك الشروط التي نسفها بخيانته لحليفه الرئيس جونسون وتسريبه للمعلومات إلى غريم جونسون “ريشارد نكسون” .
ولهذا فإن ما سمّي عموماً بـ “قصف عيد الميلاد” لفيتنام الشمالية ، واستمر بعد الفوز بالإنتخابات يجب أن يُصنّف كجريمة حرب المسؤول الأساسي عنها هو هنري كيسنجر . فهذا القصف لم تكن له علاقة بأي “سبب عسكري” على الإطلاق ، بل كان هدفه سياسياً ذا شقّين : الأول داخلي : عرض للقوة أمام المتطرفين في الكونغرس ، ووسيلة لوضع الحزب الديمقراطي في موضع الدفاع. والثاني كان إقناع القادة الفيتناميين الجنوبيين مثل الرئيس “ثياو” الذي كان كيسنجر هو سبب تصلّبه وعناده الأول بأن معارضتهم للإنسحاب الأمريكي كانت نزقة جدا . وهذا من جديد مّرتهن بعملية تسريب الأسرار التي قام بها كبسنجر عام 1968 .
وعندما حصل انهيار حتمي لا مفرّ منه في فيتنام وكمبوديا ، في نيسان ومايس 1975، كان الثمن غالياً وأعلى بكثير مما كان يمكن أن يكون عليه قبل سبع سنوات (أي لو انتهت الحرب في 1968 العام الذي أجهض فيه كيسنجر الإنسحاب) .
# عملية “ماياغو” أخر عملية يقتل فيها الأمريكيين والكمبوديين :
—————————————————————-
هذه السنوات انتهت مثلما بدأت ، بالصلف والتبجّح والخديعة والغش . في 12 مايس 1975 ، ومباشرة بعد سيطرة الخمير الحمر على السلطة في كمبوديا ، اعتقلت الزوارق الحربية الكمبودية سفينة تجارية أمريكية اسمها “ماياغو – Mayague” . أُوقفت السفينة في المياه الدولية كما ادعت كمبوديا ثم اقتيدت إلى جزيرة كوه تانغ الكمبودية ، وعلى الرغم من إطلاق سراح الطاقم الأمريكي ، فإن كيسنجر استطاع اقناع الرئيس جيرالد فورد – ومن أجل “المصداقية” و “حفظ ماء الوجه” – بأن يُرسل قوة من المارينز والقوة الجوية . ومن بين الـ 110 من قوة المارينز قُتل 18 وجُرح 50 . 23 من رجال القوة الجوية قُتلوا في حادث تحطّم طائرة . استخدمت الولايات المتحدة 15,000 طن من القنابل في قصف الجزيرة من اشد القنابل اللاذرية قوة التي تمتلكها . لا أحد أحصى القتلى من الكمبوديين . كانت العملية كلها والخسائر بلا معنى لأن السفينة كان قد أطلق سراحها قبل ساعات من العملية. أثبت تحقيق للكونغرس أنّ كيسنجر كان من الممكن أن يتجنب هذه المغامرة الدامية لو استمع إلى الإذاعة الكمبودية ، أو أعطى انتباهه لطرف حكومي ثالث كان يفاوض لاسترداد الطاقم والسفينة .
# كيسنجر أسهم في التاريخ المُضلّل للحرب الفيتنامية والنصب التذكاري لها يفضح ذلك:
في واشنطن هناك نصب تذكاري شهير لتخليد القتلى الأمريكيين في فيتنام يُسمّى “نصب مقاتلي فيتنام” ، ويحمل اسماً مضلّلاً . وقد أنجز في عام 1982 ، ونُقش على جداره 60,000 اسم حسب تاريخ الوفاة وليس حسب الحروف الأبجدية . أول مجموعة من الأسماء تعود إلى عام 1959 وآخر مجموعة إلى عام 1975 . وأغلب الزائرين يقولون إنّهم لم يكونوا يعتقدوا بأن الولايات المتحدة قد تورّطت في فيتنام منذ هذا الوقت المبكر وكذلك إلى هذا الوقت المتأخر . وكذلك لا يعرف الرأي العام الأمريكي ذلك . كانت الأسماء الأولى للعاملين السريين الذين أرسلهم الكولونيل “إدوارد لاندسدال” بدون موافقة الكونغرس لمساعدة المستعمرين الفرنسيين . وكانت الأسماء الأخيرة هي للجنود الذين ألقي بهم كيسنجر في مغامرة السفينة ماياغو الفاشلة . لقد أخذ هنري كيسنجر على عاتقه ضمانة أنّ حرباً قذرة ساعد هو على إطالة أمدها ستنتهي بنفس الخزي والسفالة التي بدأت بها .
# ثانياً : جرائم الحرب التي ارتكبها هنري كيسنجر في الهند الصينية وقتل فيها 350,000 مدني في لاوس و600,000 مدني في كمبوديا و500,000 فيتنامي :
——————————————————————-
بعض التصريحات تكون أكثر مما يتحمله الخطاب اليومي العام ، وتحمل من الدلالات المستترة ما يدفعك إلى تأمّل أعماقها وما وراءها . في كانون الثاني 1971، كان هناك تصريح مهم للجنرال “تلفورد تايلور” الذي كان رئيس مجلس الإدعاء العام الأميركي في محاكمات نورمبرغ. فبعد مراجعته للأسس الأخلاقية والقانونية لتلك الجلسات، ومحاكمات طوكيو لمجرمي الحرب، ومحكة مانيلا لرئيس هيئة أركان حرب الإمبراطور هيروهيتو ، الجنرال ياماشيتا تومويوكي ، قال الجنرال تايلور : لو طُبّقت معايير نورمبرغ ومانيلا بعدالة على المسؤولين الأميركيين الذين صمّموا حرب فيتنام ، فإن هناك احتمالا كبيرا جدا أنهم سيلاقون المصير نفسه الذي واجهه ياماشيتا [وهو الإعدام]. وليس كل يوم نسمع مثل هذا التصريح من قائد عسكري أميركي بارز ومحلف في القضاء يرى فيه أن السياسيين الاميركيين يجب أن يعلّقوا بحبال المشانق .
جاء رأي الجنرال تايلور الخطير هذا في كتابه “نورمبرغ وفيتنام” الذي كتبه في الوقت الذي كانت فيه العديد من الحوادث االبارزة في الهند الصينية ما زالت تجري او أنها سوف تحدث. لم يكن عارفاً ببشاعة وشدّة – على سبيل المثال – قصف لاوس وكمبوديا .
لقد أُعدم الجنرال الياباني ياماشيتا، وكانت تهمته الأساسية هي أنه لم يسيطر على سلوك جنوده الوحشي وقت انسحابهم ، وهو أمر غريب حيث كان الجيش الياباني في حالة فوضى وانقطعت وسائل الإتصال بين الجنرال الياباني وجنوده ، فكيف سيسيطر على سلوك جنوده ؟ .
ولكن بالنسبة للجيش الأمريكي في فيتنام فإنّه كان مجهّزاً بطائرات الهليكوبتر والوسائل الجوية الأخرى ، وبكل وسائل الإتصال التي لم تنقطع ، وقد منحه ذلك درجة من الحركة لم تتوفّر في كل الحروب السابقة ، وهذا أعطى قادته القدرة على السيطرة على مسار الحرب ومجريات المعارك تحت رقابة دقيقة ولصيقة. كانت الإتصالات سريعة وكفوءة بحيث أن تيار المعلومات لم ينقطع أبداً .
وهذه الظروف كانت تنقص الجنرال ياماشيتا بين عامي 1944 و1945، وقواته تتراجع منهكة وفي فوضى عارمة أمام القوات الأمريكية . ولأنه لم يسيطر على قواته، وجَدَتْه هيئة محكمة طوكيو مجرمَ حربٍ وأعدمته .
وكذلك كانت الصلة بين القيادة السياسية، والقيادة والقوات العسكرية الأمريكية في الحرب الفيتنامية لصيقةً ومستمرة أكثر بكثير مما هو الحال في اليابان أو الفلبين في الحرب العالمية (الغربية) الثانية . أي أن الرئيس الأميركي ومعاونيه كانوا على اطلاع تام على المجازر التي تحصل وتدمير البنى التحتية المدنية وقتل المدنيين . لقد عاد الجنرال “جون مالكنوتن” نائب وزير الدفاع من البيت الأبيض في أحد أيام عام 1967 وهو يحمل رسالة تؤكد على المضي في اجتثاث مقاتلي الفيتكونغ الفيتناميين من خلال تدمير كل القرى والمدن بلا تمييز، وتطهير الغابات بالمواد الكيمياوية وتغطية كل جنوب فيتنام بعد ذلك بالأسفلت !!
# كيسنجر يجب أن يُعدم مثل الجنرالات اليابانيين :
———————————————
ويقول الجنرال تايلور إن حالة هنري كيسنجر تشبه محاكمة “كوكي هيروتو” الذي كان رئيسا لوزراء اليابان لفترة قصيرة جدا ووزير الخارجية بين 1933 ومايس 1939 والذي غادر كل منصب بعد ذلك ولم يُكلّف بأي مهمة أبداً. ما سُمّي بـ “اغتصاب نانكينغ – rape of Nanking” الذي قامت به القوات اليابانية في شتاء عام 1937 – 1938 عندما كان هيروتو وزيرا للخارجية وقتلت ما بين 40,000 – 300,000 مواطن صيني في تلك المدينة نانكينغ التي كانت عاصمة الصين. فعلى أساس استلام هيروتو تقارير مبكرة عن المجازر أمر بإيقاف هذه الأفعال وحصل على تأكيدات من وزارة الحرب بأنها ستوقَف . ولكن المجازر استمرت ، وقد حكمت عليه محكمة طوكيو لجرائم الحرب بالإعدام لأنه “اقتنع بالتأكيدات العسكرية على إيقاف المجازر وهو يعلم أنّها لن تُطبّق”. وقد أُعدم بسبب ذلك.
الجنرال “ملفن ليارد” كوزير للدفاع في إدارة نيكسون الأولى كان قلقا حول القصف المبكر لكمبوديا ، ويتساءل عن شرعية هذا التدخل، وأرسل مذكرة يتساءل فيها هل اتُخِذت خطوات على أسس ثابتة لتقليل خطر قصف الشعب الكومبودي وبناه التحتية ؟ وإذا كان هذا قد حصل ، فما هي هذه الخطوات؟ وهل نحن متأكدون أن هذه الخطوات مؤثرة ؟ . ولا يوجد أي دليل على أنه قد حصل أي تأكيد من هنري كيسنجر كمستشار للأمن القومي ووزير للخارجية.
وفي الواقع، هناك دلائل كبيرة على أن كيسنجر قد قام بخداع الكونغرس حول المدى الحقيقي للتطمينات التي قُدّمت وظهر أنها كلها كاذبة. لقد قام كيسنجر – حسب الجنرال تايلور – بخرق اتفاقيات جنيف المتعلقة بحاية المدنيين وقت الحرب وذلك من خلال القصف القائم على العقوبات الجماعية مع أن تايلور كتب ذلك قبل أن يتسع القصف بإشراف كيسنجر ليشمل دولتين مجاورتين هما كمبوديا ولاوس خارقاً بذلك القانون الدولي، مع الإصرار على “توسيع” قصف المدن الفيتنامية وهذه جريمة حرب أخرى.
وكيسنجر كان يعرف أيضاً – وبدقة – أن القادة الميدانيين كانوا يعتبرون جثث المدنيين كجثث لجنود العدو.
ومن بين قائمة طويلة من الأمثلة هناك حالات تشمل كيسنجر بصورة مباشرة ، منها – مثلا – عملية “”Speedy Express والتي تمّت عام 1969 حيث كان كيسنجر مسؤولا تماماً عن ملف الحرب في عهد الرئيس جونسون حيث بالرغم من أن روبرت ماكنمارا كان قد أخبر الكونغرس في 22 كانون الثاني عام 1968 بأن منطقة دلتا الميكونغ الفيتنامية في مقاطعة “كايين هوا” لا توجد فيها أي قطعات فيتنامية شمالية، ولا توجد أي معلومات استخبارية تخالف ذلك ، ولذلك فهو لا يجد أي معنى لـ “تنطيف” المنطقة بالقصف العسكري . برغم ذلك، أمر كيسنجر بتطهير المنطقة حيث قُتل ما لا يقل عن 5000 آلاف فلاح فيتنامي كما كشفت ذلك مجلة النيوزويك لاحقاً . كانت هناك 3381 طلعة جوية في هذه العلمية تمّتْ بعلم كيسنجر . وكان مجموع الضحايا في هذه العملية هو 10,899 مدنيا وكان أغلبهم فلاحين تحصدهم مدافع طائرات الهليكوبتر في الحقول المكشوفة حسب تصريح أحد المسؤولين العسكريين في الفيلق التاسع. وما يكشف أكاذيب كيسنجر هو التناقض على الأرض بين عدد الجثث وعدد قطع السلاح، حيث عُرف عن مقاتلي الفيتكونغ أنهم مُسلحون بصورة جيدة ، وقد كان عدد الجثث هو 11,000 في حين أن عدد قطع السلاح التي حصل عليها الجيش الأمريكي هو 748 قطعة سلاح مما يعني أن الغالبية العظمى من القتلى هم من المدنيين غير المسلحين .
وقد التقى مراسل النيوزويك ببعض القرويين الفيتناميين فأكّدوا له الدمار الهائل الذي سبّبه القصف الأمريكي ، أحد القرويين قال له كان في قريتنا 5000 إنسان قبل عام 1969 ولم يبق أحد منهم في عام 1970. وجميع البيوت تم تدميرها بالقصف المدفعي أو الجوّي أو تم حرقها بقدّاحات السجائر ، وكان أغلب القتلى من الأطفال الذين لم تكن أجسامهم الغضة تتحمل آثار العصف حتى لو كانوا مختبئين تحت الأرض .
هذه العملية المذبحة فاقت ما حصل في مجزرة ماي لاي أضعافا مضاعفة ، وهناك مثال ثاني على جرائم كيسنجر هو عملية “Wheeler Wallawa”، والتي أدت إلى 10,000 قتيل وفيها أيضا تم حساب جثث المدنيين كجثث للمقاتلين الفيتناميين.
ولأن الجنرال “كريتون أبرامس” كان يمتدح علنا عمل الفيلق التاسع الذي كان يقوم بالقصف، ولا يوفّر أي فرصة علنية أمام الصحافة خصوصا إلا ويُعلن فيها عن تقديره لعمل هذا الفيلق الذي أباد المدنيين الفيتناميين، فإن معنى ذلك إن القيادة السياسية كانت على علم تام بما يجري في الحرب . ومن بين أهم الأدلة على ذلك هي تلك التفصيلات الحربية الدقيقة التي ذكرها كيسنجر في مذكراته بشكل يكشف أن أدق التفاصيل في الحرب كانت تجري بعلمه وبموافقته.
وهناك الدلائل على إشرافه اليومي والتفصيلي على قصف كمبوديا ولاوس، وقد وصل به الهوس إلى حد الإنشغال الشديد باستخدام الأسلحة النووية الحرارية لسحق خط السكة الحديد الذي يربط بين فيتنام الشمالية والصين ، ثم فكر في تدمير السدود التي تمنع نظام الري الفيتنامي الشمالي من الفيضان وإغراق البلاد. وكلا الخطتين كشفهما مؤرخ مرحلة نيكسون “تاد شولز” في كتابه “وهم السلام” ، وكذلك مساعد كيسنجر “روجر موريس”. ولكن الأمرين لم يُنفّذا الأمر الذي قلل من قائمة جرائم الحرب الأميركية ولكنهما تعسكان العقلية الإجرامية التي يتمتع بها كيسنجر .
# الإستهتار بحياة الضحايا : القصف الجوي حسب الوجبات الغذائية الخمس :
———————————————————————- ومن جرائم الحرب الصارخة الأخرى هو قصف كمبوديا ولاوس بلا أي سبب وبإشراف مباشر من هنري كيسنجر وبصورة وحشية لا مثيل لها . والغريب هو أن الغارات الجوية نُظّمت في صورة “قائمة طعام – “menu ، حيث وُزّعت على هيئة خمس وجبات يومية هي : فطور ، غداء ، تصبيرة snack (وجبة خفيفة في منتصف النهار) ، عشاء ، تحلية deserts (تحلية بعد العشاء) .
وكان القصف بأكمله يُنفذ بطائرات البي 52 التي من مميزاتها أنها تُدمّر في كل ضربة مساحة بقدر ملعب لكرة القدم ، وتنفّذ طلعاتها على ارتفاعات عالية جدا لا تُسمع ولا تُميّز من قبل المدنيين الأمر الذي يجعلهم يُفاجأون ويُقتلون بصمت . وبين آذار 1969 ومايس 1970 جرت 3,630 طلعة قصف جوية بدأت بعلم هنري كيسنجر واستمرت بعلمه المباشر .
وهناك مذكرة أُعدت من قبل رئيس موظفي البيت الأبيض وأرسلت إلى وزارة الدفاع وإلى البيت الأبيض توضح عدد المدنيين الكمبوديين الذين قتلوا في قائمة “طعام” قصف واحدة على الشكل التالي :
الفطور (منطقة عمليات 535) يسكنها 1,640 مدنيا كمبوديا،
الغداء (منطقة عمليات 609) 198 مدنيا،
التصبيرة (منطقة 351) 383 مدنيا،
العشاء (منطقة 352) 770 مدنيا،
والتحلية (منطقة 350) 120 فلاحاً كمبوديا .
وهذه الأرقام الدقيقة المباشرة كافية بحد ذاتها لتثبت أن كيسنجر كان يكذب حين قال أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس بأنّ المناطق التي تم اختيارها للقصف في كمبوديا كانت خالية من السكان.
وكنتيجة لهذا القصف “السجّادي” الشامل كان عدد الخسائر المثبت رسميا هو 350,000 مدني في لاوس ، و 600,000 مدني في كمبوديا .
وهذه ليست الأرقام النهائية، فعدد النازحين الفارّين من القصف أضعاف هذا العدد، كما أن الاستخدام الواسع للمواد الكيمياوية السامّة سبّب أضرارا صحّية هائلة خصوصا على الأطفال والأمهات المُرضعات والمسنين والمُعاقين. وهذه الأزمة مستمرة حتى هذا اليوم.
صحيح أن هذه الحرب المروّعة ونتائجها الرهيبة تمثل أزمة أخلاقية وسياسية لإدارات خمسة رؤساء أمريكيين ولمؤسسات المجتمع الأميركي عموما، إلا أن أفراداً معينين يمكن أن توضع على عاتقهم مسؤوليات إجرامية مُحدّدة مثل الرئيس نيكسون ومستشاره المقرب ووزير خارجيته هنري كيسنجر .
# يتفاهمون حول قصف الأبرياء وهم سكارى ! :
———————————————-
على سبيل المثال لا الحصر في مرحلة التحضير لقصف كمبوديا استقال العديد من هيئة عمل كيسنجر احتجاجا على توسيع الحرب . وكان الرئيس يستمع إليه أكثر من اي شخص آخر حتى والرئيس سكران !. في مكالمة مُسجّلة سرّبها الموظف “ويليام ستافر” (الذي استقال لاحقا) يتحدث فيها الرئيس نيكسون وهو سكران ! ، وقد أشرك مستشاره “بب ربوزو” على الخط في المحادثة ليقول لكيسنجر إن الرئيس يريد التاكّد هل سيؤدي القصف الشامل على كمبوديا إلى نتيجة في الحرب ، وكيسنجر يؤكد له على فاعلية الخطة .
وفي مذكراته يقدم رئيس موظفي البيت الأبيض “هـ . ر. هالدمان” كيف كان كيسنجر يقفز فرحا ومنتشيا حين تصله أخبار “نجاحات” وجبات القصف : الفطور والغداء والعشاء .. إلخ على كمبوديا ولاوس ..
كما اعترف الكثير من القادة العسكريين ومنهم مسؤول العمليات التكتيكي للقاصفات بي 52 بأن نتائج القصف كانت تُنقل إلى كيسنجر أولا بأول ، كما أنه كان يتصل بنفسه .. لا ليتابع عمليات القصف تفصيليا فحسب، بل للإطلاع على تقارير الاستخبارات أيضا .
لقد استقال بعض أفضل معاونيه ومنهم أنثوني لاك وروجر موريس ، كما رفع 200 من موظفي وزارة الخارجية عريضة احتجاج على توسيع القصف ، وفوق ذلك فقد ذكر مشمئزا في مذكراته أن وزير الدفاع آنذاك ملفن ليارد كان رافضا لتوسيع القصف .
ومن الأسباب التي جعلت القيادة الأمريكية في جنوب شرق آسيا تتوقف أخيرا وبصورة نهائية عن إرسال إحصائيات الجثث هو أن الأرقام التي كانت تُعطى للجثث كانت أعلى بكثير من مجموع أعداد العدو التي حُدّدت في الميدان .
# 4 ملايين طن من القنابل لنصف مليون قتيل :
——————————————–
لكن الحرب مضت في مسار متصاعد من ناحية الخسائر البشرية . ولهذا ووفقا لإحصائيات البنتاغون ، فإن الجدول الآتي يمثل أرقام الخسائر بين آخر حملة قصف شنّها الرئيس “لندون جونسون” في آذار 1968 ، و26 شباط 1972 :
أمريكان : 31,205
جنود نظاميون من فيتنام الجنوبية : 86,101
“العدو” : 475,609
وفوق ذلك فإن اللجنة الفرعية للكونغرس المتعلقة باللاجئين قدّرت أنه في السنوات الأربع نفسها فإن أكثر من ثلاثة ملايين مدني قد قُتلوا أو جرحوا أو أصبحوا بلا مأوى.
وفي فترة السنوات الأربع هذه أيضا اسقطت الولايات المتحدة 4,500,000 طن من المتفجرات عالية الانفجار على الهند الصينية (علماً أن تقدير البنتاغون لكمية المتفجرات الكلية التي أُسقطت في الحرب العالمية الثانية كلها هو 2,044,000 طن فقط). والرقم الكلي في فيتنام لا يشمل الرشّ الشامل بعوامل تعرية الأشجار ومبيدات الحشرات الكيمياوية .
وليس واضحاً كيف حسبت القيادة الأمريكية ضحايا القتل والاختطاف لـ 35,708 مدني فيتنامي من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في العمليات التي سُمّيت بـ “برنامج العنقاء – Phoenix program” المضاد لحرب العصابات خلال السنتين والنصف الأولى من سنوات إدارة نيكسون – كيسنجر . كما أن هناك “تداخلاً” مع عمليات الإدارات السابقة في جميع الحالات. ولكن ما هو مؤكّد هو أن عدد الخسائر التي حصلت بإشراف هنري كيسنجر كانت معروفة ومفهومة من قبله ، وأنّه قد أخفاها عن الكونغرس والصحافة والرأي العام. وأنها نتيجة عمليات سرّية في واشنطن أُخفيت حتى عن الكثير من أعضاء الحكومة ، وأن هنري كيسنجر كان المستفيد الرئيسي منها (طبعاً من ورائه شركات السلاح الكبرى) .
# ثالثاً : قبرص : محاولة قتل الكاهن المشاكس :
————————————————
في الجزء الثاني من ثلاثية مذكراته “سنوات الغليان” ، وجد هنري كيسنجر أن كارثة قبرص عام 1974 مزعجة جداً فقرّر تأجيل تناولها :
“يجب علي أن أترك الشرح الكامل لأزمة قبرص إلى مناسبة أخرى، لأنها تمتد في رئاسة فورد وترِكَتها قائمة ولم تُحل حتى اليوم”.
وهذا يعكس توتراً عصبيّاً من جانبه، فقضايا مثل فيتنام وكمبوديا والشرق الأوسط وأنغولا وشيلي والصين ومفاوضات سالت SALT كلّها تحمل تركة “لم تُحل حتى اليوم” . والقول بأن تلك القضايا استطالت إلى رئاسة فورد يعني القول ، بالنتيجة ، أن لا شيء سوى كون هذه الفترة الممتدة بين رئاستين ، قد حصلت من الناحية التاريخية.
وفي أغلب كتاباته عن نفسه (وكذلك في أغلب تقديماته لزبائنه) يعكس كيسنجر مظهر الرجل الفطن المتماسك، لكن هناك حالات تفرض عليه اتخاذ وضع البريء التلقائي وحتى المسكين وذلك حين تُظهر السجلات ما يمكن أن يواجهه بتهم المسؤولية والتواطؤ.
وقضية قبرص عام 1974 هي من هذا النوع. فكيسنجر في الجزء الثالث من مذكراته “سنوات التجديد” يزعم أن فضيحة وترغيت وانحرافات رئاسة نيكسون حرمته من التأمل الكافي والإنشغال المركّز بالمثلث الحرج : اليونان ، تركيا ، وقبرص. وهذا زعم غريب وكاذب، فتعبير “الجناح الشرقي للناتو” كان بديهية جيوسياسية بأهمية أولى، كما أن قرب قبرص من الشرق الأوسط كان عاملا مهما لم يغب أبدا عن التفكير الستراتيجي الأميركي . لم يكن هناك سبب في السياسة الداخلية يمنع المنطقة من أن تدخل إلى دائرة اهتماماته . بالإضافة إلى ذلك فإن الإنهيار الداخلي العاصف لسلطة نيكسون المطروح كسبب لغياب عقل كيسنجر ، أضفى سلطات غير طبيعية عليه.
ولتوضيح ما هو واضح نقول : عندما أصبح كيسنجر وزيرا للخارجية في 1973 عمل على الإحتفاظ بمنصب المساعد الخاص للرئيس لشؤون الأمن القومي أو ما نسميه الآن مستشار الأمن القومي. هذا جعله وزير الخارجية الأول والوحيد الذي يمسك رئاسة لجنة الأربعين وهي طبعا اللجنة التي تراقب وتصادق على العمليات السرّية للـ CIA. في الوقت نفسه – وكرئيس لمجلس الأمن القومي – فقد احتل موقعا لا يمكن لأي خطة استخبارات مهمة إلّا أن تمر بمكتبه. ولم يكن روجر موريس؛ مساعده في مجلس الأمن القومي مبالغاً، حين قال إن المنصب المزدوج هذا لكيسنجر مع تآكل سلطة نيكسون جعله عمليّاً “رئيس الدولة لشؤون الأمن القومي” .
# الرئيس المنتخب ديمقراطيا سبب الأزمات وليس الطغمة العسكرية الديكتاتورية :
—————————————————————-
قدّم كيسنجر نبوءة في كتابه “سنوات الغليان” وأخرى في “سنوات التجديد” . في الأول قال بشكل مباشر : “كنت دائماً متأكداً من أن الأزمة العامة القادمة في قبرص ستثير التدخل التركي ، وقد يتضمن خطر احتمال حرب ضمن الناتو بين اليونان وتركيا، ومن المؤكد أنه سيتضمن تقسيم الجزيرة. وهذه معرفة عامة لا يشك فيها أي شخص له اطلاع قليل حول الشأن القبرصي. أما في الجزء الثاني الذي يتناول فيه كيسنجر التحدي الذي رفضه في الجزء الأول ببساطة، فإنه يكرّر سؤال القارىء لماذا أي شخص (مثله هو مثلا المُحمّل بهموم ووترغيت) يتوقع أزمة في شرق البحر المتوسط بين حليفين في الناتو؟
هاتان العبارتان المراوغتان تحتاجان إلى الفحص والتدقيق في ضوء عبارة ثالثة ظهرت على الصفحة 199 من “سنوات التجديد”، هنا يوصف الرئيس القبرصي ماكاريوس بدون توشيات بأنه : “السبب التقريبي لكل اضطرابات قبرص” . كان ماكاريوس القائد المنتخب ديمقراطيا في جمهورية غير مسلّحة، والتي كانت في ذلك الوقت في اتفاق تعاوني مع الجمعية الاقتصادية الأوروبية، وعضواً في الأمم المتحدة وفي الكومنولث. واجه تحديّات من قِبَل الديكتاتورية العسكرية في اليونان ومن قبل حكومة ذات طبيعة عسكرية في تركيا، وكلاهما يموّل ويدعم منظمات مسلّحة من الجناح اليميني في الجزيرة، وكلاهما يخطط أيضاً للاستيلاء على جزء من الجزيرة. وبالرغم من ذلك فإن العنف المجتمعي الداخلي كان في تناقص خلال مرحلة السبعينات . أغلب حالات القتل كانت في الحقيقة داخلية: من الديمقراطيين اليونانيين والأتراك أو الأمميين من قبل منافسيهم القوميين المتعصبين. جرت محاولات عديدة لاغتيال ماكاريوس من قبل اليونانيين والقبارصة اليونانيين المتطرفين. ووصف كيسنجر هذا الرئيس بأنه “السبب التقريبي لأغلب توترات الجزيرة” فإنه يعكس حكماً أخلاقياً غريباً ومنحرفاً .
# فضح الكذّاب :
—————-
هذا الحكم الغريب نفسه يقدّم المفتاح الذي يفك أكاذيب كيسنجر في قلب هذا الفصل. إذا كانت السلطة المدنية المنتخبة (والزعيم الروحي للمجتمع اليوناني الأورثوذوكسي) “السبب التقريبي” لكل التوترات ، فإذن تمثل إزاحته من المشهد بذاتها العلاج لتلك التوترات. وإذا استطاع أحد أن يثبت أنّه كان هناك مخططا للإزاحة ، وأن كيسنجر يعرف به بصورة مسبقة ، فإن ما سيتبع ذلك منطقيا وطبيعيا هو أنكيسنجر لا يبحث عن أزمة بل يفتش عن حل .
ومن خلال سجل كيسنجر ومذكراته ، وكذلك التحقيق الرسمي ، من اليسير إثبات أنه كانت لديه معلومات مسبقة عن خطة لعزل ماكاريوس وقتله. لقد أقرّ ، بملاحظة أن ديكتاتور أثينا ديميتريوس أيوانيدس ، مدير الشرطة السرّية ، أنه قد تقرّر ترتيب انقلاب في قبرص ووضع الجزيرة تحت سيطرة أثينا. هذه كانت من الحقائق المعروفة جيّداً عن الوضع آنذاك، مثلما هي الحقيقة المحرجة عن أن الجنرال أيوانيدس يعتمد على المساعدة العسكرية الأميركية والتعاطف السياسي الأميركي. كانت دولته البوليسية قد طُردت من المجلس الأوروبي ، وما أبقاه في السلطة هو “استضافته” لوحدات من الأسطول الأميركي السادس والقوات الجوية الأمريكية وقواعد للاستخبارات الأمريكية. كانت السياسة الأمريكية المتسامحة مع المجلس العسكري اليوناني محل خلاف كبير داخل الكونغرس والصحافة الأميركية ، وكانت خبز كيسنجر اليومي قبل تفجّر دراما ووترغيت .
لقد أصبح مفهوماً أن ديكتاتور اليونان هو زبون أمريكي يرغب في الإطاحة بماكاريوس ويحاول قتله (الإسقاط والإغتيال إذ لا مجال لإبقاء مثل هذه الشخصية الكاريزماتية على قيد الحياة). والدليل الأبرز على ذلك : في مايس 1974 أي قبل شهرين من الإنقلاب الذي وقع في نيقوسيا عاصمة قبرص ، والذي زعم بأنه جاء كصدمة بالنسبة إليه، تسلّم كيسنجر مذكرة من مدير قسم قبرص في وزارة الخارجية “ثوماس بويات” لخّص فيها كل العوامل والملابسات والظروف التي تشير إلى أن المجلس العسكري اليوناني ينوي مهاجمة قبرص وأن الرئيس ماكاريوس في خطر وشيك. وقد اضاف بأنه في غياب خطوة سياسية رادعة من جانب الولايات المتحدة تجعل الديكتاتوريين يرعوون، فإن معنى ذلك أن الولايات المتحدة ستكون غير مكترثة لهذا الوضع. وأضاف أن كل إنسان يعرف أن مثل هذا الإنقلاب إذا حصل فإنه بلا شك سيستدعي غزواً تركيّاً.
العشرات من الوثائق التي سُرّبت للصحافة أو الكونغرس في واشنطن بعد الأزمة، أو قرئت لأول مرة، من أجل حماية بعض المواقع البيروقراطية. ولكن كيسنجر يقرّ الآن أنه رأى تلك الوثائق عندما كان في غمرة رحلاته المكوكية بين سوريا و “إسرائيل” (وكلاهما على بعد نصف ساعة طيران من قبرص) . ومع ذلك لا نجد اي خطوة أو مبادرة سياسية تحمل اسمه أو تتضمن سلطته قد وُجّهت إلى المجلس العسكري اليوناني.
بعد مدة قصيرة ، في 7 حزيران 1974 ، نشرت صحيفة ديلي إنتليجنس ناشيونال ، وهي صحيفة الفطور لكل مسؤولي وزارة الخارجية والبنتاغون ومسؤولي الأمن القومي، تقريرا ميدانيا أمريكيا مؤرخ في 3 حزيران، يوضح وجهات نظرديكتاتور أثينا :
“زعم أيوانيدس أن اليونان قادرة على إزاحة ماكاريوس ومناصريه الرئيسيين من السلطة خلال 24 ساعة بأقل قدر من الدماء ومن دون مساعدة من EOKA (وهي منظمة قبارصة يونانيين فاشية سرّية مُسلّحة وممولة من مجلس اثينا) . الأتراك سيذعنون بهدوء لإزاحة ماكاريوس ، العدو الرئيسي”.
هذا التقرير موثّق أمام الكونغرس من قبل فريق من المخابرات المركزية عمل في أثينا في تلك المرحلة. وحقيقة أن هذا جعل الجنرال أيوانيدس منتفخاً ومتعالياً يؤكّد هذا الخطر الداهم.
# الكذّاب لا يستطيع ترك الكذب والتآمر :
—————————————-
وفي نفس الوقت تقريبا ، تسلم كيسنجر اتصالا هاتفيا من السناتور “ويليام فولبرايت” ، رئيس لجنة العلاقات الخارجية وكان قد أُطلع على موضوع الإنقلاب الوشيك من قبل معارض يوناني بارز في واشنطن هو صحافي اسمه “إلياس ديمتراكوبولوس” (سيحاول كيسنجر قتله لاحقاً كما سنرى). وووفقاً لديمتراكوبولوس أخبر فولبرايت كيسنجر بأنه يجب اتخاذ خطوات ضرورية لمنع المخطط اليوناني من التحقق ، وقدّم ثلاثة اسباب : الأول هو أنها سوف تُصلح بعضاً من الضرر الأخلاقي الذي سبّبه تساهل أمريكا مع المجلس العسكري اليوناني، والثاني هو أنها سوف تمنع مواجهة عسكرية بين تركيا واليونان في البحر المتوسط، والثالث أنها ستعزّز سطوة أمريكا على الجزيرة. امتنع كيسنجر عن اتخاذ الخطوات المطلوبة بحجة أنّه لا يستطيع التدخل في الشؤون الداخلية اليونانية في وقت تواجه فيه إدارة نيكسون ضغوطاً من قبل السناتور “هنري جاكسون” للربط بين اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة وروسيا وإطلاق الهجرة لليهود السوفيت. وبالرغم من غرابة مثل هذا التبرير فإن كيسنجر لا يستطيع بعد الآن أن يزعم انّه لم يستلم اي تحذير عن الوضع في الجزيرة.
# نصير النظام العسكري الديكتاتوري :
————————————-
وحتى الآن لم يُسجل أي اتصال أمريكي على مستوى عالٍ باليونان ، ويتم تصوير الصعوبة وكأنها أمر يتعلق بالبروتوكول أو الإتيكيت وكأن عادة السيّد كيسنجر الثابتة هي الهمس والمشي بخفّة الملائكة. كان أوانيديس هو رأس النظام ولكن عمليّاً هو رئيس جهاز بوليسه السرّي. وبالنسبة إلى السفيرالأمريكي “هنري تاسكا” كان أمراً مُحرجاً إقامة صلات دبلوماسية مع رجل وصفه بأنه “شرطي” . ومن جديد يجب أن نتذكر أن هنري كيسنجر كان بالإضافة إلى جلاله الدبلوماسي فإنه كان رئيسا للجنة الأربعين وبالتالي فهو مشرف على العمليات السرّية الأمريكية وكان يتعامل بصورة سرية مع نظام أثينا الذي لديه علاقات طويلة الأمد بوكالة المخابرات المركزية. وقد عبّرت لجنة البيت الأبيض للاستخبارات في 1976 عن المشكلة بلباقة في تقريرها :
“تاسكا الذي تم التأكيد له من قبل مسؤول محطة وكالة المخابرات بأن أوانيدس سيستمر بالتعامل مع وكالة المخابرات فقط ، ولن يشارك مسؤول مكتب وزارة الخارجية، كان مقتنعاً بضرورة تمرير رسالة إلى القائد اليوناني بصورة غير مباشرة .. ومن الواضح أن السفارة لم تتخذ اي خطوات لتبيّن لأوانيدس عمق قلق الولايات المتحدة حول المحاولة الانقلابية في قبرص. وفي هذه الأزمة التي كانت صلة أوانيدس بوكالة المخابرات حصرياً ، تشير ملاحظات تاسكا إلى أنه قد لا يكون شاهد كل الرسائل المهمة من وإلى محطة وكالة المخابرات، قناعات أوانيدس بقبول الولايات المتحدة، وبرودة الولايات المتحدة المعروفة تجاه ماكاريوس ، كلها خلقت قناعة لدى الرأي العام بأن الولايات المتحدة إمّا أنهاغير مكترثة بالتقارير عن تطوّرات الأزمة أو أنها – ببساطة – تسمح لها بالوقوع.
مذكرات ثوماس بويات محذّرةً بدقّة مما سيقع تمّ تصنيفها كوثيقة سرّية ولم يتم رفع السرّية عنها حتى الآن. وعندما طُلب للشهادة على الموضوع، منعه كيسنجر من الظهور أمام الكونغرس ثم سمح له بالقيام بذلك فقط لكي يتجنب تهمة ازدراء الهيئة التشريعية . وحين أُخذت براهينه تمّ إخلاء غرفة الاستماع من فريق العمل والمراسلين والزوّار .
في الأول من تموز 1974 ، ثلاثة من المسؤولين البارزين في وزارة الخارجية اليونانية / وكلّهم معروفون بمواقفهم المعتدلة من القضية القبرصية ـ قدّموا استقالتهم علنيّاً . وفي 3 تموز قدم الرئيس ماكاريوس رسالة مفتوحة وعلنية إلى المجلس العسكري اليوناني تضمنت الإتهام المباشر بالتدخل الخارجي والسيطرة :
“من أجل أن أكون واضحاً بصورة مطلقة، أقول إن قادة النظام العسكري في اليونان يساندون ويوجّهون نشاطات الـ EOKA المنظمة الإرهابية.. وقد شعرت لمرات عديدة أن هناك يداً خفيّة تمتد من أثينا باحثة عن طريقة لتصفية وجودي الإنساني”
ودعا إلى انسحاب الضباط اليونانيين المسؤولين من قبرص.
# كيسنجر كذّاب .. كذّاب .. كذّاب :
——————————–
بعد عدة أيام من الإنقلاب الذي وقع في 15 تموز 1974 ، وعندما كان يتحدث في مؤتمر صحفي عن فشله الواضح في توقّع الإنقلاب أو منعه، أجاب كيسنجر بأن “المعلومات غير مطروحة في الشوارع” . في الواقع كانت كذلك. وكانت مهيّئة له على مدار الساعة، في كلا جانبي عمله الدبلوماسي والاستخباري. ولهذا فإن قراره بعدم القيام باي شيء كان قراراً مباشراً بالقيام بشيء ما ، أو السماح لشيء ما بأن يحصل .
بالنسبة إلى باقي العالم كان هناك شيئين واضحين حول الإنقلاب : الأول هو أنه قد تم التخطيط له في أثينا ونُفّذ بقوات يونانية نظامية ولهذا فهو تدخل مباشرة من قبل دولة في شؤون دولة أخرى، والثاني هو أنه خرق لكل المعاهدات المتعلقة بالوضع في الجزيرة. وتتجلى لاشرعية الانقلاب من خلال إدراك المجلس العسكري نفسه الذي اختار رجل عصابات شوفيني مؤذ هو “نيكوس سامبسون” ليكون “رئيسا” مفوّضاً أو بالوكالة . وسامبسون كان يجب أن يكون معروفاً من رئيس لجنة الأربعين كعميل يستلم معونات مالية من وكالة المخابرات المركزية. كما أنه يستلم أموالا لإصدار صحيفته المتطرفة في نيقوسيا ماكلي ( Combat أي معركة) من مفوّض لوكالة المخابرات المركزية مناصر للمجلس العسكري وهو السيّد “سافاس كونستانتوبولس”، ناشر المجلة المناصرة للمجلس “العالم الحر – Free World”. واي حكومة أوروبية لم تعامل سامبسون إلّا على أساس أنّه منبوذ منحط خلال التسعة أيام القصيرة التي تسلّم فيه السلطة وشنّ فيها حملة للقتل ضد المعارضين اليونانيين الديمقراطيين. لكن كيسنجر أمر البعثة الدبلوماسية في أثينا باستقبال “وزير خارجية” سامبسون كـ “وزير خارجية” ، وبذلك جعل الولايات المتحدة الحكومة الأولى والوحيدة التي تقرّ بالأمر الواقع . (وعند هذه اللحظة ينبغي التأكيد على أنه لم يكن يُعرف شيء عن مكان ومصير الرئيس ماكاريوس فقد قُصف قصره بعنف وأعلن راديو المجلس العسكري عن موته). وفي الحقيقة استطاع الرئيس الهرب وتمكن بعد أيام من إيصال صوته إلى العديد من الجماهير المتوترة المستثارة.
في واشنطن أنكر الناطق الصحفي باسم كيسنجر وبصورة مباشرة أن يكون الانقلاب الذي وصفه ماكاريوس لاحقاً بأنه “غزو” يمثل تدخلاً أجنبيّاً . “كلّا” أجاب بصورة مباشرة على سؤال حول هذه النقطة : “من وجهة نطرنا لا يوجد غزو أجنبي”.
وهذا الموقف السريالي لا يتناقض مع موقف كيسنجر حين اجتمع بالسفير القبرصي وفشل في عرض وجهة نظره حول موت رئيسه ؛ “السبب التقريبي” . وعندما سُئل هل ما زال يعترف بحكومة ماكاريوس المنتخبة كحكومة شرعية ، رفض كيسنجر الإجابة بصورة غريبة . وعندما سُئل هل أن الولايات المتحدة متجهة نحو الاعتراف بنظام سامبسون أنكر ناطقه الصحفي ذلك. وعندما قام السناتور فولبرايت بتسهيل زيارة الرئيس الهارب ماكاريوس إلى واشنطن ، سُئلت وزارة الخارجية هل ستستقبله كمواطن أو كمطران أو كرئيس لقبرص ” فجاء الجواب سيستقبل كيسنجر المطران ماكاريوس يوم الأحد”. أي حكومة أخرى لا يمكن إلا أن تعترف بماكاريوس كرئيس شرعي لجمهورية قبرص. ولكن كيسنجر وكسابقة دبلوماسية غريبة كان مصرّاً على التحالف والتعاطف مع الحكومة العسكرية التي تزداد عزلتها لحظة بعد أخرى.
ومن المهم التأكيد على أن ماكاريوس كان قد دُعي إلى زيارة الولايات المتحدة كرئيس شرعي لقبرص من قبل السناتور ويليام فولبرايت كعضو في لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس ومن قبل ثوماس مورغان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البيت الأبيض . وفكرة هذه الزيارة تعود إلى الصحافي الذي ذكرناه سابقاً “إلياس ديمتراكوبولوس” صديق فولبرايت والذي حذّر من الانقلاب طويلاً . وهو الذي نقل الدعوة إلى ماكاريوس الذي كان في ذلك الوقت في لندن يجتمع مع وزير الخارجية البريطاني. وهذه المبادرة ترتبت عليها سلسلة من المبادرات المضادة للمجلس العسكري اليوناني بسبب هذا الصحفي المقاوم والوحيد ، ولكنها اثارت كيسنجر وجعلت هذا الرجل يصبح موضع حقده ونقمته. وفي اللحظة الأخيرة جدا ، أُجبر كيسنجر على الإعلان بأنه سوف يساقبل ماكاريوس بصفته الرئاسية وليس بصفته الدينية الكنَسِيّة.
ولأن كيسنجر نفسه كان قد أخبرنا بأنه يعتقد بأن موجة جديدة من العنف في قبرص سوف تستدعي تدخلا تركيا، فنحن نستطيع بدورنا أن نفترض أنه لن يكون مندهشا عندما يحصل مثل هذا التدخل . وعندما يبقى المجلس العسكري الديكتاتوري في السلطة في اليونان فإن دوره سيكون حماية هذا المجلس من أي إدانة أو عقوبات . كان كيسنجر يعارض عودة ماكاريوس إلى الجزيرة ، ويعارض استخدام البريطانيين والأتراك للقوة لإسقاط الانقلاب اليوناني (بريطانيا كانت قوّة حماية بقوات ومعاهدة مع قبرص). وهذا التعطيل لكل الإجراءات المهمة يعترف به كيسنجر نفسه في مذكراته. هذا التعطيل ترافق لاحقاً مع تعطيل ومعارضة أي إجراء يهدف إلى منع الغزو التركي. وقد اشار سير “توم مكنالي” رئيس المستشارين السياسيين لوزير الخارجية البريطاني ثم رئيس وزراء بريطانيا جيمس كالاهان بأن كيسنجر قد وضع “الفيتو” على الأقل مرة واحدة على التدخل البريطاني العسكري الذي سيمنع الإنزال التركي.
# المجرم المسؤول الأول عن تقسيم قبرص :
——————————————
وقد يبدو هذا الأمر متناقضاً ، ولكن التعاطف الطويل الأمد لوزارة الخارجية ووزارة الدفاع الاميركية مع تقسيم قبرص لا يجعله بهذا التناقض. فالتكوين الجغرافي للجزيرة (82% لليونان و18% للأتراك) يجعل من المنطقي أن التقسيم يُفرض من قبل اليونان. ولكن هناك سبيلا ثانياً أفضل هو أن يُفرض التقسيم من قبل الأتراك. وبمجرد قيام تركيا بغزوين وحشيين واحتلال 40% من الأراضي القبرصية ، صار كيسنجر يبذل أقصى الجهود لحماية تركيا من اي عقوبات يفرضها الكونغرس لخرقها القانون الدولي ولاستخدامها السلاح الأمريكي بصورة لا شرعية . اقد اصبح مناصرا للأتراك إلى الحد الذي يبدو فيه وكأنه لم يسمع بالجنرالات اليونانيين (لكن قد يشكل إعلانه كرهه لعودة القادة الديمقراطيين اليونانيين تذكيرا بذلك) .
لا يمكن أن نعزو كل عناصر السياسة التقسيمية للجزيرة إلى كيسنجر شخصياً ؛ لقد ورث هذا الرجل محبة المجلس العسكري اليوناني والكره الرسمي لماكاريوس ، وعبر اتصالاته السرّية حطّم هذه الجزيرة ؛ وألغى الديمقرلطية فيها ، ةتسبّب في مقتل آلاف المدنيين ، والنزوح العنيف لأكثر من 200,000 لاجىء ، وخلق وضع ممزق وغير مستقر في قبرص كانت له تهديدات خطيرة للسلام لأكثرمن ربع قرن.
في 10 تموز 1976 ، تبنّت المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان تقريرا وضعه أكثر من ثمانية عشر محلّفاً مميّزاً استمر عملهم لسنوات في التحقيق في آثار الغزو التركي. وُجد أن الجيش التركي قد مارس القتل الطوعي للمدنيين ، وإعدام السجناء، والتعذيب والاعتقال وسوء المعاملة، والعقاب الجماعي العشوائي والاعتقال الجمعي للمدنيين، وفي عمليات الاغتصاب المنظمة التي لا يُعاقب عليها، والتهريب . عدد كبير من الأشخاص “المُختفين” أسرى حرب ومدنيين “اختفوا” من تلك المرحلة الزمنية. ويشمل هذا العدد العشرات من حاملي جوازات السفر الأمريكية ، وهو دليل على ستراتيجية لا تمييزية عندما تُنفّذ من قبل جيش يعتمد على السلاح والمعونات الأمريكية.
# الكذّاب يُطلق كذبة ضخمة جديدة :
———————————-
قد يكون امتناع كيسنجر عن تقبّل المسؤولية عن هذه الحقائق الفاجعة، وكذلك مسؤوليته عن تحمّل انقلاب سامبسون الأصلي، هو الذي قاده إلى إطلاق سلسلة من الأكاذيب الجديدة إلى أصدقائه الجدد : الصينيون . في 2 تشرين الأول 1974 ، عقد كيسنجر اجتماعا عالي المستوى في نيويورك مع “جياو جوانهاو” نائب وزير خارجية جمهورية الصين الشعبية . كان هذا الاجتماع الصيني – الأمريكي الاول منذ زيارة دنغ زياوبنغ ، وكان الموضوع الأول هو قبرص . والمذكرة المعنونة بسرّي جدا/ حسّاس/ حصري ، تشير إلى أن كيسنجر رفض أوّلاً زعم الصين العلني بأنه هو من ساعد في تصميم خطة إزاحة ماكاريوس . “نحن لم نفعل ذلك. ولم نعارض ماكاريوس” (وهو ادعاء تكذّبه مذكراته) . قال كيسنجر : “عندما حصل الإنقلاب كنتُ في موسكو” . طبعاً الكذأب لم يكن في موسكو . وقال أيضاً : “شعبي لم يأخذ هذه التقارير عن الإنقلاب الوشيك على محمل الجد”، بالرغم من أن العكس حصل كما رأينا . وقال أيضاً أن ماكاريوس لم يأخذ هذه التقارير جدّياً ، في حين أن ماكاريوس أدان علنياً نوايا المجلس العسكري اليوناني في التخطيط للقيام بانقلاب في قبرص، ثم فجّر كيسنجر كذبتهه الغريبة العجيبة : “لقد عرفنا بأن السوفيت قد أخبروا الأتراك للقيام بالغزو” .. وهذا سيجعل الغزو التركي أول غزو يخطط له السوفيت وينفذه جيش من حلف الناتو ويموّل بالمساعدات الأمريكية !!.
الكذّاب الجيّد يجب أن تكون لديه ذاكرة جيّدة. وكيسنجر كذّاب مُدهش ذو ذاكرة عجيبة ، ولهذا يجب أن يؤخذ بعض هذه الأكاذيب الهستيرية ضمن إطارها : الحاجة إلى استثارة الصين المضادة للسوفيت. لكن الحصيلة الكلّية للتزييف مؤثرة إلى حدّ أنها تتطلب شيئا آخر للتفسير كأن يكون الإنكار أو الوهم المرضي ، وحتى الإعتراف بوسائل أخرى.
# ملحق :هنري كيسنجر : مجرم حرب أم قاتل من الطراز القديم ؟
قمع الصحافة من أجل مجرم حرب – تأديب الصحفي بيتر أرنت من اجل كيسنجر:
——————————————————————
# خلفية القضيّة :
في سبتمبر 1970، استخدمت القوات الأمريكية في لاوس – العاملة بمقتضى عملية تايلوند – غاز السارين المدمّر للأعصاب الذي يتم رشّه كرذاذ استعداداً لدخولها في هجوم على معسكر قاعدة في قرية لاوسية ، بغرض قتل عدد من العسكريين الأمريكيين الهاربين من الجندية وردت أنباء عن وجودهم فيه، ونجحت العملية في قتل أكثر من 100 شخص، عسكريين ومدنيين ، منهم أمريكيان على الأقل، وليس من المعروف كم منهم مات قبل الهجوم من الغاز وكم منهم مات من الهجوم نفسه.
إن السارين الذي تم ابتكاره في ألمانيا في الثلاثينات – يمكنه أن يقتل بعد دقائق من استنشاق بخاره، وتفعل الشيء نفسه نقطة صغيرة منه تسقط على الجلد – بل يمكنه أن يتسرب خلال الملابس العادية ، وهو يفعل فعله بأن يثبط إنزيماً مطلوباً للتحكم في حركة العضلات، فبدون هذا الإنزيم؛ لا تتوفر للجسم أيّة وسيلة لوقف تنشيط العضلات ، ويمكن أن يحدث أي رعب جسدي.
وعندما كان الغزاة الأمريكيون يقومون بانطلاقتهم، واجهوا قوة أكثر تفوقا من جنود فيتنام الشمالية وجنود الباثيت لاو الشيوعيين ، وطلب الأمريكيون المساعة جوّاً ، وبعد فترة قصيرة جدا، كانت الطائرات الأمريكية فوق الرؤوس تُلقي علباً صغيرة من السارين على العدو، ومع انفجار العلب الغيرة كان جنود العدو الذين سقطوا أرضاً ، يتقيئون ويتنجون ، وانتشر بعض الغاز ووصل للأمريكيين، فلم يكونوا جميعاً محميين بصورة كافية، وبدأ البعض منهم يتقيأ بصورة عنيفة، واليوم يعاني واحد منهم من شلل زاحف، شخصه طبيبه بأنه إصابة ناجمة عن غاز الأعصاب.
وردت هذه القصة في 7 يونيو 1998 ، في البرنامج التلفزيوني “نيوز ستاند : سي أن أن آند تايم” ، وظهرت فيها صورة الأدميرال توماس مور الذي كان رئيسا للأركان في 1970، وكذلك فرد عسكري اقل رتبة ، وهما يقتربان من الكاميرا ويبتعدان عنها، واللذين أيّدا الحوادث السابق وصفها.
وعندئذ انفتحت ابواب جهنم على مصراعيها ، غذ كانت هذه القصة تتعارض بصورة كبيرة – وجدّ مؤلمة – مع الكتب الدراسية الأمريكية .. وماما أمريكا . صاح كيسنجر والجميع : القصة خاطئة وسخيفة وتشويه للسمعة .. وتراجعت السي أن أن ، وتمّ فصل منتجَيْ العرض .
ومثل المنشقين الذين أصبحوا أشخاصا لم يوجدوا في ظل ستالين ، فإن عملية “تايلوند” حدث لم يقع رسمياً .
ورغم هذا ، فإن منتجي البرنامج ، أبريل أوليفر وجاك سميث، وضعا معاً وثيقة من 77 صفحة تؤيد الجانب الذي اتخذاه في القصة، مع شهادة فعلية من عسكريين تؤيد استخدام غاز الأعصاب .
# قمع الصحافة من أجل مجرم الحرب الذي يحصل على 30,000 دولار عن الظهور العلني :
أمرٌ لا يُصدّق أن هنري كيسنجر الرجل الذي ينافس بول بوت في “شرف” كونه الشخص المسؤول عن موت ملايين الأبرياء في جنوب شرق آسيا (وقد تفوّق على بول بوت في كون جرائمه امتدت إلى أماكن أخرى من العالم) مازال يحظى بسلطة بارزة في الولايات المتحدة !! ولكن دوره كمحفّز متحمّس على جرائم القتل الجماعي ، والقمع الشمولي وغيرها من الفظائع لا تُناقش في المجتمع الأمريكي الراقي .
وبالرغم من أن كيسنجر (يحصل على 30,000 دولار عن المحاضرة العامّة أو الظهور العام) هو ضيف متكرّر في برنامج Nightline (برنامج قناة ABC الشهير) ، حيث يُعامل كرجل دولة قدير ولطيف ، فإن صديقه “تيد كوبل” (مقدّم البرنامج المعروف) لم يذكر أبداً مسؤولية كيسنجر عن الموت المرعب لملايين البشر في آسيا وأمريكا اللاتينية ومناطق أخرى من العالم. ولم تكن لكوبل أيّ نية للقيام بذلك في المستقبل.
وفي الحقيقة ، فإن لكيسنجر تأثيراً على ما تقوم به حكومة الولايات المتحدة، وما يُنشر عمّا تقوم به هذه الحكومة. ويتجلى هذا بصورة واضحة في حدث إعلامي مهم : وهو تأثير كيسنجر على قناة CNN في سحب قصّة برنامج Tailwind التي قالت فيها بأن الجيش الأمريكي قد استخدم غاز الأعصاب في قتل المواطنين اللاوسيين خلال الحرب الفيتنامية. لقد تمّ بثّ القصة يوم 7 حزيران . ثم أعلن البنتاغون أنه مسرور لسحب القناة للقصة.
كان التبرير الظاهري لسحب القناة لقصتها وكاّنه صفقة صارخة حول تقرير كولر/أبرامز. وعلى الرغم من أن منتجي البرنامج أبريل أوليفر وجاك سمث كان لديهما دلائل وافرة لعدم سحب الاستنتاجات التي توصّلا إليها ، فإن القناة قد ارتعبت حين استاء البنتاغون وكيسنجر الذي دوره في المجازر الجماعية العشوائية في جنوب شرق ىسيا معروف جيّداً ولكنه لم يُناقش أبداً من قِبَل وسائل الإعلام العامة. البنتاغون وكيسنجر كلاهما عبّرا عن استيائهما من القصة !! قصّة المذابح الجماعية في جنوب شرق آسيا خلال فترة سيطرة كيسنجر ، واستخدام الغاز السام في عملية سوداء للولايات المتحدة في لاوس ، فقامت القناة بسحب البرنامج والقصة كلها ! (تصوّر أن وسائل الإعلام الأمريكية تسحب قصة عن مجازر اقترفها صدام حسين لأن صدام يزعم أنها لم تحصل !).
وضعت القناة – وبسرعة – استراتيجية للاسترضاء والمنافقة فاستأجرت فلويد أبرامز ليعمل مع ديفيد كوهلر – الذي بصفته مستشارا قانونيا للقناة كان قد أعطى المُنتِجَين سمث وأوليفر الضوء الأخضر على أن هذه الحلقة من برنامجهما سليمة قانونياً وصالحة للبث – لإصدار تقرير يبرّيء الإدارة العليا للقناة من أيّ خطأ . وهذا بالضبط ما فعله تقريرهم. فقد أهمل هذا التقرير كل الدلائل القوية المتماسكة المباشرة التي جمعها أوليفر وسمث خلال مسار بحثهما ، وأدانا قصة البرنامج من خلال التمسّك بستراتيجية بسيطة : أنْ تدقّق فقط في الدلائل الأضعف والثانوية والإستنتاج بروح مراوغة أن هذه الدلائل الأضعف والثانوية هي التي كان يُفتش عنها المنتجان . باختصار لقد بنى ابرامز وكوهلر رجلاً من قش ثم هدماه .
لكن لا السي أن أن ، ولا كوهلر ، فسّرا ما الذي تغيّر ، وما هي الدلائل الجديدة التي ظهرت إلى الضوء، لتجعل كوهلر ينقلب بـ 180 درجة . كيف أنه خلال اسبوعين قصيرين ضاعت الدلائل التي راكمها سمث وأوليفر في عقل كوهلر وتحوّلت من دلائل منطقية مبرّرة إلى أخرى غير كافية وغير مُثبَتة .
لقد اكّدت القناة بأن سحب القصة السريع وغير المسبوق لا علاقة له بضغوط وجهها السيد كيسنجر ، والسيّد كولن باول والأشخاص الآخرون الأقوياء في السلطة. وبهذا تركت فراغاً في مركز تبريرها لهذا الإنقلاب المُخزي المُحرج والغير ضروري. كان على القناة أن لا تترك منتجيها في مهب الريح بسبب جبن الإدارة أمام ضغوط السلطة والمرتبطين بها .
إن تقرير ابرامز/ كوهلر لم يدّعي وجود دلائل جديدة ظهرت إلى الضوء لتناقض ما كتبه سمث واوليفر والكاتب المشارك : ديفيد كوهلر، بالعكس كانت كل دلائل التقرير دقيقة وقانونية .. ولكنها الآن لا قانونية ولا دقيقة بالرغم من أنها لم تتغير . والمشكلة أن اسم الكاتب المشارك كوهلر لم يظهر له أيّ ذكر في التقرير في الكتابة والإعداد للتقرير ، وصارت المسؤولية مُلقاة على عاتق سمث وحده ! لقد سقط دور كوهلر في تقرير أبرامز/كوهلر من ثقب الذاكرة.
إن تراجع السي أن أن السريع وفصل المنتجين أوليفر وسمث هو رسالة لا تخطىء لكل من تسوّل له نفسه متابعة هذه القصة حتى ولو كان تقرير أبرامز/كوهلر قد أشار إلى أن المنتجين سمث وأوليفر قد عملا بإخلاص ومسؤولية . إنها رسالة تقول لك إن قول الحقيقة سيكلفك عملك واسمك المحترم. فعندما تقفز وسائل الإعلام الرئيسية ببهجة إلى عربة الفرقة الموسيقية وتدين السي أن أن والمنتجين سمث وأوليفر نفاقاً وتزلّفاً لكيسنجر ـ فإن لذلك انعكاسات خطيرة على حرية الصحافة واحترامها . ولسنا بحاجة إلى القول بأن فصل المُنْتِجَين قد سحب البساط من تحت أقدامهما ، لقد كانا يعملان على تكملة للقصة الأصلية عندما تخلت عنهما القناة ، لتقول للجميع أن لا أحد مسموحاً له بتكملة القصة وإخبار الناس بها .
لقد تكوّمت وسائل الإعلام على نفسها لتصبح فماً يعتذر للبنتاغون ولدولة الأمن القومي ، وليزعم الرعاديد والخانعون بأن القصّة “كاذبة” ولا سند لها!
وينبغي أن نلاحظ بأن سمث وأوليفر قد طلبا مراراً مقابلة كيسنجر حول هذه القصة لكن كيسنجر كان يرفض ، ومن المعروف أن كيسنجر يفضل ممارسة سحره خلف المشهد لا أن يُجبر على إجابة الاسئلة المتعلقة بدوره في الحادث . والمؤسف أن العديد من وسائل الإعلام العامة نظرت إلى سخط كيسنجر على أنه مؤشر على أن القصة ليست حقيقية .
كيف تم تأديب الصحفي بيتر أرنت ؟
بيتر أرنت مراسل في قصة Tailwind ، حاول أن يُبعد نفسه من هذه القصّة مع تصاعد حمّى هجمة الجناح اليميني . ومثل باقي وسائل الإعلام العامة التي قفزت إلى عربة الجوقة الموسيقية، حاول أرنت القيام بجولة على مصادر الأنباء مدّعياً بأنه كان الرأس المتحدّث للقصّة ، ولم يكن له أيّ دخل في مضمونها. لقد اعتذر عن القصة ، كما كان مطلوباً من قبل الجهات العليا في السي أن أن ، واتفق علناً مع إدارة القناة على أن القصّة كانت متهافتة وتستحق أن تُسحب !! .
بعد سنة ، أرنت ، المراسل الحربي المهم ، والمراسل الأمريكي الذي حاول أن يرصد تاثير القصف الأمريكي خلال حرب الخليج على السكان العراقيين (مهمة حاول اليمين استصغاره عليها ، وبضمنه العديد من العاملين في السي أن أن من المتعاطفين مع اليمين، والكثير منهم كان يحاربه منذ ذلك الحين)، تمّ صرفه من السي أن أن بصورة فظّة. (تغطية السي أن أن لحرب الخليج ، حُفظت من الحماسة المتطرفة التي وصمت باقي القنوات الإعلامية بسبب تقارير بيتر أرنت التي كان يرسلها من بغداد) . عدا ذلك ، خضعت السي أن أن بلا سؤال للرقابة العسكرية على التغطيات الحربية ، ناقلة المزاعم العسكرية المنتفخة والإدعاءات الكاذبة عن دقّة “القنابل الذكيّة – smart bombs” (والتي كان من النادر جدا أن تصيب أهدافها المطلوبة)، وملتزمة بخط حزب الحكومة. والعاملون في سي أن أن البنتاغون كانوا يكرهون بيتر أرنت لأنه كان ينقل الحقيقة المرّة عن المذبحة الفظيعة التي كانت تجري في العراق بسبب أخطاء القنابل الذكية لأهدافها العسكرية.
ومثل ضحية من ضحايا المحاكم الستالينية الاستعراضية في الثلاثينات، فإن اعتراف أرنت العلني بـ “ذنبه” لم يحمه من أن يتم “تطهيره”. بطبيعة الحال ، في الولايات المتحدة فإن “التطهير” يعني فقدان العمل ، أو فقدان “المصداقية” ، وفقدان الآفاق المهنيّة ، ولكنه يالتأكيد لا يعني الموت كما كان يحصل لضحايا الإرهاب الستاليني. وبالرغم من أن خطر فقدان العمل وآفاق المستقبل المهني ليست بسيطة فإن من المؤسف أن لا نجد إلّأ قلّة من الصحفيين الأمريكيين مستعدون لتحمل هذه النسبة من المخاطرة. أحدنا ليس بحاجة إلى النظر إلى الوراء إلى روسيا الستالينية كي يجد أمثلة عن بلدان يكون فيها عبور المؤسسات القائمة مساوياً لحكم بالموت، لأن هناك الكثير من الأمثلة على هذه البلدان في الوقت الحاضر (وجميعها من أصدقاء الولايات المتحدة) . ولكن – من جديد – لا يعني هذا أن الولايات المتحدة ليست واحدة من هذه البلدان. فالصحفي قد يُعزل ويُهمّش ويُفرض عليه الصمت ، لكنه لا يُقتل . الخطر الشخصي حقيقي على أي صحفي يخرج عن الطريق لكنه بصورة عامة خطر محدود.
وينبغي القول إن شجاعة ابريل نورث وجاك سمث تستحق التقدير، ولكن رغبة أرنت في تبنّي موقف إدارة السي أن أن لم يوفّر له الحماية ، وسوف يتم “تطهيره”مثلما حصل مع نورث واوليفر اللذَيْن دافعا عن موقفهما بشجاعة المتعلق بتقريرهما عن جرائم كيسنجر في برنامج Tailwind.
إعلان بيتر أرنت بأنه – حسب التعبير الأورويلي (نسبة إلى جورج أورويل صاحب رواية 1984 الشهيرة) – يحب الأخ الأكبر لم يَفِدْه أبداً ، إنه فقط عطل هسهسة الفأس . ففي النهاية لن يتم القبول بأقل من “تطهيره” بالكامل ككفّارة عن “ذنوبه” التي اقترفها، في الماضي والحاضر، ومحاولته تفادي الضربة المُحتمة مثيرة للحزن والأسى . إن محاولة أرنت لن تكون قادرة على أن تعيد إليه التعاطف الذي أضاعه والذي حصل عليه لأنه كان ببساطة ضمن قصّة Tailwind، ورغبته في قول أي شيء طّلب منه ان يقوله للحفاظ على منصبه في السي أن أن لن يُكسبه أي صديق بين هؤلاء الذين يرون عن حق أن قصّة Tailwind عن جرائم كيسنجر تستحق أن تُقال وحين تُهاجم أن يُدافع عنها . لقد أفقده موقفه هذا تعاطف الذين يشعرون بأن الشرف الصحفي ينبغي أن لا يُتخلى عنه بهذه السهولة .
مرّت سنوات على بثّ قصّة Tailwind ولم يتابعها أي أحد في وسائل الإعلام العامة . فبمساعدة السي أن أن وكيسنجر وباول ومن شابههم تمّ قتلها .
ومن المؤسف والمحزن في الوقت نفسه أن قناة السي أن أن عرضت مقابلة مع كيسنجر ونشرتها على صفحتها في الويبسايت يدعو فيها كيسنجر الطالبان إلى تسليم الإرهابي بن لادن وإلى قصف العراق إذا ثبت اربتاطه بالقاعدة، في حين أن الولايات المتحدة لا تفكر أبداً في تسليم هنري كيسنجر لعشرات المحاكم الدولية كي تنظر في جرائمه ومؤامراته وتحاسبه.
# ملاحظة عن هذه الحلقات الخاصة بالمجرم هنري كيسنجر :
———————————————————
هي حلقات مُعدّة ومترجمة ومجموعة من المصادر الآتية :
-المصدر الرئيسي هو كتاب الصحفي كريستوفر هيتشنس : محاكمة هنري كيسنجر :
Christopher Hitchens: The Trial of Henry Kissinger – Christopher Hitchens own site
-وتليه في الأهمية المصادر التالية :
Kissinger Head Of 9/11 Commission
HENRY KISSINGER IS A WAR CRIMINAL http://www.zpub.com/un/wanted-hkiss.html
Elite Watch Home – Kissinger Associates / – Kissinger McLarty Associates
THE TRIAL OF HENRY KISSINGER http://www.trialofhenrykissinger.org
The nation responded: http://www.thenation.com/capitalgames/index.mhtml?bid=3&pid=176 ”
Regarding Henry Kissinger: The Making of a War Criminal
Henry Kissinger – 9/11 Encyclopedia
Henry Kissinger: War Criminal or Old-Fashioned Murderer?
Wanted – – WAR CRIMES – Henry Kissinger
Pol Pot And Kissinger On war criminality and impunity by Edward S. Herman
Henry Kissinger: War Criminal Page
www.trialofhenrykissinger.org
http://www.cnn.com/2001/US/09/17/gen.kissinger.cnna/index.htm
Green Lights and Red Herrings – By Stephen R. Shalom
With Friends Like These – Kissinger does Indonesia – by Terry J. Allen – In These Times, April 2000
Iraqgate – United States history – Written by: The Editors of Encyclopædia Britannica
THE ADMINISTRATION’S IRAQ GATE SCANDAL – (BY WILLIAM SAFIRE) – (Extension of Remarks – May 19, 1992)
Iraqgate (disambiguation) – Wikipedia, the free encyclopedia
The Case Against Henry Kissinger : Part One – The making of a war criminal – by Christopher Hitchens – Harpers magazine, March 2001
Kissinger Associates – Wikipedia, the free encyclopedia
Kissinger Associates / Kissinger McLarty Associat:- www.bibliotecapleyades.net/sociopolitica/elite/
Kissinger Associates, Inc. – SourceWatch :
www.sourcewatch.org/index.php/Kissinger_Associates,_Inc
# ملاحظة عن هذه الحلقات :
—————————-
هذه الحلقات تحمل بعض الآراء والتحليلات الشخصية ، لكن أغلب ما فيها من معلومات تاريخية واقتصادية وسياسية مُعدّ ومُقتبس ومُلخّص عن عشرات المصادر من مواقع إنترنت ومقالات ودراسات وموسوعات وصحف وكتب خصوصاً الكتب التالية : ثلاثة عشر كتاباً للمفكّر نعوم تشومسكي هي : (الربح فوق الشعب، الغزو مستمر 501، طموحات امبريالية، الهيمنة أو البقاء، ماذا يريد العم سام؟، النظام الدولي الجديد والقديم، السيطرة على الإعلام، الدول المارقة، الدول الفاشلة، ردع الديمقراطية، أشياء لن تسمع عنها ابداً،11/9 ، القوة والإرهاب – جذورهما في عمق الثقافة الأمريكية) ، كتاب أمريكا المُستبدة لمايكل موردانت ، كتابا جان بركنس : التاريخ السري للامبراطورية الأمريكية ويوميات سفّاح اقتصادي ، أمريكا والعالم د. رأفت الشيخ، تاريخ الولايات المتحدة د. محمود النيرب، كتب : الولايات المتحدة طليعة الإنحطاط ، وحفّارو القبور ، والأصوليات المعاصرة لروجيه غارودي، نهب الفقراء جون ميدلي، حكّام العالم الجُدُد لجون بيلجر، كتب : أمريكا والإبادات الجماعية ، أمريكا والإبادات الجنسية ، أمريكا والإبادات الثقافية ، وتلمود العم سام لمنير العكش ، كتابا : التعتيم ، و الاعتراض على الحكام لآمي جودمان وديفيد جودمان ، كتابا : الإنسان والفلسفة المادية ، والفردوس الأرضي د. عبد الوهاب المسيري، كتاب: من الذي دفع للزمّار ؟ الحرب الباردة الثقافية لفرانسيس ستونور سوندرز ، وكتاب (الدولة المارقة : دليل إلى الدولة العظمى الوحيدة في العالم) تأليف ويليام بلوم .. ومقالات ودراسات كثيرة من شبكة فولتير .. وغيرها الكثير.