ليث العبدويس
قريباً يا حَبيبيتي، سأرمي حَقيبَةَ الرَصاصِ وأتلفَّعُ بِعَلَمِ المَجدِ موقِداً شَمعَةَ أمَلٍ في مِحرابِكِ، فيما أنتِ تَغسِلينَ منارَةَ المَسجِدِ الأمويّ مِنْ قَترةِ الحَربِ وَرماد المَعارِك.
قَريباً، سَتسنَحُ ليَ الفُرصَةُ للبُكاءِ، تِلكَ الرَغبةُ التي نسيتُها مِنْ فَرطِ كِتماني لَها، سأستَقيلُ مِنْ رشّاشيَ الهادِرِ لِذرفِ الأدمُع على الذينَ قَضوا عِند جِسرِ الشَهادة دونَ أنْ يُقاطِعَني سُقوطُ شَهيدٍ آخَر.
قَريباً سيَتَسِعُ الوَقتُ وينفَرِجُ الوجود لأكتُبَ رِوايَةً عَنْ قَطرةِ حِبرٍ تَجمَّدَتْ خَجلى، تَردَّدَتْ، تأوَهَتْ، ثُمَّ غادَرَتْ سَطريَ المبتورِ إلى مَلحَمةِ الخُلود.
قَريباً سأدورُ في حواريكِ القَديمة بِخُشوع الأولياء باحِثاً عَنْ عَناوينِ ذَويهِم وأهليهِم وَوُجوهِ الأصدِقاء، سَيُمطِرُني صِغارُهُم بالأسئِلة وسَتَلتَفُّ علاماتُ الاستفهامِ حَولي، وسَيَدمي فوأدي إلحاحُ شيخٍ يتوسَلُني أنْ أُصدِقَ قَولي.
سأقول… ما تَراني سأقول؟ وأنا الفتى الذي يحيا ببغدادَ ويَموتُ كُلَّ يومٍ في عِشِقِ دِمَشْق، كَلّا، إنْ سألني أولئِكَ عَنهم فَلَن تَعييني الإجابة، في الجَنّة، في الفِردوسِ، في العلياءِ، بَلْ عِندَ الصَحابة، ما الغَرابَة؟
قَريباً سَتخلَعينَ السوادَ الكَئيب، السَوادُ الذي اتَشَحتِ بِهِ مِنْ عِشرينَ شَهراً، بَلْ مِنْ عِشرينَ دَهراً وتستأنِفينَ عُرْسَكِ الأُمَويَّ المَهيب.
قَريباً جِداً، سَترتَدينَ زينَتَكِ التي جَرّدَكِ مِنْ بُهرُجِها لُصوصُ التاريخِ ذوي الوُجوهِ المُتَسِخَةِ والذُقونِ نِصفُ الحَليقَة، سَتتبختَرينَ على بِلاطِ قَصرِكِ المَنيفِ كأيّ أميرَةٍ وَئَدَ حُرّاسُها الشُجعانُ مؤامَرَةً رَقيعَةً رَعناء صَفيقَة.
أعرِفُكِ يا حبيبَتي كَمَنْ يَعرِفُ مَلامِحَ وَجهِهِ وَعُروقَ يَديهِ، أعرِفُكِ مَهما طاشَ زَمَنُ الخَطبِ واستَطالَ شاطِئيهِ ، أعرِفُكِ منْ حَفيفِ الثيابِ ووَقْعِ الخُطى ووخزِ الغياب.
أعرِفُكِ بيدَ أنّي ارتَطِمُ كُلَّ لَحظةٍ بِذلكَ الجِدارِ الذي صارَ شيئاً فَشيئاً يَفصِلُ ما بينَ مَنفايَ القَسريّ وَوَطَني المُبَدَّد، هَل رأيتَ أحزاناً تتناسَخُ، تتَبَرعَمُ، تتجَسّدُ، تتَجَدّدْ؟ فَليسَ ثَمَّةَ أبشَعَ مِنْ شُعورِ إنسانٍ أعياهُ الارتياب وأضناهُ التَوحُّد.
قَريباً وَقريباً ، سَتنحَدِرُ مِنْ تِلكَ الجِبالُ التي تؤطّرُ جمالَكِ الأسيرُ سيولٌ عارِمة، لِتقتَلِعَ في طَريقِها كُلَّ ما رانَ على حُقولِ قَمحِكِ السَمراءَ مِنْ أدغالٍ وأشواكٍ قَميئَة.
يا صاحِبةَ الوَجهِ الذي يَرفُضُ الرَحيلَ والاستبدال، يا مَن تَسكُنينَ تَحتَ الحَقيقَةِ وَفوق الخيال وعلى أبسِطةِ المُحال.
وُجوهُنا هذا المَساءُ وَكُلَّ مَساء، تتوَجَّهُ صوبَ رَبّ السَماء، أنْ يَلطُفَ بِمركَبِكِ الفينيقيّ وَيُبارِكَ صَقرَ قُريشَ الأُمَويَّ، لأننا دونَ سيفِهِ الهاشِميّ المُطَعّم وَوَجهِهِ الدِمَشقيّ المُلَثَّم سَنعودُ أعراباً وأقناناً وَعبيداً وَرقيقاً وَجِرذاناً وَسَحاليٍ وَقَراداً في دُبُرِ الكونِ وأقطاعاً وشِراعاً مُحَطّم.
على ذاكَ، او قَريباً مِنهُ ماتَ عَليٌّ ، وعلى ذاكَ بَلْ عَليهِ تَلاشَتْ فُتوّاتُ ابنُ مُلجِم وخابَ خِنجَرُهُ الكِسرَويّ المُسَمّم.