الدكتور زاحم محمد الشهيلي
يُعرف “الفشل” بأنه فقدان “الإنسان” للقدرة والأهلية في تحقيق النجاح على المستوى الشخصي، وفي المجال الاجتماعي، والثقافي، والفكري، والعلمي، والإداري، والسياسي، والاقتصادي ضمن منظومة بناء الدولة الحضاري والإنساني في المحيط العائلي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والمحيط الإقليمي والدولي. والفشل نقيض للنجاح تماما، وصفة مذمومة ومرفوضة، ولا يتحدد في سلبية معينة غير مقصودة يمكن تجاوزها من خلال العمل الدؤوب والمثابرة من قبل “الفرد” أو “الدولة” أو “النظام”، حيث يكون لكل واحد من هذه المكونات المكملة لبعضها نشاطًا يكتنفه الفشل أو النجاح، الذي يكون قاعدة الانطلاق في معترك الحياة، والتي تبدأ بالفرد وتنتهي بالنظام مرورا بالدولة (الشعب)، فيبرز – من خلال هذه المعادلة التكاملية- “الإنسان الفاشل” و”الدولة الفاشلة” و”النظام الفاشل”، وعكس ذلك يكون النجاح.
لذلك يوصف “الإنسان الفاشل” بأنه ذلك الفرد الفاقد للإرادة والقدرة والأهلية على تحقيق النجاح، وأضحى ينتابه شعور دائم بخيبة الأمل والضعف والكسل والتراخي لسبب أو لآخر، مما جعله يبتعد كثيرا عن السعادة والإصلاح الذاتي، وأخذ يكتنفه التردد والخوف من المجهول، ليكون منطويًا على نفسه لا يبحث عن مكامن الإبداع المعطلة في ذاته لاستثمارها في تحويل الفشل إلى نجاح في مجالات أخرى غير التي لم يوفق فيها، والذي يمكنه من الارتقاء بقيمته الاجتماعية والفكرية والثقافية والعلمية والاقتصادية إلى مستوى الطموح الذاتي، لكنه اقر بالاستسلام للفشل لقناعته بعدم القدرة على تحقيق ذاته. ولكن بإمكان الإنسان الفاشل أن يقر مبدئيا بعدم قدرته على تحقيق الهدف المنشود ويتعلم من دروس الفشل ويحولها إلى أدوات للنجاح الباهر بعد بذل الجهد المطلوب واللجوء إلى المشورة، فالاستشارة لا تقلل من قيمة الإنسان وإنما ترفعه. وهنا يبرز الدور الريادي لـ “النظام الوطني” في التنشئة التربوية والاجتماعية الصحيحة للإنسان منذ الصغر في كيفية استثمار طاقاته بشكل إيجابي وتنمية روح التفاؤل والطموح لديه في الإصرار على النجاح في معترك الحياة.
ولا يَكمن فشل الإنسان فقط في عدم القدرة على الاجتهاد والنجاح في الدراسة أو مشاريع العمل، والتخبط في اختيار من يمثله في النظام ونمط الحياة التي يسعى إليها، وبعدم التوفيق في العلاقات الأسرية والاجتماعية واختيار شريك حياته أو صعوبة الحصول على وظيفة مثلاً، وإنما أيضا في عدم احترام الآخر وممارسة الظلم والغش والفساد الإداري والأخلاقي والكراهية، وعدم الالتزام بالقانون، وفقدان المصداقية والثقة بالنفس، وعدم الإخلاص والإبداع في العمل، والسعي في تحقيق المكاسب الشخصية الرخيصة من مال وجاه على حساب حقوق الآخرين، حيث لا يكون في ذلك قيمة اعتبارية للنجاح ويعد جزءا من الفشل ومكملاً له.
إن قمة الفشل في حياة الإنسان حين يكون منقادا بإرادته من قبل شخص فاشل في الحياة، حيث يصادر فكره وعقله ووجدانه وأخلاقه وإنسانيته ويحوله من إنسان منتج قدسه الله في خلقه إلى حيوان كاسر متعطش لسفك الدماء وعمل الموبقات، وأرضا خصبة للانحراف الأخلاقي والفكري، فاقدا للإرادة والولاء الوطني، ورخيص النفس والروح والذات. وعليه فان الزيادة الطردية في نسبة الفاشلين بالمجتمع ستنتج “شعبا فاشلا” و”دولة فاشلة” و”نظاما فاشلا”، كما نلاحظ في بعض الدول في الشرق الأوسط وأفريقيا واسيا، التي استسلمت للفشل رغم مكنونها الحضاري والفكري التاريخي ومواردها الاقتصادية والبشرية الهائلة.
حيث تعد “الدولة الفاشلة” الفاقدة للأهلية القانونية والمعنوية، في فكر الباحثين، بأنها نتاج لـ “شعب فاشل” لم يوفق أو يحالفه الحظ في النجاح، شعب لم يستطع على مدى تاريخه الطويل أن يحكم نفسه بنفسه من خلال الاتفاق على وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، لأنه في حقيقة الأمر مصادر الإرادة ولا يمتلك قرارا لذاته، وغير متفق مع نفسه حول ما يريد وما يجول بخاطره، حيث يغلب على تفكيره حب “الذات” و”الأنا”، وتعود على حياة الفوضى وعدم الالتزام بالقانون والنظام العام، ويفتقر إلى أبجديات الفكر السياسي والاقتصادي والثقافي الناضج والعقيدة الوطنية والدينية الراسخة، وتغلب عليه العصبية القبلية، والولاء الوطني بالنسبة له على قدر ما يستفيد من مال وجاه، والهوية الوطنية غائبة ومصادرة في ذاته ومغيبة في وجدانه.
وبناء على هذا التوصيف واستنادا عليه، فان “الدولة الفاشلة” الفاقدة للبنى التحتية والعمل المؤسساتي السياسي والاقتصادي والزراعي والصناعي والتجاري والإداري والنظم الاجتماعية والتعليمية الحقيقية، والتي مازالت تتقاذفها الأقدار والانقسامات العرقية والقومية والطائفية، وتعصف بها الأزمات السياسية والاقتصادية والتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، لا تستطيع أن تنتج نظاما ناجحا بكل معايير الفكر والقيادة والإخلاص والنزاهة والتخطيط والخبرة في إدارة مواردها الاقتصادية والبشرية، لان هذا النظام أو ذاك في المحصلة النهائية هو نتاج لشعب أعياه الفشل والحرمان، وشلت إرادته الحروب والأزمات والخلافات العشائرية والفكرية على مر السنين، وتملك ذاته الخوف والحقد الطائفي والعرقي ونزعة الانتقام من الآخر التي أعمت بصيرته، وأضحى تتقاذفه الأمواج لا يميز بين الضحية والجلاد والعدو والصديق، ولا يستطيع في نهاية المطاف أن يختار بهدوء النظام الذي يمثله في القيادة الصحيحة والناجحة في إدارة الدولة بجميع مفاصلها.
ولذلك يعد “النظام الفاشل” الفاقد للأهلية القانونية والمعنوية والعاجز من أن يقدم للإنسانية ما هو إنساني وأخلاقي، نتاجا لذلك “الإنسان الفاشل” و”المجتمع الفاشل” غير القادر على استغلال النظم الديمقراطية في الاختيار الصحيح لمن يمثله في إدارة أموره العامة، وكذلك لتلك “الدولة الفاشلة” التي لا تستطيع أن تقدم من الكوادر والكفاءات والمفكرين القادرين على تغليب “المصلحة العامة” على “الذات” و”الأنا” للارتقاء قدر المستطاع بالعمل المؤسساتي للدولة إلى مصاف اقل الدول تطورا في العالم من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وعليه بات لزاما على “الأنظمة الوطنية” في مثل هكذا دول فاشلة في التوصيف أن تهتم أولا بإعادة بناء الإنسان باعتباره اللبنة الأساسية المكونة للأسرة التي تعد الخلية الصغيرة المكونة لمجتمع الدولة الكبير، وتحويله- من خلال برامج تربوية توعوية- من إنسان فاشل أعيته الظروف الصعبة والأزمات القاسية إلى إنسان ناجح وطموح وتواق للتطور، فإذا صلح الفرد والعائلة صلح المجتمع ككل، ومن ثم صلحت الدولة وتحولت من دولة فاشلة ومترهلة إلى دولة منتجة لنظام تقف على قمة هرمه الكفاءات والكوادر التي تحمل في ثناياها الروح الوطنية والفكر النير والصحيح في التخطيط والتنفيذ بمنعزل عن التأثيرات الداخلية والخارجية التي عصفت يوما ما بمقدرات الدولة الاقتصادية والبشرية والفكرية، ويسود القانون، بعد أن يحل الشخص المناسب في المكان المناسب حسب المؤهلات التي تجعله طموحًا ومبدعا وناجحا وسعيدا في عمله ليكون مثالا رائعا لـ الإنسان الناجح” و”المجتمع الناجح” و”الدولة الناجحة” بكل المعايير، والتي سيخرج من رحمها “النظام الناجح” الذي يحظى باحترام وتقدير الأعداء قبل الأصدقاء.