كورونا….هل ستسرع من عملية الإنتقال من النيوليبرالية؟
بقلم صاموئيل كاهر
المحلل السياسي لجريدة المورنينغ ستار البريطانية
ترجمة عادل حبه
كتب جو جيل، الصحفي والمحلل في جريدة Morning Star البريطانية، ونائب رئيس تحرير The Middle East Eye، مقالا ً تحليلياً عن الانتقال من النيوليبرالية، في ورقة تعكس وجهات نظر الحزب الشيوعي البريطاني. طياً ما جاء في هذه الورقة:
يعتقد جو جيل أنه من الصعب تحديد المراحل التاريخية، ولكن يبدو أن اللحظة الراهنة التي نمر بها هي واحدة من الفترات الانتقالية، بالرغم من أن الوجهة لم تتضح بعد.
هل من الممكن أن ندرك في الوقت الحاضر ما سيعلنه المؤرخون لاحقاً عن لحظة انتقال من فترة تاريخية، مُحددة وفقاً لسمات سائدة في السياسة والاقتصاد والمجتمع ؟ وهل نحن الآن نمر بمثل هذه اللحظة ؟
إن تعاقب العصور التاريخية هو أمر مثير للجدل وغير دقيق، وقد عبر المؤرخون التقليديون عن شكوكهم تجاهه. ومع ذلك، يحاول الاقتصاديون والمؤرخون تحديد الفترات المتميزة من التاريخ. فقد سعى الاقتصاديون وبعض المؤرخين إلى تحديد فترات مختلفة من التاريخ من خلال الإستدلال بالسمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ومن بين هؤلاء المؤرخ إريك هوبسباوم في كتابه “القرن التاسع عشر الطويل (1789-1914)” وكتابه الأخر “القرن العشرين القصير (1914-1989)”، إضافة إلى ما طرحه الخبير الاقتصادي جوزيف شومبيتر حول نظرية “التدمير الخلاق” في التغيير التكنولوجي.
وكان مؤسس نظرية “الموجات الطويلة”، الاقتصادي السوفيتي نيكولاي كوندراتييف (من مواليد آذار عام 1892 والمتوفى في 17 أيلول عام 1938)، اقدم من استخدم التعاقب لشرح المنحنيات الطويلة للتطور الاقتصادي. واستناداً إلى هذه الطريقة، جرى تمييز الفترة الانتقالية من “انتعاش الإختراعات” ثم ما يتبعها من فترة ركود وأزمات. ويشير كوندراتييف إلى أن “هذه الموجات دامت ما بين 40 و 60 عاما”.
وعلّق هوبسباوم على نظرية كوندراتييف قائلاً: “على الرغم من أن استخدام هذه الطريقة ليس شائعاً في الاقتصاد، إلا أنه من الممكن التوصل إلى تنبوآت جيدة على قاعدة كوندراتييف، مما أقتنع بها العديد من المؤرخين وحتى بعض الاقتصاديين. فهناك ثمة شيء فيها، حتى لو لم نتمكن من تحديدها”.
يمكن أن يستطيع هذا النموذج أن يكون له مزية في فهم الطريقة التي يتجلى التاريخ به، ليس بخط مستقيم، بل بمراحل تتميز بالمنعطفات والإنقطاع.
على هذا الأساس ، أزعم أنه بإمكاننا النظر إلى عام 2020 كنقطة نهاية محتملة لعصر النيوليبرالية أو العولمة الذي بدأ منذ عام 1975 واستمر حتى عام 2008.
لقد شهد عصر النيوليبرالية انهيار الشيوعية في الشرق، ونهاية الإدارة الاقتصادية الكينزية في الغرب، وإتساع التمويل، فضلاً عن توسع سلاسل الإنتاج في جميع أنحاء العالم.
وشهدت النيوليبرالية أيضاً اتساع الديون والإقتراض، وبنوك الظل (المؤسسات المالية غير المرخصة التي تعمل خارج المعايير المصرفية التقليدية ولكنها تخضع للقوانين المالية)، وزوال الرقابة الوطنية على حركة الرأسمال.
وعلى صعيد الجبهة التكنولوجية والرقمنة واستخدام الحاسوب، فقد أدت كل هذه إلى تثوير الاقتصاد، مما سبب إنهيار بعض القطاعات الإقتصادية وولادة قطاعات أخرى من فيديو الألعاب إلى تجارة الانترنت.
لقد بدأ النموذج الاقتصادي للنيوليبرالية بالإنهيار منذ عام 2008، مصحوباً بتصاعد موجة القومية السياسية والشعبوية التي أدت إلى تقويض الدعم لإنفتاح الاقتصاديات على التمويل العالمي، مصحوبة بالزيادة في إجراءات الحماية والقيود على التجارة الخارجية، كما هو الحال في طلب بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوربي، وفشل مفاوضات المشاركة التكنولوجية (The Technology Partnership) وحروب دونالد ترامب التجارية.
وفي الحقيقة، اعتبر المناوؤون للرأسمالية والإقتصاديون اللاأرثدوكسيون انه قد برزت ملامح تشير إلى أن العصر النيوليبرالي يتجه بسرعة صوب نهايته بعد الإنهيار المالي الذي حدث في عام 2008. فقد تعرض الإقتصاد إلى موت بطيء، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الدول الكبرى استجابت مرة أخرى لتشغيل صنابير الائتمان بطريقة غير مسبوقة لدعم الأسواق – تدفق الأموال لصالح الأثرياء.
من المثير للاهتمام، أنه في عام 2020، ولأول مرة منذ بدء عصر الليبرالية الجديدة بإنتخاب مارجريت تاتشر ثم رونالد ريغان، تم توجيه مبالغ ضخمة من أموال الدولة لمواجهة الانهيار الناجم عن الوباء، واستهدفت شجرة الأموال السحرية كلا من الشركات والعمال على حدٍ سواء، التي أنكرت تيريزا ماي والمحافظون وجودها لعقود. فعلى عكس التيسير الكمي الذي صب لصالح الأسواق المالية، فقد كان هذا بمثابة رفاهية مباشرة للشركات.
ولأول مرة، قررت الحكومات من جميع الأطياف السياسية في الغرب استخدام “أموال الهليكوبتر*” لتعويض فقدان الأجور، ووضع الأموال مباشرة في جيوب أرباب العمل والعمال دون إية شروط.
وهذه قطيعة رئيسية مع النيوليبرالية التقليدية، التي فضلت دائماً التقشف والخصخصة وتقليص نفقات الرعاية الاجتماعية في مواجهة الأزمات الكبرى – كما رأينا ذلك في أعوام 1979-1981 و1990-92 و 2008.
بالطبع ، كانت النيوليبرالية تشعر بالسعادة تماماً برفاهية الرأسماليين، طالما أنها جاءت على شكل ائتمان رخيص وضمانات قروض ومبيعات أصول الدولة بأسعار منخفضة، والاستعانة بمصادر خارجية، وكلها ترتدي لبوس الكفاءة والتسويق.
من السابق لأوانه القول إننا نمر في نهاية عصر الليبرالية الجديدة، مع إمكانية عودة التقشف والخصخصة، حتى إذا كان ذلك بأسلوب رأسمالي أكثر “ودي” مقارنة بما كان عليه في الماضي. فمع فقدان الآلاف لوظائفهم في جميع أنحاء العالم، يمكن أن تندلع حرب طبقية متجددة ضد العمال والفقراء وضدنا.
ومع ذلك ، على الرغم من هذه المحاذير ، فهناك مستجدات على قدم وساق تشير إلى أن التحول جار. ربما لم يحدث من قبل إلا في زمن الحرب بعد أن تخلت النخب الرأسمالية عن الكثير من مبادئ اقتصاديات السوق بسهولة.
وصرح المستشار ريشي سوناك بفخر أنه وضع الأيديولوجية جانباً لحماية سبل عيش الناس من خلال دفع أجور الملايين من العمال (بقي ظِل زعيم حزب العمال المهزوم جيريمي كوربين يلوح في الأفق في هذا التمرين الرائع لسرقة الملابس).
إن مثل هذا التهويل للأرثوذكسية – حتى لو كان مؤقتاً – ينبئ بنوع من إعادة المعايرة الأساسية لقواعد اللعبة، والإدراك المتزايد بأن القواعد هي في الواقع مجرد اختيارات من صنع النخب.
إذا كان من الممكن وضع المتشردين الذين لا مأوى لهم في الفنادق أثناء الجائحة، على سبيل المثال ، فلماذا لا يتم القضاء على التشرد بشكل دائم؟
شهد العقد الماضي أيضاً عودة انبعاث القوى السياسية اليسارية في أوروبا والولايات المتحدة، في أعقاب عودة ظهور قوى مماثلة في أمريكا اللاتينية، لكن هذه الحركات عانت من انتكاسات، وفشلت في الفوز بالسلطة أو التمسك بها.
ومع ذلك، يبدو أن التيارات الأيديولوجية التي يمثلونها، وهي تسعى بشكل أساس إلى تشويه سمعة اليقين النيوليبرالي، قد حققت نوعاً من الهيمنة الخلفية – الميول الاشتراكية بحكم الواقع (حتى لو كانت في الغالب لصالح الطبقة الغنية والمتوسطة) التي لا تجرؤ على التحدث باسمها.
كتب الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي في عام 1930 أن الأزمة في ذلك الوقت كانت بالتحديد تتمثل في حقيقة أن “القديم يحتضر والجديد لا يمكن أن يولد. وفي فترة الاستراحة هذه، تظهر مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المرضية “.
إنها ملاحظة يمكننا أن نطبقها على الوضع الآن، مع تعمق أمراضنا الحالية بما في ذلك عدم المساواة الهائل والاستبداد المتزايد وردود الفعل القومية والتهجير الجماعي للناس بسبب الحرب وتغير المناخ والانهيار البيئي.
هناك أيضاً عدد كبير من الأفكار في الخارج من أجل إرساء قواعد اقتصاد أخضر جديد قائم على أشكال عمل أكثر توجهاً صوب الرعاية الاجتماعية والدخل الشامل ووضع نهاية للتنمية الرأسمالية التقليدية.
لقد دفعنا فيروس كورونا إلى مستقبل محتمل للعمل عن بعد بالنسبة للملايين، ونهاية الأعمال المكتبية، وهو جيد للبعض (لوظائف ذوي الياقات البيضاء لمن لديهم منازل جميلة)، وليس جيداً بالنسبة للآخرين (الشباب والمستأجرين والموظفين المؤقتين) الذين يسكنون في مساكن بائسة.
يمكن بالفعل الآن رؤية السمات المميزة للفترة الجديدة: تغلغل الاقتصاد عن طريق الذكاء الاصطناعي، والعمل عن بعد (عودة إلى العمالة المنزلية في القرن الثامن عشر، بالإضافة إلى Zoom، والانتقال من وقود المتحجرات المرعب (والذي من المتوقع أن يبلغ الذروة في عام 2030) إلى أنظمة الطاقة المتجددة.
ولكن ما لم يظهر بعد إلى الآن هو مظاهر التسوية السياسية الجديدة التي تتناسب مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية الجارية. عندما يحدث ذلك، أو عندما ينهار النظام القديم، يكون العصر الجديد قد بدأ بشكل نهائي.
ــــــــ
*”نقود الهيليكوبتر” هي أداة نظرية غير أرثودكسية للسياسة النقدية تلجأ إليها البنوك المركزية لتحريك عجلة الاقتصاد. وتتضمن تقديم مبالغ طائلة من النقود إلى الجمهور من قبل البنوك المركزية والحكومات المركزية، وكأن التقود قد هطلت عليهم من الهيليكوبتر.