كفاح محمود كريم
حينما تدلهم الأمور وتضيق الأحوال ويداهم الضيم والظلم رجال السياسة من كل المشارب، يولون وجوههم شطر بيت الحكمة والأمان كوردستان السلام والوفاء، منذ تأسيس الدولة وحتى يومنا هذا، حيث الملاذ الأمن والحضن الدافئ وقبول الآخر واحترام خياراته وخصوصياته، ولطالما تغنى العراقيون بطيبة وحكمة ودقة الكورد في أي مجال من مجالات الحياة، رغم ما كانت تفعله ماكينة الإعلام التابعة لمعظم أنظمة الحكم التي تسلطت على البلاد منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا، ليس في العراق وحده بل حتى في سوريا وتركيا وايران التي حاولت تشويه صورة الكورد لدى الرأي العام بشتى الأساليب
والطرق، حتى أدركها الفشل وبانت حقائق الأمور، فإذ بها امام شعب مسالم حر أبي، يعتمد الحكمة والصبر والتأني في مجمل تفاصيل حياته، ويجيد البناء والاعمار ويحب الحياة والسلام والأمان والازدهار، وقد أثبتت الأيام انه حينما نال لبضع سنوات أمانا وسلاما وحرية استطاع ان ينجز ما عجزت عنه دولا منذ تأسيسها، ولربما ما فعله خلال عقد واحد من السنين عجزت عن فعله حكومات العراق خلال ثمانين عاما.
ومقارنة بسيطة بين الإقليم وبقية أنحاء البلاد تظهر لنا حقائق كثيرة في مقدمتها فشل تلك الماكنة الإعلامية البائسة في تصوير الكورد والكوردستانيون عموما، بل وفشل كثير من المؤسسات التي حاولت ان تصور كوردستان كما وانها لا علاقة لها بالعراق وشعبه واحواله خيرا وشرا، وفي كل مرة وقبل ان تأخذ تلك الادعاءات مداها يثبت الكوردستانيون انهم جديرون بالنجاح والحكمة كما في كل محطات حياتهم، وانهم دوما محط احترام واعجاب كل من عرفهم عن كثب او تعامل معهم او عاش بينهم.
لقد اثبتوا دوما انهم جزء من الحلول ولن يكونوا جزءً من أي مشكلة مهما كانت، بل انهم تعالوا على جروح غائرة وذهبوا الى بغداد حين سقوطها لكي لا تكبر جروح اخرى، ولكي يعملوا من اجل عراق جديد لا فرق فيه بين عربي واعجمي الا بما يقدمه المواطن لخدمة البلاد ومصالحها العليا، ويحفظ حقوق كل الاقوام والاعراق والاديان بذات الاطوال والمستويات دون انتقاص او تهميش او اقصاء.
وفي كل الساعات العصيبة والمواقف الدقيقة كان الإقليم دوما يسارع إلى تهدئة الأوضاع ودفعها إلى السلام والحل، كما حصل في كثير من المواقف خلال السنوات التسع الماضية ابتداءً من كتابة الدستور وليس انتهاءً بتحمله كثير من اللف والدوران والتسويف فيما يتعلق بالمادة 140 وتطبيقاتها وموضوع التعداد العام للسكان والميزانية الخاصة بالإقليم ( 17% ) التي لم تدفع كاملة لحد هذه السنة، إضافة إلى انه لم يقف أبدا مع طرف ضد آخر، بل كان دوما على مسافة واحدة من كل الأطراف بما يحقق المصلحة الوطنية العليا ويحافظ على الدستور، وقد اتضح ذلك من خلال مواقف الإقليم ابان الاحتراب
الطائفي ومشاركة قواته للحفاظ على الأهالي وأحيائهم من أي اشتباكات قد تؤدي إلى إبادة جماعية للسكان في بغداد وضواحيها، بل ان الإقليم بكافة محافظاته وبلداته أصبح ملاذا آمنا لكل من تم تهجيرهم أو تعرضوا للتهديدات بالقتل أو الابتزاز من العلماء والأطباء ورجال الأعمال والفنانين والأدباء، حتى غدت كوردستان تعج بمئات الآلاف من السنة والشيعة والمسيحيين والصابئة المندائية الذين تركوا مدنهم وأحيائهم نتيجة الاحتراب المذهبي أو الديني والسياسي.
واليوم تتعرض البلاد إلى واحدة من اخطر الأزمات التي واجهتها منذ سقوط النظام، حيث انسحبت قوات الاحتلال وبدأت مرحلة دقيقة من مراحل الاعتماد على الذات، وبدأ الصراع بين المتخاصمين على الحكم يأخذ إطارا خطيرا قد ينزلق إلى مستنقع الاحتراب الطائفي، من خلال ملفات الاتهامات والاتهامات المضادة واستخدام السلطة والحكومة ضد بعضهما البعض، حتى وصول نائب الرئيس ونائب رئيس الوزراء ووزير المالية ومرافقيهم وأسرهم إلى الإقليم، ابتعادا عن مراكز التسخين في العاصمة التي بدأت بعض المفاصل بملاحقتهم باتهامات تتعلق بتورط رجال حمايتهم بعمليات عنفية أو إرهابية كما
ذكرت البيانات والمؤتمرات الصحفية لكلا الطرفين، والتي ساهمت في تعقيد المشهد السياسي والأمني الذي انحدر تماما في العاصمة وأدى إلى مقتل عشرات المواطنين وجرح المئات خلال يوم واحد فقط.
لقد اتسمت مواقف الإقليم بالحكمة والدراية والتأني واحتواء المشكلة والتعامل معها بروح وطنية تخدم مصالح البلاد والعملية السياسية برمتها، والتأكيد على الفصل بين أداء القضاء ومؤسساته وبين العمل السياسي وتجاذباته، وعدم تسخير الإعلام ووسائله لقضايا تتعلق بالعدالة والقضاء، حيث أشاع تعاطي إدارة إقليم كوردستان مع الأزمة الأخيرة المتعلقة بالسيد نائب رئيس الجمهورية، ارتياحا كبيرا لدى كل الأوساط في البلاد وخارجها، وبالذات رفض تسليمه كمتهم للحكومة الاتحادية مع التأكيد على احترام القضاء واستقلاليته وعدم التدخل في شؤونه، واحترام هيبة الدولة
متمثلة برموزها في الرئاسة، مع عدم الإقرار ببراءته من عدمها حيث يقرر القضاء باستقلالية تامة تلك الأمور بعيدا عن الصراعات السياسية والمذهبية، وحفاظا على العملية السياسية ومستقبل البلاد والنظرة البعيدة والصائبة واحتراما لتقاليد واعراف مجتمعاتنا التي تتجاوز حتى القوانين في تطبيقاتها، تعاملت إدارة الإقليم بحكمة بالغة مع تفاصيل الأزمة بما يخفف من التوتر ويحافظ على مصالح بلادنا العليا.