كلمات في تأبين الراحل الدكتور هشام جعيط
د زهير الخويلدي
“كنت ميالًا في شبابي لدراسة الفلسفة. لكن شاءت الظروف فيما بعد أن اهتممت كثيرًا بالعلوم الإنسانية، ومن العلوم الإنسانية اتجهت إلى التاريخ، وبعد فترة طويلة من دراساتي وأبحاثي التاريخية رجع لي اهتمامي بالفلسفة، لكن بصفة خاصة فأنا مغرم بقراءة الكتابات الفلسفية”.
خسرت الجامعة التونسية والساحة الأكاديمية والمشهد الثقافي العربي أحد اهم ركائزه العلمية في العقود الأخيرة وهو الدكتور هشام جعيط الذي ولد بتونس العاصمة يوم 6 ديسمبر 1935 رحل عن الدنيا يوم غرة جوان 2021 بعد رحلة طويلة من البحث المعرفي الدقيق والحياة الفكرية الصاخبة والجدل الإعلامي الثري.
كان كلامه الواثق يغطي قاعات كلية 9 أفريل وكان قلمه موقعا لمقالاته في غالبية المجلات العربية ولم يكن درس الأستاذ جعيط يهم طلبة التاريخ فحسب بل كل الطلبة من كل اختصاص فهو يستعمل العلوم الانسانية والفلسفة والدين والحضارة. لقد تجسدت في الدكتور هشام جعيط القيم الجامعية وخاصة الاستقامة الفكرية والنزاهة العلمية والالتزام الوجودي. ترجمة كتاب الفقيد هشام جعيط الفتنة الكبرى من الفرنسية إلى العربية هو منعرج حاسم في تملك الملة الإسلامية للوعي التاريخي. يمكن اعتبار المدونة التي تركها الراحل هشام جعيط اهم عمل فكري ظهر في الحاضرة التونسية بعد مقدمة العلامة عبد الرحمان ابن خلدون. كانت كل مقابلات الفقيد جعيط برامج عمل وكل دروسه تجارب بحثية وكل محاضراته مشاريع كتب. لقد تحدد مصير الامة مابعد الدولة الوطنية وليس بما قبلها يوم كتب الفقيد جعيط الشخصية العربية الإسلامي. ربما كان يهدف من انثربولوجيا المقدس الإسلامي التي طورها تخليص الدين من الكهنوت والنبوة من الاساطير والنص من الموروثات. لقد عاد بنا إلى ام القرى مكة لحظة تجلي الحقيقة النبوية واستذكر بدقة مدينة الكوفة زمن حكم العباسيين. تمكنت الأكاديمية التونسية في فكر الفقيد جعيط من منافسة المشاريع التحديثية العربية التي تقدم بها الجابري واركون وتيزيني وحنفي ومحمود طه والعروة ومروة والرصافي وعبد الرحمان بدوي. في مدونة جعيط تذوب الفوارق بين الإسلام والغرب وبين الشرق والحداثة ويمتلك العرب العبارة العلمية. كان لمنتدى الجاحظ منذ انبعاثه شرف تقديم الراحل للجمهور وخاصة تحفته الثلاثية عن كتاب تاريخية الدعوة المحمدية والسيرة النبوية. . لقد تمكن الدكتور هشام جعيط من دراسة الموروث الديني بطريقة تاريخية علمية. ومن المزج بين مدرسة العراق في التاريخ التي يمثلها الدوري والوردي وجواد علي ومدرسة الاستشراق الغربي.
باختصار كان نبراسا منيرا نهتدي به ونموذجا جامعيا يرمز الي الحكمة والتعقل واسوة حسنة ومثقفا عضويا له مواقف سياسية مشرفة من قضايا الوطن والأمة. حضرت للدكتور هشام جعيط رحمه الله كثيرا وقرات له غزيرا وكتبت عنه نصا يتيما: يقول الفقيد هشام جعيط “العرب عرفوا تذبذبا وعليهم الآن الاسترجاع، ويضيف: العلم أوربيا وهاجر الى أمريكا. في الواقع منذ أن أصدر المفكر العربي هشام جعيط كتابه “تاريخية الدعوة المحمدية” أثار جدلا كبيرا وعقدت العديد من اللقاءات لمناقشة الأفكار الواردة في هذا المصنف “العلمي الجاد” وطرحت عدة استفهامات لمعرفة النتائج التي توصل إليها وقد نظمت نقابة الصحافيين التونسيين- المولود الفتي- في مقرها وكأول نشاط تقوم به يوم الجمعة 22 فيفري 2008 لقاء العادة معه أين تحدث فيها عن أشياء كثيرة مهمة ولم يقتصر كلامه على كتابة حياة الرسول محمد صلعم كتابة علمية بل تعدى ذلك الى الاهتمام بجدل الحضارات وواقع العلم والثقافة بين العرب والغرب وبحث في علاقة الدين والفلسفة والعلم ودعا الى ضرورة التمييز بين هذه القطاعات الثلاثة وتجنب الوقوع في الخلط وسوء الفهم لأن ذلك قد يؤدي الى عواقب وخيمة على الصعيد الجماعي والحضاري. من جهة أولى أكد جعيط أن الفلاسفة المسلمين بينوا أن حقيقة الفلسفة أرقى من حقيقة الدين لأن الفلسفة مجعولة للنخبة أما الدين فهو فلسفة شعبية تنظم سلوك الناس وتوجههم في حياتهم العلمية وينصح بألا تزاحم الفلسفة الدين في الفاعلية الاجتماعية وألا يزاحم الدين الفلسفة في الفاعلية المعرفية. من جهة ثانية يشير مؤلف “الفتنة الكبرى” الى وجود علاقة بين العلم والدين،إذ هناك علوم دينية ويمكن إخضاع الديني الى مقاربات علمية مختلفة من بينها علم التاريخ. غير أن علم التاريخ شيء والدين شيء آخر لأن الدين يسيطر على المجتمع يمارس الاندماج الاجتماعي وله سلطة التاريخية بينما العامل التاريخي محدود والمؤرخ هو شاء أم أبى مرآة عصره وابن زمانه وتقتصر مهمته على تسجيل الأحداث التي جدت في عصره بطريقة منهجية منظمة. من جهة ثالثة يطبق المؤرخ التونسي عدته المنهجية على حضارتنا ويستنتج أننا في العالم الإسلامي عشنا تصادما مع أوروبا منذ 1850 وأن هذا التصادم سرى مفعوله في كل شيء ينظم حياتنا وأحدث تغييرات جوهرية في رؤيتنا للعالم وفي شكل الحكم وأدى الى تغلغل الثقافة الأوروبية في مجتمعاتنا وفي تأثر النخب بهذه الثقافة. ومن بين مظاهر التغلغل ظهرت نزعة ليبرالية تنقد الدين شبيهة بالإصلاح البروتستانتي جوبهت بردة فعل عنيفة من قبل التيار المحافظ. لقد أكد صاحب كتاب “الشخصية العربية الإسلامية” أن العرب عرفوا منذ هذا التصادم مع الغرب تذبذبا وطرحت مشاكل وتحديات وكانت منزلة الدين في الحياة هو أحد هذه المشاكل المستوردة من الغرب. وقد طرحت الأسئلة التالية: هل الدين الإسلامي وقع تحريفه أم هو صحيح؟ هل هو دين نصوص ومعجزات غيبية أم هو دين عقلاني وفطرة طبيعية؟ هل هو ثيوقراطي أم علماني؟ وهل دين مجرد ونخبوي أم يمكن تطبيقه لدى جميع الناس؟. أمام هذه التحديات حصل رد فعل عنيف من طرف فئة أصولية متشددة متشبثة بتراث الآباء والأجداد طرحت مشكلة الدين بشكل انفعالي سيء والآن يجب طرحها بكل موضوعية ومنهجية ويرى جعيط أن كتابه “تاريخية الدعوة المحمدية” يتنزل في هذا السياق الأكاديمي الجديد التي ينبغي أن يتوفر خاصة وأنه لم يصدر الى حد الآن كتاب علمي حول حياة النبي محمد عليه الصلاة والسلام سوى محاولات خطابية قام بها هيكل ومعروف الرصافي. ان الدين الإسلامي حسب مفكرنا قد أصبح يثقل كاهل المسلمين دون أن يصدر عنهم أي كتاب علمي يساعدهم على تجاوز هذه التشنجات والتذبذبات وليظهر للعالم أن الحضارة العربية قادرة على أن تساؤل نفسها علميا وتنافس كتابات المستشرقين التي تجد فيها الجيد والرديء والمنصف والمتحيز. وهذا الضعف يفسره جعيط بأنه انتكاسة عالمية للثقافة إذ أن الهم العلمي ضعف في بقاع كثيرة من العالم والاهتمام الإيديولوجي هو السائد وهو يغطي دار الإسلام ويمنعها من فهم ذاتها. وقد استخلص من رؤيته التاريخية أن العلم هاجر أوروبا ولم يعد الا أمريكيا لأن الولايات المتحدة الأمريكية عرفت كيف تزاوج بين ثقافة الميديا والعلم وسط الحضارة. العرب حاولوا استئناف الحضارة وإمساك زمام المبادرة ولكن مدة الانحطاط كانت كبيرة واستمرت أربع قرون من 1500 الى1900 حيث غاب الهم المعرفي حتى من جهة علوم الشريعة التي كان لها تأثير في المجتمع وغطست في مرحلة من الاجترار والتقليد وهو أمر غريب وغير مفهوم. الاسترجاع لم يكن ممكنا حسب جعيط الا في فترة متأخرة وقد انصب في البداية على استرجاع ما يمنك القيام به وهو عالم المعرفة ولذلك انطلقت موجة من الإحياء شملت اللغة والعلوم وأنتجت حركات سياسية وطنية وأفرزت فيما بعد نهضة شاملة في بداية القرن العشرين ولكن ذلك لم يؤدي الى استرجاع الهم المعرفي في ميدان العلوم ولا نقول العلوم الطبيعية والصحيحة لأن ذلك صعب المنال ولا يحصل الآن سوى في أمريكا ولكن العلوم الانسانية التي يمكن اللحاق بالأمم المتقدمة فيها والمشاركة في إنتاجها وهذه العلوم مثل تاريخ الأفكار والفلسفة. كما يشير هشام جعيط الى أن العرب مقصرين جدا في عملية الاسترجاع وهذا ما يسر ما نحن عليه من اضطراب في الواقع لأن الوعي الحضاري تابع لمستوى الوعي ولو وصل العرب الى درجة الوعي الثاقب فان فعلهم سيكون نابعا عن موقف سديد. ويفسر جعيط سبب هذا الاضطراب بغياب قادة من المفكرين الأحرار الذين يستنبتون أفكارهم من الواقع الاجتماعي الذين يعيشون فيه. ويدعو مؤرخ مدينة الكوفة الى تجنب الاضطرابات السياسية وقمع الكلمة الحرة وضراوة كل طرف إزاء طرف آخر ويطالب بضرورة الرفع من مستوى الفكر والوعي وعدم الانزلاق وراء السهولة والاختزال والتبسيط لأن ذلك يؤدي الى التخلف والتقليد والكسل.صفوة القول أن هشام جعيط يطالب العرب بإعادة البناء والاسترجاع الحضاري ويعترف بأن كل نقطة بداية هي صعبة ولكنه يشير الى أن كل الأعمال العظيمة بما في ذلك الدعوة المحمدية شهدت في بداياتها صعوبات جمة وينصح بأن يعش المفكر مشاكل عصره ويدقق أفكاره ليس بالانعزال بل بالحضور مع الغير والحوار. لكن ما يثير إشكال بالنسبة الينا هو أليس من اللازم علينا أن نشرع في البحث عن شروط إمكان إنتاج العلم الصحيح عندما طالما أن الثروة المالية العربية في الحقبة النفطية قائمة الذات؟ واذا كنا نحن العرب عاجزين لأسباب هيكلية غير موضوعية عن إنتاج العلم الصحيح الطبيعي أو الصوري أليس من الممكن أن ننتج العلم الانساني طالما أنه لا يتطلب مخابر وتمويلات ضخمة بل الإيمان بالعقول وكفاءات وتوفير مناخ من حرية التعبير يساعدهم على ذلك؟ فمتى نرى علوم إنسانية تنبثق من مسطح المحايثة الحضاري العربي الإسلامي وتطمح نحو الكونية؟ ألا تساهم هذه العلوم الانسانية المنشودة في فهم ذاتنا فهما أصيلا وفي تحقيق المصالحة مع العلم والآخر الانساني؟ فالي أي مدى يساعد هذا العمل العلمي الذي ابتكره جعيط عن الدعوة النبوية على إزالة سوء التفاهم بين العرب والعرب؟ كيف يتحول هذا العمل النقدي الى توضيح للصورة الحقيقية للرسول محمد صلعم وتفكيك كل الأحكام المسبقة والأقاويل المغشوشة التي نسجها الخيال والذاكرة والتاريخ الغربي حوله وإبراز الواقع الحقيقي للتجربة المحمدية دون انفعال دفاعي ودون تضخيم أبولوجي؟”. الرحمة والسلام لروح المؤرخ الأكاديمي هشام جعيط الذي كان يعد بحق فخر الجامعة التونسية وباعث الثقافة العربية من سباتها القروسطي. فهل تنتفض الشبيبة العربية البية على الصعيد الفكري وتواصل المسيرة؟
كاتب فلسفي