كامل شياع من اولئك المثقفين العراقيين الذين تقاسمتهم المنافي، بعد أن عجز الوطن عن احتضانهم في حقبة مزّقت فيه الديكتاتورية أوصال المجتمع بالقمع وخنق الحريات، وباتت الهجرة وسيلة القادرين عليها، وأصبحت غربة المنفى، الخيار الأصعب للمثقف والسياسي المعارض، منذ أن بدأ النظام يقامر بالوطن، مدججاً بالسياط لكل من يخرج عن طاعته، وطوابير أسلحة الموت والاغتيالات يضيق بها ليل العراق.
غادر كامل البلاد في منتصف سبعينات القرن الماضي، لم تعد الحياة آمنة، غادر من أجل أن لا تحزن عليه أمه، وأشقاؤه، لا يدعهم يبكون عليه، وكان كامل قد أتقن أشياء كثيرة في حياته، من بينها اصطياد المودّات والصداقات، وأجاد التعبير عن حياته بمقطوعات متوهجة وثرية عميقة الأثر، في أعماله وكتاباته ونمط سلوكه، لم تكن حياته جافة بلا معنى، بل أكثر فصاحة واشراقاً في الغربة على الرغم من عذاباتها.
كذلك كانت عودته محمّلة بالأحلام والأحلام، وكان لتسنّمه دوراً قيادياً متميزاً في وزارة الثقافة بعد عام 2003، تمثل لحظة حضوره الفاعل في المشهد الثقافي العراقي، مفرطاً في رؤاه وأحلامه، وأفكاره وتخيلاته، وإنسانيته على حدٍ سواء، متعالياً على الزمان والمكان.
ما زلتُ أستعيد طعم تلك السنوات القليلة التي جمعتني مع كامل في عمل اداري وثقافي معاً، تلك التجربة على قصرها أضافت لي الشيء الكثير، وتعلّمت من كامل فهمه للثقافة في مضمونها الإنساني، والانفتاح على الأفكار الحرة، بعمقها وصدقها وحرارتها في التعبير، لم ينفصل كامل عن انتمائه، لكنه من نمط فريد في الانتماء، كان يجد فيه صلة جمالية واخلاقيات معرفية، ومساحات من الحوار والجدل الفكري، هو من القلّة الذين استطاعوا الإمساك بالخيط الذي يشدّ المثقف الملتزم بالأفق المفتوح، على الآراء والأفكار والفلسفات الأخرى، بلا جمود وتحجر فكري، أو انغلاق.
أستطيع القول ان كامل شياع بنهجه الفكري هذا، استطاع أن يعيد الى الأذهان مجد المثقف اليساري العضوي بجدارة، وأعاد الى الساحة الثقافية بجدية فاعلية النقاش والحوار بين فئات ومستويات متباينة في التفكير والرؤى، أذكر على سبيل المثال ان وفداً ثقاقياً عراقياً زار ايران في عام 2008، كان فيه كامل نجماً ساطعاً في النقاشات والجدل المقنع لأوساط عديدة من مفكري ايران، وهو يحمل الزخم العاطفي الذي ينشده فلاسفة التصوف مثل ابن عربي، وجلال الرومي، كان مدهشاً مثيراً لاعجابهم، وارتقى الى مقامات متسامياً يفيض معرفة وعلماً، وتوضيحات وبراهين، لم يجد نفسه مرغماً على تبني نظرة آحادية الجانب، لا يبوح بأفكاره بتعسف.
أذكر ان لقاءً جمعنا بالسيد عمار ابو رغيف المقيم في مدينة (قم) الإيرانية امتد لساعات متأخرة من الليل في منزله، غادنا البيت بعد إعياء وسهر طويل، إلا كامل الذي واصل الحوار مع صاحب الدار حتى ساعات الفجر الأولى،
أحد الأصدقاء ذكر لي ان السيد أبو رغيف لطم جبهته حين سمع باستشهاد كامل شياع، وهو يندبه بالقول : ليتني لم ألتقيك يا كامل، أو أراك، أوجعني مقتلك!!
كانت صدمة رحيله الدموي خسارة عظيمة لا يمكن تعويضها، وحافزاً لإثارة الجدل من جديد إزاء ما حدث ويحدث، مازال أثر الصدمة قائماً لحد هذه اللحظة، ما تزال أصوات الرصاص عالية تحيق بنا ونخشى غدرها، ربما لأن الثقافة ( بمعناها الإبداعي) ما زالت ملتبسة بالسياسة، لم تستطع أن تنأى بنفسها بعد عن أحابيل السياسة.
القاتل مجهول دائماً، تعرفه السلطة لكنها لا تكشف عنه، والقاتل لا يعرف أي معنى لضحيته، في موازاة آلاف المعاني التي عاش وأغتيل كامل من أجلها. آه ما أقسى قلبك ايها الجاهل!
كنت أتعبت نفسك فيما تطلب من وطن تسوده ( شيم) الصحراء يا كامل! ما أهون ما يغتال المنحطون ضحاياهم، ويمدّوا التاريخ بما يلعنه الجمال، وتخجل منه الأجيال،
كان الألم يعتصرك، حين قلت لك : اني أخاف عليك يا أبا الياس، ابتسمت وقلت: لقد اخترت العراق، ولن أغادره أبداً، حقاً يا كامل، لقد اغتسل جسدك بماء الفرات وتوسّدت ترابه إلى الأبد، وخسرت زماناً، وحلماً جميلاً، فالبلاد مثقلة بالحزن والبكاء.
تعلمت منك الدرس، في معنى الإنتماء، مثلما تعلمت المثابرة على الإنجاز، والانهماك في العمل، والحياة بأمل، يا ضوءنا الذي توحَمَتْ به الأقدار، يا وجه القمر.