كافكا الآخر والمرأة: العاشق المستحيل/ج8
علاء اللامي*
(…مرَّت ساعات، ساعات من الأنفاس المشتركة، ومن خفقات القلوب المشتركة، ساعات كان يمتلك “ك” خلالها دونما انقطاع شعور بأنه يتوه[1]، أو أنه في عالم غريب أكثر من أي كائن قبله، في عالم غريب لم يكن فيه حتى الهواء يملك أي عنصر من هواء موطنه /كافكا.. القصر)
لم يسلم كافكا، حتى في تفاصيل هذا الباب المهم من أبواب حياته، باب الحب والعلاقة بالأنثى، من التجاوز وسوء الاستيعاب والتَمَثُّل المُغْرِض، ومن ثم التقديم بصورة أخرى، تختلف إلى هذا الحد أو ذاك، عن حقيقته الحياتية والإنسانية. لقد أُلفت عدة كتب عن علاقته كإنسان وكأديب مبدع ومتفرد بالمرأة وبالحب ومشمولاته، تطرق فيها مؤلفوها إلى تفاصيل تلك التجارب التي هي من باب أولى شخصية وحميمية وغير قابلة للانتهاك والتدليس وما في مظنات ذلك، ولكن لا يمكن البتُّ بدقة بكل جزئيات ما قيل وما كتب عن طريق الترجيح والتخمين وقراءة الرسائل الشخصية بطريقة ذات خلفيات منحازة لفهم مسبق، حتى وإن كانت هذه الأخيرة تسلط ضوء مهما على جانب من جوانب حياة صاحبها. من تلك الكتب يمكن ذكر كتاب بعنوان “كافكا والفتيات” للباحث الفرنسي دانيال ديماركت، كما يمكن الإشارة إلى كتاب “محاكمة كافكا الأخرى” لمؤلفه إلياس كانتيني والذي تناول فيه تفاصيل علاقته بخطيبته والمرأة الأولى في حياته فيليس باور.
وبخصوص هذا النوع الكتب، الذي يكتب في الغرب، وفي فرنسا خصوصا، ويتناول حياة المشاهير من أدباء وغير أدباء وعلاقتهم بالنساء، يمكننا ملاحظة أن الكثير منه يكتب بطريقة الصحافة الخفيفة، اليومية أو الأسبوعية، الباحثة عما هو مثير وصادم وخارق للمألوف وليس بطريقة التحليل النقدي ذي المنهجيات والآليات المعروفة، وعلى هذا ستكون هذه الكتب قليلة أو معدومة الفائدة للباحث النقدي رغم إنها قد تروي غليل الباحث عن الفضائح والطرائف وما في مساقها. وحتى لو افترضنا بأن ثمة كتب كتبت من منطلقات نقدية أو أدبية عامة فإنها تكون غالبا محكومة بما هو سائد وذائع بغض النظر عن كونه قريب من الحقيقة أو لا.
المؤسف، أن ثمة قناعة مسبقة لا يمكن الجزم بصحتها، بل هي موضع شك وتمحيص لأنها قد تكون متأتية من جملة التشويهات التي ألحقتها مدرسة ماكس برود بكافكا وأدبه وسيرته الذاتية، وربما كانت هذه التشويهات، أو ما أثارته وخلفته من آثار تقف خلف هذا النوع من الكتب والدراسات التي تناولت هذا الجانب من جوانب حياة وشخصية كافكا، ونعني جانب علاقته بالمرأة والحب والجنس مشمولات هذه المحاور الأخرى. وسوف نتناول بالمناقشة في هذا الفصل مقالة مطولة تتضمن تفاصيل مهمة وآراء كثيرة جديرة بالدرس والتمحيص للكاتبة فرح جبر بعنوان “كافكا والنساء ” نشرتها في الملحق الثقافي لجريدة النهار البيروتية قبل ست سنوات، وهي أقرب لاستعراض مسهب لأراء عديدة لمؤلفي كتب حول كافكا وعلاقته بالمرأة أكثر من كونها عرضا لآراء شخصية لكاتبة المقالة المذكورة.
تُصَدِّر الكاتبة مقالتها باستشهاد يكاد يشي بكل المسبقات التي توجسنا خيفة منها بصدد النظرة إلى كافكا، ومع أن هذا الاستشهاد صحيح النسبة والمتن كما يبدو، غير أن صحة النسبة والمتن ليست كل شيء، فثمة دائما ما يمكن العثور عليه بين السطور وما يقوله السياق العام والتاريخي غير الوارد في المتن … يقول هذا الاستشهاد الأشبه بالشعار أو اللافتة السياسية والذي صدَّرت به جبر مقالتها (المرأة كائن الكتابة لتزيين الجثة بالأنوار..) ولا يمكن العثور على جملة أكثر كابوسية وتناقضا مضمونيا من هذه في كل أدب كافكا. ولكن هل يمكن لجملة واحدة منتزعة من سياقها أن تشطب على قناعات ووجهات نظر أخرى مختلفة ومخالفة لمضامينها وتشيِّد لوحدها هرما أو صرحا خاصا من طبيعة مختلفة لمبدع كبير مثل كافكا؟ يمكن أن نكرر التساؤل بكلمات أخرى: ألا يمكن العثور على مئات العبارات المختلفة والأكثر تفاؤلا وأقل كابوسية وجثثية من هذه في تراث الرجل؟ ألا تقلب هذا المضمونَ المرادَ تلك العبارةُ اللافتةُ والحميمةُ التي كتبها كافكا والتي حظر ماكس برود نشرها والتي سبق ذكرها في سياق آخر ونصها (حين أمر أمام الماخور أشعر بأنني أمر أمام بيت الحبيبة المعشوقة)؟ ولكن لنوافق جدلا على ان هذه العبارة يمكن لَيُّ عنقها قليلا لتعطي مذاقا مفارقا، وقد يساعد على هذه العملية وجود مفردة “الأنوار” كمقابل مضموني معاكس وذي دلالات مناقضة للجثة، بما يجعل المرأة ومعادلها الدلالي ” النور “، أكثر إيجابية منها في قراءة مجحفة أخرى، ولكننا هنا نجازف بأن نحول حياة كافكا ذاته إلى شبح حياة، وجسده إلى شبح جسد، وستكون الخاتمة هي تلك التي مهدت الكاتبة ومَن نسجَ على منوالها هي انتصار الكتابة على الحياة، وتلك هي الكلمات التي تختم بها الكاتبة نصها موضوع قراءتنا بما يعني انتصار الكتابة أي الحياة المفترضة والمتحولة بالكتابة إلى عالم آخر على الحياة الحقيقية وتلك هي قمة الخلط ومجانبة الصواب.
من أكثر الأحكام تكرارا وتشابها وهشاشة بصدد كافكا وعلاقته بالمرأة والحب، يمكن إيراد ما قيل عن (كابوسية كافكا المريرة في الحب وفي العلاقات العاطفية والغرامية. فهو يحلم بالحب على طريقته كما يحلم بالحياة- كما تكتب السيدة فرح جبر – يطلب المستحيل من الفتيات، على غرار ما يطلب من الأدب والكتابة. يعشق الفتاة من بعيد وحين تقترب منه يبتعد عنها، وحين تهرب منه يحاول استرجاعها. يخطب الفتاة لكنه يرتعب من فكرة الزواج منها، كافكا حالم أبدي وكابوسي أبدي، لا يستفيق من كابوسيته وأحلامه التي تخلقها الفتيات العابرات في حياته. ينتظر شبح المرأة ويؤجل لقاءه الجسدي بها إلى ما لا نهاية. جعل من المرأة كائنا يحسه من خلال رسائله إليها. لم تكن المرأة أكثر من كائن للكتابة، يجد كافكا في علاقته بها المسوّغ الحقيقي للنص الأدبي الروائي والقصصي.) في هذه الفقرة الكثيفة – ولا يغرنك ما فيها من مسوغات إنشائية قد توحي بالتناسق المنطقي – نضع اليد على خلاصة لما أمسى تقييما ذا أبعاد معيارية كرره الكثيرون بعبارات مختلفة ومضمون واحد، ولكن هذه الخلاصة لا تخلو تماما مما هو قريب من الصحة، فلا أحد يمكنه أن ينفي حالة من حالات العصاب والتوتر النفسي الشديد عن كافكا المبدع. فلنجازف بالقول عرضا وعلى الهامش: إنهم نادرون أولئك المبدعون الكبار المبرَئين والخالين تماما من درجة ما من درجات العصاب أو الاضطراب النفسي أو الروحي، ويمكن أن نذكر بأن بعض الأدباء الكبار أرجعوا أسباب كتاباتهم بهذه الطريقة لا تلك إلى نوع من العصاب الذي كانوا مصابين به. أما فيما يخص كافكا فقد كان أكثر عرضة لهذا العارض كما يبدو لأسباب مهمة منها علاقته المضطربة وغير الصحية بأبيه، ومعاناته الشديدة من المرض، إضافة إلى حساسيته المرهفة وطباعه الخاصة كالخجل المفرط والانطواء. ثم إن ما قيل عن حالته العاطفية والغرامية وعلاقاته المتقلبة و العميقة في آن واحدة بالنساء اللواتي مررن في حياته لا يجعل منه مريضا نفسيا لا يرجى له شفاء، ورمزا للاختلاف والخروج على السائد، بل إنها لحالة طبيعية تلك التي يعيشها الشاب في مقتبل حياته والقادم من خواء لا تجارب فيه نحو عالم غريب ومذهل هو عالم الحب و الجنس، فالتعلق بالفتاة عاطفيا – مثلا – مع الشعور بالرعب من الإقدام على الزواج منها في الوقت ذاته، أو كما تكتب جبر (يعشق الفتاة من بعيد وحين تقترب منه يبتعد عنها، وحين تهرب منه يحاول استرجاعها. يخطب الفتاة لكنه يرتعب من فكرة الزواج) ليس أمرا خارقا للمألوف في هذا العمر المبكر لدى الشباب الخارجين توا وبالكاد من مناخ المراهقة أو الذين لم يخرجوا منها تماما بل يمكن القول إنها الحالة الغالبة أما نقيضها فهو النادر والاستثنائي.
بمراجعة سريعة وصحفية من النوع المألوف لتجارب كافكا العاطفية والغرامية سيتبين لنا مقدار التأثير الذي مارسته الأحكام المسبقة على استنتاجات كهذه التي خرج بها النقاد.
معروف أن أول علاقة عاطفية طويلة لكافكا كانت مع الآنسة فيليس باور التي تعرف عليها صدفة في منزل ماكس برود، وقد انتهت تلك العلاقة إلى إعلان خطوبتهما رسميا، ولكن العلاقة انتكست وفُسِخَت الخطوبة بعد خمس سنوات. وطوال تلك السنوات الخمس عاش كافكا علاقته العاطفية بهذه الفتاة بشكل طبيعي وبحيوية ومتابعة دقيقة، كتب لها خلالها عشرات الرسائل التي استعرضنا عددا منها في فصل سابق مخصص لشأن آخر لا علاقة مباشرة له بالجانب العاطفي. ولكن، وكأي علاقة عاطفية بين شاب وشابة، يمكن أن تتعرض للنمو والنجاح والتتويج بالزواج أو للفتور والاضطراب أو الانتكاس والفشل التام. هذا ما حدث، وانتهت علاقته بها بهدوء، ولكن الأمر لم يخلُ من الجراح النفسية والإساءات الصغيرة التي تنتج غالبا في سياقات كهذه رغم المبالغات التي قالها بعض النقاد، وحشروا فيها امرأة أخرى في حياة كافكا. تلك المرأة هي غريت بلوخ، وهي صديقة مشتركة للطرفين، قيل بأن باور استعانت بها لحث كافكا على إتمام ارتباطه بها بالزواج، فيما اتُهِمَ كافكا بأنه كان على علاقة عاطفية سرية ببلوخ، وحين اشتد التوتر بينهما، قيل بأن بلوخ واجهت الطرفين -كافكا وباور – ببعضهما فقرر كافكا إنهاء علاقته تماما بخطيبته ليتفرغ لكتابة إحدى قصصه وهي ” المحاكمة ” كما برر أحد النقاد. لقد اقتبس بعض النقاد هذه الحكاية الشخصية بشكل مبالغ فيه، حتى أنه قال إن (كافكا تعرض لمحاكمة في اجتماع عائلي بعد أن أطلعت غريته بلوخ صديقتها فيليس على إحدى رسائل كافكا التي كتبها إليها وتم فسخ الخطوبة ما بينهما. ومما يدعم هذا التأويل أن كافكا في يومياته قد شبه الاجتماع الذي نتج عنه فسخ خطوبته بالمحاكمة.) ويورد المقتبِس حججا أخرى لتعضيد وجهة نظره هذه فيقول (ومما يدعم هذا التفسير ويؤيده أن ك، اسم بطل الرواية هو الحرف الأول لاسم كافكا كما هو واضح. كما أن الفترة التي كتب فيها كافكا الرواية، عام 1914، هي الفترة نفسها التي شهدت التأزم في علاقته مع خطيبته.) ولكنه يضيف مستدركا،و شاعرا ربما بخطر المبالغة على تقديم استنتاجات أدبية محددة ونهائية لا تخلو من طابع المجازفة (حتى إذا افترضنا صواب مثل هذه القراءة وموثوقيتها فإن ذلك لا ينفي أن الرواية قد تجاوزت الشأن الخاص المرتبط بحياة كافكا الشخصية وتفاصيلها لتكون ذات معنى شمولي وبُعد يونيفرسالي من خلال خلقها لعالم استعاري تخييلي يتداخل فيه الواقع مع الحلم والحقيقة مع الوهم والإيمان مع الشك.[2]). ولا يبدو لي أن هذا الاستدراك كاف لتبديد الطابع المضطرب والسطحي لعملية المقارنة التي قام بها بين حالتين الأولى شخصية بحتة ” خلافه مع خطيبته وصديقتها ” قد تصح واقعا وقد لا تصح، وبين موضوع المحكمة كنص أدبي له سياقاته وبنيته الخاصتين تماما. كما لا يمكن الركون منهجيا إلى الاستنتاجات التي خرج بها المقتبس فالآنسة بلوخ نفسها قد اختفت نهائيا أيضا من حياة كافكا بمجرد انفصاله عن الآنسة باور كما يوحي بذلك كلام النقاد والمؤرخين والمهتمين بسيرته، مما يكشف عن ضعف وارتباك قصة العلاقة السرية التي قيل بأنها ربطته بها أو في الأقل هامشيتها حتى إن صحت واقعا.
لقد ظلت رسائل متباعدة تصل إلى كافكا من بارو حتى انقطعت تماما فيما بعد حين تفاقم مرضه بشدة فقطع عليها أي طريق للمصالحة، وكتب لها رسالة حزينة ومفعمة بالمشاعر الإنسانية الحارة، يخبرها فيها بأنه مريض مرضا خطيرا وسيدخل إحدى المصحات للعلاج وفي تلك الرسالة كتب كافكا لها جملته الشهيرة والتي قال فيها (تعرفين أن شخصين اثنين يتصارعان في داخلي. ومن مجرى الصراع طلعت طوال خمس سنوات بالكلمة وبالصمت وبمزيج منهما) فهل يمكن أن نحيل السبب في كل هذه المشاعر الإنسانية والانعطافات الحدَثية إلى سبب غريب يتعلق بـ (أسنان الآنسة فيليس باور المحشوة بالرصاص والتي كان كافكا يشعر بالنفور منها ) كما تكتب فرح جبر بشيء من الثقة الزائدة بالنفس التي تبلغ حد إطلاق الأحكام القاطعة والباتّة على العواهن؟
في هذا العرض المبتسر السريع الذي تقدمه الكاتبة لأول علاقة لكافكا نلاحظ العديد من الثغرات والأحكام غير الصحيحة والاستنتاجات السائبة أو القلقة وغير المبررة من حيث السياق والارتباطات مما لمحنا لها تلميحا أو ذكرناها بوضوح، وسيستمر الحال على ما هو عليه في تجارب كافكا العاطفية الأخرى، وسيكون الأمر مضيعة للوقت إن واصلنا قراءتنا في هذه النماذج، ولذلك سنغير قليلا من الاتجاه والمنهجية ونحاول أن نلقي بعض الأضواء على جانب آخر من هذا الموضوع وأكثر تحديدا وهو الجانب الجنسي.
أثار ماكس برود في كتاباته الخاصة بكافكا دوما شكوكا حول “فحولة” صاحبه وصديقه. كان يطيب له – كما يكتب كونديرا في ” الوصايا المغدورة” – أن يسهب في الحديث عما يخص معاناته من العنانة[3] “. لذلك أصبح كافكا منذ زمن طويل القديس الشفيع للعصابيين والمحبطين وفاقدي الشهوة والضعفاء. ص49 ) رغم وضوح النبرة التهكمية في ما كتبه كونديرا، ولكنه يكتفي هنا بالجانب الوصفي لعملية التوظيف التي يقوم بها برود بقصد إعادة الإنتاج المحرَّفة لكافكا ولكنه يحاول نقضها عبر التأكيد على الواقع التاريخي الحقيقي الذي كان سائدا آنذاك في المجتمعات الأوروبية ومنها المجتمع التشيكي حيث الحياة الجنسية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين لم تكن تختلف كثرا عن الحياة الجنسية في أوروبا الخمسينات والستينات من القرن العشرين إلا قليلا، أما الآن وأعني في بدايات القران والواحد العشرين فقد اختلف الأمر تماما وصار للواقع صورة ومضمون مختلفَان اختلافا بينا في الدرجة كما في النوع و أضحت العلاقات الجنسية بين الذكور والإناث أكثر تحررا وانفتاحا بل وغرابة وأخذت مؤسسة العائلة الموروثة حتى في شكلها الذي استقرت عليه بعد الحرب العالمية ” الأوروبية ” الثانية أي العائلة البسيطة وليس الممتدة، أخذت بالضمور والتلاشي فاسحةً المجال لشكل جديد من العلاقات الثنائية القصيرة والمتوسطة الأمد ودون ارتباط بزواج رسمي. كما ظهرت إلى الوجود الأمهات اللواتي لم يتجاوزن سن المراهقة، والأزواج من مثيلي ومثيلات الجنس، وغير ذلك من مظاهر وظواهر جديدة تماما. لكن لنتابع سياق موضوعنا، ولنعد إلى أوروبا في أيام كافكا التي كما قلنا لم تكن تختلف كثيرا عن أوروبا الخمسينات فماذا نجد؟ الفتيات الشابات لم يكنَّ يجامعن الشبان قبل الزواج، ولا يبقى للعازب في هذه الحالة إلا احتمالان: النساء المتزوجات من الأسر الراقية، أو من يسميهن ” النساء السهلات ” من الطبقات الدنيا كالبائعات والخامدات والمومسات …”. بمعنى معين، يمكن أن يعمم الحُكم الذي يصدره البعض على كافكا ويجعل منه متخصصا وصاحب خبرة في النساء السهلات والمومسات ولا يصلح إلا للمواخير، ليشمل غالبية مجايليه من شبان الطبقة الوسطى وما دونها لأسباب تاريخية واجتماعية غدت مفهومة الآن. غير أن فرح جبر، أو مَن تنقل عنه آراءه، تقترح طريقا آخر لفهم تجربة كافكا الجنسية ليس بعيدا عما كرره ماكس برود وخلفاؤه، فهي ترى أن ثمة تناقضا في أعماق كافكا بين ما تسميه “الحاجة الميؤوس منها إلى علاقة”، و “العجز عن إقامة علاقة “. هذا العجز الذي لا يُغْلَب، والذي يتفاقم أحيانا فيتحول إلى ما تدعوه (رغبة في وحدة بلا وعي كافكا)، أو (خوفاً من الاتصال، من الانسياب إلى الطرف الآخر. فلا أعود وحيدا قط”.) ثم تقرر السيدة جبر بكثير من الخفة والاستسهال استنتاجات التالية (من هذا التناقض ينشأ شعور الانفصام المتواصل، الفتيات اللواتي كنَّ يعجبن كافكا لم ينل وطره منهن. سيكتسب خبرته الجنسية مع الخادمات وبائعات الهوى. ففتاة الهوى التي أمضى معها ليلة، لا يذكر شيئا عن عريها ولا عن لمساتها أو قبلاتها.) لا يملك المرء هنا إلا ان يتساءل، دون الحاجة لأن كون متبحرا في علم النفس أو ضليعا في النقد الأدبي، كيف ينسجم القول بأن كافكا كان ضحية تناقض حاجته الميئوس منها إلى العلاقة بالأنثى والعجز عن إقامة علاقة معها، وهو الذي عاش العديد من التجارب العاطفية السوية والمشبوبة، والتي لم تنغصها سوى حالته الصحية التي تدهورت بشكل خطير وأدت في النهاية إلى موته المبكر؟ وسيرا على هدى الصوى التي أرساها ماكس برود لراهبه العصابي المختلق، تخبرنا جبر بأن كافكا (قد أيقن ان الجنس مخز أو انه مرادف للقرف والوساخة والرعب. ويزداد هذا الرعب في إحدى رسائله إلى فيليس. يقول (ان روح المخدع الزوجي في البيت والشراشف التي اتسخت وقمصان النوم المبسوطة بعناية تثير قرفا فيَّ يصل إلى حد الغثيان). رافقت انعكاسات بيوت الدعارة كافكا حيثما ذهب، وكتب في يومياته: (ان الرغبة الجنسية ترهقني وتعذّبني ليلا ونهارا. يجدر بي لإشباعها أن أتخطى خوفي وخجلي وحزني أيضا). لكن هذا لم يمنعه من اغتنام أول فرصة تلوح، إلا انه سرعان ما كان يشعر بأن الرغبة الجنسية التعيسة تدينه فيعتقد انه لا يصلح إلا للمواخير، وهذا ما آل إلى استنتاجه قبل وفاته بسنتين، إذ أن كل ما يستحقه هو هذه المرأة العجوز المجهولة الوسخة صاحبة الساقين المتهدلتين، التي تسحب مَنّيه بلحظة واحدة، وماله، ثم تستعجل الذهاب إلى الغرفة المجاورة حيث ينتظرها زبون آخر. يراهن كافكا على الفتيات العشيقات ويبتعد عنهن …) إن العودة إلى التذكير بما قاله ميلان كونديرا حول الحالة المجتمعية التاريخية في أوروبا نهايات التاسع عشر وبدايات العشرين، أصبحت ضرورية الآن لكي نفهم على نحو صحيح أن كل ما قيل عن غرائبية وكابوسية ومرضية الحالة الجنسية لدى كافكا هي حالة ليس فيها مما هو غرائبي أو كابوسي أو مرضي الشيء الكثير، فالتناقض قائم في قوام المجتمع الأوروبي والفرد الأوروبي آنذاك بين (الحاجة الجنسية الميئوس من إشباعها وبين العجز عن إشباعها) وهي ليست حالة مرضية خاصة بكافكا أو بسواه، أما الشعور بالقرف والاشمئزاز من الممارسة الجنسية عموما وبين نوع معين من هذه الممارسة وهو الذي يدفعه إلى المواخير لإشباع رغائبه الجنسية ففيه خلط كبير يشبه الخلط الذي تعبر عنه الكاتبة بين ( المخدع الزوجي والشراشف التي اتسخت وقمصان النوم المبسوطة بعناية – والتي تثير في كافكا – قرفا فيَّ يصل إلى حد الغثيان ) وبين المومس العجوز ( المجهولة الوسخة صاحبة الساقين المتهدلتين، التي تسحب مَنّيه بلحظة واحدة، وماله، ثم تستعجل الذهاب إلى الغرفة المجاورة حيث ينتظرها زبون آخر..) فهل يهرب المرء مما هو قذر إلى الأقذر؟ هذا إذا وافقنا على تفسير الكاتبة لما اقتبسته، ولا يمكننا أن نفعل ذلك طبعا دون قيد أو شرط. صحيح أن كافكا ذاته كتب هذين الاستشهادين، ولكنهما – وكأي استشهادين آخرين – حين ينتزعان من سياقاتهما الطبيعية يعطيان معان أخرى، معان ربما لم تدر بخلد كاتبهما. وهكذا فكل اقتباس منزوع من سياقه يمكن أن يكون سلاحا ذا حدين أو يمكن ان يكون سلاحا عديم القيمة وليس له حد مسنون أو غير مسنون! شيء قريب من هذا يمكن لنا تسجيله عند الخوض في مشاعر الخجل والتردد، بل والخزي والعار، الذي ينتاب الشاب كافكا حين يعيش تجاربه الجنسية، ويمكن تفسيره بسهوله ضمن النطاق الشخصي الذي يحتوي على ما أسلفنا عنه الكلام من طباع نفسية خاصة به، فهو خجول وحساس ومرهف مع شيء من القلق والتطلع والشغف وأخرى اجتماعية خاصة بعصره وعالمه، وقد توقفنا عند بعضها فيما سلف من صفحات. علينا ان نضع في الحسبان أيضا، أنه لا يمكن لنا أن نعثر على مبدع أوروبي أو غير أوروبي واحد تخلو حياته الخاصة وخاصة في جانبها الجنسي من بعض الفرادة والخصوصية اللتين يسمانه بميسمهما الخاص، ولكنهما لا يقذفان به بعيدا في عالم مغلق وشاذ وغير قابل للتفسير، إلا ما ندر. هذا عن كافكا، الكاتب الإنسان، الذي كان يعيش تجربته الحقيقية الحية فماذا عن أدبه الذي هو ذاته في صورة ومحتوى آخرين ولكن من مادة مفارقة وناتجة به وعنه؟
في أدبه المنجز نطالع في العديد من المناسبات نصوصا تدور ضمن الحيث الجنسي وتتناوله بصراحة وجِدة لم يهتم بها نقاد وأدباء كثيرون، غير أن كونديرا استطاع أن يسلط ضوءا على ما هو جديد في تناول كافكا الأدبي للموضوع الجنساني، وأطلق عليه اسم “الجانب الهزلي للجناسانية ” فلنتابع معه الاستعراض الشيق التالي ثم نناقش بعد ذلك ما يخرج به من استنتاجات:
في روايته “أمريكا” يُطرَد الشاب كارل من منزل العائلة بعد ارتكابه حادث جنسي بائس مع الخادمة (مع خادمة تحديدا وهذا أمر معبر بدلالاته)، ثم يُرسل إلى أمريكا بعد أن أصبح أبا لطفل…يروي كافكا الحادثة أو اللقاء الجنسي كالتالي: كانت الخادمة تهتف بفرح قبل المضاجعة: كارل أوه يا عزيزي كارل … أما هو فلم يدرك شيئا البتة، وكان يشعر بالإثم في كل هذه العدة الدافئة للسرير التي ظنت إنها جمعتها خصيصا له …ثم هزته وأصغت إلى قلبه، وأمالت صدرها إليه حتى يصغي إلى قلبها بالطريقة ذاتها… بعد ذلك فتشت بين ساقيه بطريقة مثيرة للاشمئزاز، حتى إن كارل أخرج رأسه وعنقه من بين الوسائد وهو يتخبط، وأخيرا ضغطت بطنها على بطنه عدة مرات، فراوده شعور إنها أصبحت جزء منه، وربما لهذا السبب اجتاحه ضيق كريه…) سنلاحظ طابع الجدة لدى كافكا في تناول الحيث الجنسي في هذا المشهد العابر من خلال حركة الشريكة ” الأنثى ” والتي توحي حركتها وكلامها بأنها هي التي قادت عملية المضاجعة من البداية إلى النهاية، ولكن برقة وتفهم وإبداع جعل شعور مارك بالإثم أقل سلبية مما هو في الواقع، فلم يقلل كثيرا من شاعرية الإصغاء إلى قلب الشريك، فلنتخيل المشهد: الأنثى تميل بجمسها إلى شريكها في السرير ليس بحثا عن متعة التلاصق والاحتكاك الجسدي بالدرجة الأولى، بل لكي تصغي إلى قلبه هو. ولكن لماذا الإصغاء إلى القلب ؟ وهي لا تكتفي بذلك بل تغير وضعيتها الجسدية وتميل مزيدا من الميل نحوه لكي يصغي بدوره إلى قلبها ويشاركها في هذا النوع الجديد والذي لم يخطر في بال مبدع من قبل، من المتعة العجيبة. وهل كانت تلك متعة عجيبة أم شيء آخر؟ ربما كان شيئا آخر، وهو ما سنعرفه بعد لحظة وذلك حين يراوده شعور بأنها (أصبحت جزء منه) إنه التوحد والحلول – بمعنى شبيه ومتاخم للمعنى الصوفي للكلمة – المتبادل إذن عبر الإثم الجسدي ومشمولات الجسد البشرية المادية وصولا إلى المتعة الحقيقية النبيلة والوحدة الخالقة.
يستنتج كونديرا أن هذا الجُماع المتواضع بين كارل والخادمة هو سبب كل ما يحدث في الرواية ويتوسع في استنتاجه فيقول (إنه لأمر محبط أن نعي ان قدرنا، ولسبب بديهي، منذور لشيء تافه تماما، بيد ان كل كشف لتفاهة غير متوقعة هو في الوقت ذاته مصدر للهزل. فبعد المضاجعة يحزن الكائن الحي، وكان كافكا أول من وصف الجانب الهزلي لهذا الحزن ) واضح طابع المبالغة وربما الافتعال في نظرة كونديرا إلى ما يسميه “الجانب الهزلي للجنسانية” عند كافكا فالمناسبات التي تطرق إليها هذا الأخير إلى الشأن الجنسي معدودة، ولا تكاد تشكل محورا مهما من محاور أدبه، ولكننا لا يمكن أيضا أن نقلل من شأنها أو نشطب عليها، فهي موجودة وجودا واضحا وأكيدا، وقد ينبع ما وصفناه بالطابع المبالغ لدى كونديرا من محاولته عكس اتجاه القراءات البرودية حتى بالانتباهات والاكتشافات ذات القيمة المتواضعة، وتسليط الضوء وبشكل أكثر من اللازم أحيانا على جزء أو نتوء معين في غابة كافكا السردية ليبرر أمرا أو استنتاجا دفاعيا ما، وقد نجد ما يبرر كلامنا هذا حين نقرأ بتمعن ما كتبه عن فيلم فيليني ” انترفيستا” والذي كان موضوعه الطرفة الجنسانية في رواية كافكا التي تحمل اسم “أمريكا ” وتحديدا حين تكلم كونديرا عما يسميه ” القبح الكبير” المرسوم بشكل جذاب وعلى نحو مثير للسخرية.أما الربط بين المصير القدري لمارك وعشيقته وبين الحدث الصغير ” المضاجعة العابرة ” من قبل كونديرا واعتباره هذا الربط مصدر تعاسة وإحباط فهو أمر غير مفهوم ولا يمكن الركون إلى معناه المختصر في التبسيط المقصود التالي ( قدرنا منذور لشيء تافه..الكشف عن هذه التفاهة هو مصدر الهزل الذي يغلف حزن الكائن الإنساني ) ليس الغموض الذي يلف هذه العبارات ليس هو ما يجعل استيعابها غير ممكن فحسب بل إن إمكانية تأويلها ومقاربتها من زوايا أخرى بهدف استخلاص معاني مجاورة منها ليست واردة . إنها – بالنسبة لي كقارئ على الأقل- ومضة لم تؤدي إلى شيء ذي مغزى من مصباح كونديرا الكاشف.
نختم كلامنا في هذا الفصل بإعادة اقتباس مشهد إيروتيكي “عشقي” يعتبر من أجمل المشاهد التي أبدعها كافكا، ويمكن لهذا المشهد أن يعطينا تصورا أوضح وأقرب إلى كافكا العاشق الممكن، وليس المستحيل، إنما من خلال إبداعه الأدبي.
يقع هذا المشهد في الفصل الثالث من روايته “القصر” ويصف لنا فيه كيف مارس “ك” الجنس مع فريدا، وما المشاعر التي راودته حينها. فلنقرأ تلخيصا لهذا المشهد كما ورد في ” الوصايا المغدورة/ص 52″ :
لم تكد تمضي ساعة على مشاهدة ” ك ” لتلك “الشقراء الصغيرة التافهة ” لأول مرة حتى عانقها من وراء طاولة الشراب ” في مستنقعات البيرة والقذارات الأخرى التي تغطي الأرض . القذارة، إنها لا تنفصل عن الجنسانية وعن ماهيتها الملموسة. لكن بعد ذلك مباشرة يظهر لنا كافكا في الفقرة ذاتها شاعرية الجنسانية حين يكتب (هناك مرت ساعات، ساعات من الأنفاس المشتركة ومن خفقات القلوب المشتركة، ساعات كان يمتلك ك خلالها دونما انقطاع شعورا بأنه يتوه. أو أنه في عالم غريب أكثر من أي كائن قبله، في عالم غريب لم يكن فيه حتى الهواء يملك أي عنصر من هواء موطنه، حيث لابد له من أن يختنق من الغربة، وحيث لا يستطيع أن يفعل شيئا وسط إغراءات حمقاء إلا أن يوغل بعيدا في ذهابه ويوغل بعيدا في التوهان.)
يتحول أمد المضاجعة إلى مجاز أو معبر يضج بالأسئلة للسير تحت سماء الغربة، ولكن هذا السير ليس قبيحا، بالعكس إنه يجذبنا ويدعونا أيضا إلى المضي بعيدا جدا ويسكرنا … إنه الجمال!
في الأسفل، ثمة بضعة أسطر مهمة لنقرأها بهدوء كما نقرأ الشعر والتمائم (كان سعيدا أكثر مما ينبغي لأنه يحتضن فريدا بين ذراعيه، وكان سعيدا أكثر مما ينبغي، وعلى نحو مقلق أيضا، لأنه يحسب أنه إذا نالت فريدا كل ما لديه فإنها ستتخلى عنه. وحتى لو نالت لحب؟ لكن لا، ليس الحب، فإذا أُبعد وسُلِبَ منه كل شيء، فإن امرأة صغيرة وقصيرة لم يكد يعرفها ويعانقها في مستنقعات البيرة حتى أصبحت عالمه كله، بل و دون أي تدخل للحب…)
[1] – وردت هذه الجملة بهذا التركيب اللغوي المضطرب في ترجمة كتاب” الوصايا المغدورة” ولتسهيل فهمها يمكن إعادة ترتيب كلماتها على الشكل التالي : مرَّت ساعات، ساعات من الأنفاس المشتركة، ومن خفقات القلوب المشتركة، ساعاتٌ تملك خلالها “ك” شعورٌ بأنه يتوه[1]، أو أنه في عالم غريب ….الخ .
[2] – مدخل إلى عالم كافكا الروائي /عبد الوهاب أبو زيد
[3] – الواضح من السياق، أن المقصود هو العُنَّة وليس “العنانة” كما ورد في ترجمة معن عاقل للكتاب المصدر. ومعنى “يعن” في لسان العرب يَعْرِض، وهما لغتان: يَعِنُّ بكسر العين، ويَعُنُّ بضمها. والتَّعْنِين: الحبْس. وفلان عَنَّانٌ عن الخير وخَنَّاسٌ وكَزَّامٌ أَي بطيء عنه. والعِنِّينُ: الذي لا يأْتي النساء ولا يريدهن بَيِّنُ العَنَانة والعِنِّينة والعِنِّينيَّة (هنا، العنانة والعنينة والعنينية أتت صفات كقولنا: بالغُ الشجاعة، بّيِّنُ الشهامة وليست مصدر كما سيرد لاحقا: والاسم منه العُنّة ) . وعُنِّنَ عن امرأَته إذا حكم القاضي عليه بذلك أَو مُنعَ عنها بالسحر، والاسم منه العُنَّة، وامرأَة عِنِّينة كذلك، لا تريد الرجال ولا تشتهيهم.