الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين
يـُشـير التقرير السنوي الأخير لـ “منظمـة العـفـو الـدوليـة” Amnesty International الى التـعـذيب الوحشـي في السجون الـعـربيـة، وهـي حالات تؤكد أكبر منظمة دولية لحقوق الانسـان “تكرار وقوعهـا” على امتداد هذا السجن العـربي الكبير الذي يمتد من طنجة إلى أم القيوين…
ثمـة إشارة إلى “عشرات الحالات” في العديد من الدول العربية ، وخاصة المغرب والأردن وسوريا ، تعرض فيها المعتقلون إلى أشكال من التعذيب الجسدي والنفسي لم تخطر ببال الماركيز دو سـاد ، أدت إلى أن معظم المعتقلين فقدوا عـقـولهم إلى درجة أنهم لم يعودوا قادرين على استيعاب أو قراءة أو فهم كل ما يكتب الآن دفاعا عـنهم.
وليس فينا من لم يسمع عن التعذيب بشتى الطرق، لكن معظم وسائل الجلادين تستهدف في العادة بدن الإنسان: اليدين، الصدر، الذراعين ، القدمين ، وحتى الأعضـاء التناسلية…. أما الوقائع التي تعذب العقل فإنها أقل شيوعا، لأنها تستلزم أحيانا قليلا من الخيال، والحرفية، التي لا وقت لها.
وتعذيب العقل عمل شيطاني قديم، تعرض لأحد فنونه الأديب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي في سيبيريا خلال اعتقاله، حين كانوا يجبرونه على تقطيع كميات ضخمة من الشجر طيلة النهار ليلقي بها عند الغروب في مياه النهر. التعذيب هنا لا يتعلق بالجهد البدني الشاق المبذول… التعذيب هنا يتجه إلى العقل مباشرة، إلى تدمير الدعامة التي يقوم عليها وهي المنطق القائل بأن لكل عمل غاية، وأن لحياتنا هدفا، وأن لوجودنا وكدنا معـنى.
العقل يقول إنك إذا قطعت أشجاراً طيلة النهار فذلك لأنك ستبني منها كوخاً أو بيتاً، أما أن تعرق على قطع الأشجار لتلقي بأخشابها إلى النهر فهذا يعني أن العالم لا يحتاج إلى العـقـل… دمِّره إذن، وإرمه بعيدا، لأن الوجود بلا منطق. وحينما يكون جهدك كله عبثاً، يغـدو وجود العقل والمنطق مدعاة للسخرية، والاستهزاء، وتدوي في أذنيك أقوى فأقوى رسالة الجلادين : إمسح عقلك… لأنك لست بحاجة إليه، لأنه لن ينفعك لا في تفسير العالم ولا في التحكم به.
وقد اكتشف العلم الحديث أن القلب الذي نتغنى به في الشعر والروايات ليس أكثر من مضخة للدماء، وأن العـقـل هو حصن التفكير والمشاعـر والطموح. وحينما تعـذب العـقـل أو تدمره، فإنك تعـذب وتحطم التكوين الإنساني المميز والبلورة الخاصة المشعة بكل أعماق وأبعاد الشخصية.
قبل أكثر من ثلاثين عـامـا أقرت الحكومة السويدية قراراً صادق عليه البرلمان السويدي ، بعـد أبحاث علمية مستفيضة أكدت أن الموت هو “موت العقـل”، إذ يمكن استبدال الساق أو الكلى بأخرى، ووضع شريحة زجاجية في العين المـعـتـمة لترى من جديد، وتغيير صمامات القلب أو القلب بأكمله، وزرع كبد، ورئة، لكن كل تلك المعجزات لا ترقى إلى المساس بالعـقـل الذي يجري أربع بلايين عملية حسابية في أقل من ثانية… والذي ما زلنا لا نستخدم سوى جزء ضئيل من قدراته.
وفي هذا السياق أتذكر كتابا قـيـِّمـا قـرأتـه قـبل سـنـوات عنوانه ” ما هو الموت؟ ” يتناول فيه المؤلف تجـارب عـلـمـيـة أجراها علماء ألـمـان على كلب لمعرفة “ما هو الموت”… قـام الـعـلـمـاء الألـمـان بـفـصـل كل أعضاء الكلب عن جسمه ، واحتفظوا خلال ذلك برأسه فقط حيا منزوعا من البدن… ثم قاموا ـ عـبر الأنابيب ـ بضخ المحاليل والدماء إلى الرأس المنزوع، فـفـتـح الكلب عـيـنـيـه، وتعـرَّف إلى صوت صاحبه وأخذ يلعـق يديه. العـقـل ، إذن ، هو الذي يصون الحياة والوعي والذكريات والإرادة بل وقلق الحب وهواجسه الرقيقة.
قـبـل إنـدلاع الثـورة الـتـونسـية التي أطـاحـت بالطـاغـيـة زين العـابـدين بن عـلي ، قـامـت المـخـابرات التونسـيـة بـتعـذيب الكاتب والأكاديمي التونسي الدكتور وليد العـوني تعذيبا وحشيا أدى إلى فقدان عقله أو ـ حسب تعبير الناطق الرسمي لحكومة الدكتاتور الـمـخـلـوع ـ “فقدان مداركه..!”… لقد تم تدمير عـقـل الدكتور وليد العوني في ظروف تشبه الظروف التي يتم فيها تدمير عـقـل الكثيرين على امتداد “الـوطـن” العـربي وبقدر سجونه. يختلف الاسم، والـعـمر، وسمك أبواب الزنازين، واللهجات، ولكن ثمة دائما إنسانا يفقد عقله وحده خلف أبواب موصدة.
لكن تعـذيب العـقـل ونفي دوره لا يجري في السجون وحدها، بل إنه يجري على نطاق المجتمع بأكمله أكثر بملايين المرات مما يتم وراء قضبان. وحينما تصبح الفوارق بين الدخول ضخمة إلى هذا الحد الذي نراه، يعجز العـقـل عـن تفسير ذلك…
وحينما يصبح من يحتكرون الحديد والأسمنت ولقـمة الخبز سادة المجتمع من دون عـرق أو سبب، بينما لا يساوى كدح الشرفاء شيئا…وحينما يبنى بعض الزعماء والمسؤولين العرب قصورا خيالية بملايين الدولارات في شرم الشيخ ، ورام الله ، والعـقـبـة ، وآسـفي ، في الوقت الذي ما يزال فيه مئات الآلاف ينامون على الأرصفة ، ولا يجدون حتى لـقـمـة الخبز لأطفالهم… وحينما يبرز كل شخص عديم الكفاءة ليتحكم في شؤون الثقافة…وحينما يصمت الأدباء والعـلمـاء والمفكرون ويتكلم أشباه الكتاب…وأرباع المثـقـفـيـن…وحينما يـُحـَل بالرشوة والعلاقات الخاصة (شـيـِّلني… أشـيـِّلك”) كل ما لا يـُحـَل بالطرق الشريفة…وحينما تحصل راقصة بـ “هزة وسط واحدة” على أجـر يـزيـد عشـرة أضعاف ما يكسبه عالم أو باحث عربي على مدى حياته كلها… وحينما… وحينما…وحينما…
فإن ذلك الواقع يصبح نوعا من التعذيب المستمر للعقـل الذي لا يستطيع لا فهم ولا تفسير كل تلك المفارقات والفوارق… وهو تعذيب ينقـل للإنسان رسالة واحدة : “يـا خـفـيّ الألـطـاف، نـَجـِّـنـا مـِمـَّا نـَخـاف..!!”