قطار ليل البساتين.. ونساء جني التمور
عندما اغتيل النخيل في جنوب العراق على اثر الحروب العبثية للبعث وأزلامه هاجرت مهنة مهمة كان الناس يعتاش عليها في البصرة وميسان والناصرية هي مهنة جني التمور والتي تشغل العشرات بل الالاف من المواطنين بين رجال ونساء وتعطي تلك المهنة زخما اقتصاديا محترما لعوائل كانت النخلة بالنسبة لهم كالبقرة الحلوب وكانت البصرة وميسان والناصرية في زمن النخلة الشامخة العواصم الاقتصادية بفضل نعمة النفط في بطن اراضيها وبفضل تلك النخلة التي وجدت الظروف المناسبة في تلك المدن العريقة ,, فالتمور العراقية ليس لها مثيلا في مدن العالم التي تزرع النخلة من
حيث الجودة الغذائية وعدد الاصناف …
كان لموسم جني التمور في تلك المدن رائحة طيبة كرائحة الاعياد والمناسبات عند البصريين فالجميع يعمل من الشباب والشيوخ والأطفال والنساء وأصحاب القوارب وأصحاب السيارات الصغيرة والمحال التجارية والصناعية لزمن ليس ببعيد ومنظور عند ذاكرة اهل البصرة والكلام هذا لا يتوقف عند مدينة البصرة بل تشترك فيه مدينة الناصرية وميسان وكذالك المدن التي تتميز بظروف مناخية تلائم تلك النخلة التي اصبحت رمز للعراق …
بعد فناء تلك الواهبة للخير في تلك المدن صار الناس يعتبرون المواسم الفقيرة التي ابتعدت عنها النخلة مواسم قحط وفقر وتوقفت تقريبا الحياة في الكثير من البيوت التي كانت تشغلها النخلة وتدر عليهم ارباح محترمة ,, لكن في امكنة اخرى ومدن ضلت تلك المهنة رائجة وعاملة ولها مواسم مثل مواسم الحصاد ولها اغانيها مثل اغاني افراح الزواج وقدوم الامطار ضلت النخلة في بعض تلك المدن شامخة على الرغم من محاولات مشبوهة للنظام البعثي للقضاء عليها لكن مواسم (الكصاص) كان لها طعم جميل في مدن مثل الحلة وكربلاء والنجف وبعض الاقضية والنواحي لتلك المهنة الجميلة
…
قي يوم صباحي تشريني جميل والحصار الجائر كان يأكل بالشحم قبل اللحم العراقي سمعنا صوت القطار الذي يمر عبر مدينتنا لكن هذه المرة سمعنا صوته وكانه (هلهولة عراقية) هرعنا الى السكة القريبة لنرى على متنه وبعرباته المكشوفة المخصصة لنقل البضائع وليس لنقل المسافرين المئات من النساء المتلفعات بالسواد وباعمار مختلفة بينهن الكبيرة بالسن والمتوسطة والشابة والصغيرة وحتى بعض الاطفال وهن يغنين اغنية السفر الحزينة وبما اننا لم نألف مثل هذا المنظر سابقا هرولنا خلف القطار وتبعناه الى المحطة القريبة لنرى ان هؤلاء النسوة بعضهن قد نزلن من على
متنه وبعضهن لم يبارح مكانه وتحرك القطار ليخلف وراءه العشرات من النساء وهن يحملن على اكتافهم (كارات واحمال خفيفة واضح عليها انها زوادات غذائية وبعض الافرشة لتتحرك قافلة تلك النسوة وتتجه نحو غابات النخيل القريبة والتي بعض منها قد اكتمل جنيها والبغض الاخر لم يكتمل جني التمور ومازال العمل بها مستمر لنعرف في اليوم التالي من الناس الذي تناقلت حديث قدومهن ان تلك النسوة هن عاملات يجمعن التمور في البساتين (طواشات) وقد اتخذن من البساتين وعلى ضفاف شط الحلة مكان ليخيمن فيه ويبدأن في اليوم التالي رحلة العمل ,,سارع الملاك اصحاب البساتين
الكبيرة الى تشغيلهن في الجني ولم المحصول وكن تلك النسوة يعملن بجد ليس له نظير وبعد انتهاء يوم العمل كن يطلبن بالإضافة الى اجورهن بعض التمور وهكذا يوميا وفي مخيمات لا تختلف كثيرا عن المخيمات العسكرية او الكشافة في تلك المخيمات نساء يبقين صباحا ليهيئن المستلزمات لقدوم زميلاتهن من العمل وبعضهن يذهبن الى السوق للتسوق تبقى تلك النسوة على هذا الحال اكثر من خمسة عشر يوما حتى اذا انتهى (الكصاص ) يبدأن مرحلة اخرى من العمل هو مرحلة جمع التمور من البساتين التي انتهى فيها العمل وغادرها اهلها وكن يدخلن الى تلك البساتين فيجمعن التمور التي
لم تصلها ايدي اهلها اما بسبب التعب ا وان الارض تحت تلك النخيلات غير نظيفة بسبب الشوك او النباتات فتبقى التمور مختبئة لتنالها ايدي تلك النسوة وهكذا تجمع تلك النسوة المئاة من الكيلوات من التمور واجور عملهن ليعدن الى الى مدنهن وعلى نفس القطارات النازلة وهن غانمات ومحملات بالهدايا لذويهن من المال والتمور ..
استمر هذا الحال وعرف اهالي المدن الوسطى تاريخ مجيء تلك النسوة فكانوا ينتظروهن وهن ايضا يعرفن البساتين التي تدر عليهن ارباحا ويستفدن منها كثيرا وتعود تلك المخيمات والى نفس امكنتها السابقة وبوجود الامان وتعاطف الاهالي معهن تستمر الحياة في تلك البساتين .. بعد سقوط النظام الصدامي وعزوف القطار من الصعود ثانية الى تلك المدن ورحيل الامان توقفت تلك الاعراس في مدن النخيل فلم تاتي تلك النسوة ثانية الى البساتين وضن الناس والملاك ان الحياة الجديدة ستمنع تلك النسوة من القدوم اما بسبب ارتفاع الحالة المعاشية في العراق او بسبب وجود فرص عمل
لهن في مدنهن ,,,,
ومرت اكثر من خمس من السنين ولم نشاهد ذالك المنظر الجميل ثانية والقطارات تنقل النساء الى مدننا ربما لأننا لم نشاهد القطار ايضا وهو يعود ليسير على قضبانه ثانية …
قبل ايام بدأ موسم الكصاص لنخيل العراق في المدن الوسطى والجنوبية ونسي الناس عودة تلك النسوة وذهب الملاك الى المساطر القريبة المنتشرة في المدنرليهيأ ويجلب النساء اللواتي يعملن على جمع التمور من مدننا وخاصة من العائل الفقيرة والمعدمة والتي جار عليها زمن العراق المر ,,فاجئنا القطار ثانية وهو ينبه بصوته الطويل العريض الكبير المسموع ان نساء المخيمات نساء الجني الكبير قد عن الى مخيماتهن وفعلا عادت كل تلك الذكريات الى تلك البساتين وعادت النساء الى عملهن المتعب ونصبت مخيمات اكثر من سابقتها وتركت تلك النساء بيوتهن من اجل لقمة العيش
لتقضي فترة طويلة عن عيالها وزوجها وذويها وهي تبحث عن تميرات تائهات في بساتين الغرباء ,,,
لم نصدق اعيننا ونحن نرى القطار الصاعد يعود ثانية وهو يحمل على ظهره الطويل نساء من مدن كانت تعتبر في الخرائط العالمية انها اغنى مدن العالم من البصرة والناصرية وميسان ونساء تلك لمدن يبحثن بين الاشواك عن تمرة هنا اوتمرتان هناك وهن في حال الضياع على امل العودة ثانية الى اهلن ليعتشن على بعض الدنانير او بعض من التمور لموسم شتائي لا زراعة فيه ولا مطر وهرب منه الماء والطير والسمك وسبخت الارض وملحت .
حمزه—الجناحي