قصة قصيرة
في المتنزه
افتقدتهم.. نعم افتقدتهم وافتقدت حلاوة كلامهم ودفء مشاعرهم التي احسّها وكأني في حالة عشق وهيام كلما اسمع همساتهم التي يتبادلونها بصوتهم الهادئ، أحببت تنسيقهم المشترك لألوان ملابسهم التي يأتون بها، وعبق عطرهم، وهداياهم البسيطة التي يتهادونها لبعضهم، عرفت من حبهم الحب العذري وكيف يكون .. عرفت الطُهر فيهم، كنت على موعدهم الأسبوعي في الرابعة عصراً كل يوم ثلاثاء، وأبقى قلقاً حتى يأتيان، شهدتُ لحظات خصامهم وزعلهم ورِضاهم، كان لحبهِ من العِفّة ما يمنعه ان يمسك يدها او يمدَّ اصابعه على خصلات شعرها المنسدل على كتفيها .
أمّا أنا .. فقد كانت لي رغبة اردت ايصالها لهم لكني لم أوفق، رغبتي أن لا يأتي يوماً ويفارقون مكانهم الذي ألفهم والِفاه حتى لو تكلل حبّهُما بالزواج (وهذا ما كنت ارجوه)، ولي رغبة أكبر هي ان يأتيا بأطفالهم الذين سيرزقون بهم ويروهم مكان حبّهم الذي كان تُزهِر وتورِق خشبته بعد كل لقاء، كنت سعيد جداً لسعادتهم .
لكن ! وما اقسى الكلمة التي تأتي بعد لكن، إنها تطيح بكل الآمال وتحيل النور ظلاما، لقد افتقدتهم مثلما قلت، لست أنا فقط بل حتى الطيور والبلابل والأزهار المحيطة بي افتقدتهم، طال انتظاري لهم، لم أعرف ماذا حدث إلّا بعد أن أتت هي ذات يوم ووقفت بقربي متشحة بالسواد، لقد رأيتها شاخت وهرمت ودموعها تترقرق في عينيها، وقبل أن تغادر وضعت وردة سوداء لم أر مثلها سابقاً على مكان حبهم الذي هرم هو الآخر ولم يشعر بالسعادة منذ ان غادروه الأحبة.
في ذات الشهور كنت ارى الرجل الذي يعمل في هذا المكان لغاية الثانية بعد الظهر من كل يوم، إنه يحمل على كاهله سنوات عمره التي تجاوزت السبعين عاماً، يقتلع الحشائش والادغال التي تنبت هنا وهناك، واحياناً يزرع نبتات يأتي بهن في كيس نايلون، احسست يوماً بعد يوم ان مشيته قد تباطأت وان جسمه اصابه الوهن، لكن هذا لم يمنعه من الحضور لمتابعة المتنزه الذي يعمل به منذ عشرين عاماً وربما أكثر.
فأحيانا وفي اوقات الشدّة التي تمر عليه من ضنك الدنيا كان يجلس في نفس مكان المحبين ويتحدث معي ويُسمعني كلامه وكأنني من معارفه، كنت استمع اليه واشعر بحزن شديد، لكن هذا اليوم كان كلامه معي يحمل حزناً آخر احسسته في كل حرفٍ يقوله وكل دمعةٍ يذرفها وهو يستذكر ولده الذي كان يأتي هنا ويجلس مع حبيبته على مقعدي الخشبي قبل ان يرحل بحادثة سير.
إنتهت.