قصة قصيرة:
على الحُرُكْرُكْ
ميسون أسدي
أحيانًا، يتعثر قلبي بهوى الكسل، وأستمتع به، فأشعر بالانشراح وتشع عيناي بنور الحبور وأقرّر لنفسي بأنه ليس هناك ما يستحق العمل عليه في الحال، ويمكن فعله في أي وقت لاحق… فكلنا ذو مطامح ومطامع وميول ويمكننا تأجيلها إلى حين.
هاتفني فادي، وهو أحد الزملاء القدامى، عدّة مرّات خلال اليومين الأخيرين، ليشتري منّي نسختين من روايتي الجديدة ويلتقي بي سريعًا “على الحُرُكْرُكْ” كما قال. أحببت فادي لأنّه شاب خشن قويّ جاد وعابس، يوحي بريق عينيه ببياض قلبه، كان يضحك في وجه كل إنسان ويعفو ويصفح مهما كانت الإساءة بالغة ويتكلم بلسان لطيف.
تهرّبت من لقائه لانشغالي من قمة رأسي حتّى أخمص قدميّ في أموري الشخصيّة جدًّا وخاصة صدور روايتي الجديدة. إلا انّه أعاد الكرّة مرّة ثانية وألحّ عليّ لشراء الرواية. فخجلت منه واعتذرت من عدم الردّ والتهرّب منه.
أخبرني كم هو متلهّف لقراءة الرواية وأنه معني بشراء نسختين وليس نسخة واحدة. ضربتني الحيرة أخماسًا بأسداس، واتفقنا أن اتصل به حين تسنح لي الفرصة بذلك.
الناقد والمنقود
وعلى حين فجأة، كان لي لقاء مع أحد النقاد الأدبيين المعروفين في أحد المقاهي لذات الغاية، وكان الناقد المترف الأنيق ذلق اللسان ماهر في الحديث والأداء، يسرح خلال حديثه معي لهنيهة كالمفكر، وحدث ولا حرج عن حسن طلعته وأناقة مظهره. انتابتني النرجسية كباقي الأدباء، فالنرجسيّة تلازمنا وتتمظهر في أحاديثنا عن أنفسنا، وعن تفرّدنا وتميّزنا وخصوصيّتنا في أعمالنا وتجربتنا، وسخيت أمام الناقد بالحديث عن وليدتي ولمعت العبرات في مقلتي وكأنّها توشك أن تسيل من عيني.
بعد مغادرة الناقد للمقهى وأنا منتشية بما أدلاه بحق روايتي حديثة الولادة، من مدح وإطراء لشمائلها ومضمونها، فوددت مواصلة جلستي في مقهاي المفضل الذي لا يقصده إلا القليل من الرواد المحليين. اتصلت بفادي لأزيد من غروري ولأثبت لذاتي بأنّ هناك من يطلب شراء روايتي، فرحّب فادي بالفكرة وقال بأنه سيوافيني بعد ساعتين، بعد أن يزور طبيبه، فأخبرته بأنّ في جعبتي بعض الوقت القصير وإذا كان بإمكانه أن نلتقي الآن على الحُرُكْرُكْ كما طلب سابقًا.
استفتاح
في الحقيقة، كنت قد سمعت مصطلح “على الحُرُكْرُكْ” من قبل ولكني لم أركّز في معناه الحرفي، الأمر الذي دفعني للبحث عن معناه بعد أن طنّت وطنطنت في أذني، فتوصّلت إلى أن معناه هو “في الوقت” أو “في الحال” وتبين لي أنها تستخدم للدلالة على إدراك الأشياء في آخر فرصتها أو بالكاد يكون كل شيء على السريع.
لم يكذّب فادي خبرًا، وما هي إلا لحظات وإذ به يصل المقهى، وبعد التحية مباشرة، أخرج من جيبه ثمن الكتابين. وهذا بالنسبة لي كان استفتاحًا رائعًا، فهو أول من يشتري روايتي وربّما آخرهم لشحة القراء ولبخل البشر، والأهم عدم تقدير الكاتب وانتاجه.
جاء النادل صوب طاولتنا الصغيرة يسأل ضيفي ماذا يحب أن يطلب، تردد فادي ومسح العرق عن جبينه وارتجت السيجارة بين أصابعه وأجاب بصوت خفيض لطيف أمل أن يصل إلى نيل المراد: أريد كوبا من عصير البرتقال، وتوقف فادي برهة وكأنه يريد أن يطلب شيئًا آخر وبقي النادل في مكانه متسمرًّا إلى أن سأله فادي ثانية: كم ثمن كوب العصير؟ لأنّه يريد أن يعرف إذا كان يحمل ثمنه. فتدخّلت على الفور، وقلت له: هذه المرة سأعزمك على حسابي فتنفس فادي الصعداء وشعر النادل بالحرج من موقف الرجل أمامي مع أنّه تصرف بصدق وعلى سجيته.
تناولنا أطراف الحديث وكان الأمر ممتعًا معه، فقمت بتصويره عدّة صور وهو يحمل كتابي بين يديه، لكنه كان ينظر بين الفينة والأخرى إلى ساعته حتّى لا يتأخر على موعده مع الطبيب وفهمت منه بأنّه في طريقه إلى طبيبه النفسي حتّى يساعده في الحصول على الكنابيس- القنب، فكل خمسة أشهر عليه تجديد الرخصة الطبية ليحصل على القنب، لم يفاجئني فادي بما قال لأنّني كنت أعلم بأنه يعاني من اضطرابات نفسية وعلمت بأنّه كان نزيلا لعدّة مرّات في مستشفى الصحة النفسية، ولكن من منا لا يعاني من اضطرابات نفسية من مسرّات وأهوال أحوالنا. سألته لأنني ملمة بهذا المجال: ما هو التشخيص الدقيق لمرضك؟ فقال لي: شيزوفرانيا فعّالة، عندي هلوسات وتخيلات، يتهيأ لي بأنني أعيش داخل كومبيوتر.
فادي خشن، ينفر من الناس وكان له قلة من الأصدقاء وأنا احداهم وأعلم علم اليقين ان حظائر الأغنام ادعى لهنائه وراحته من ردهات الاستقبال.
ودّعني فادي وهو يقدّم رجلًا ويؤخّر أخرى، وحين وصل خارج عتبة المقهى، فإذا به يعود ثانية ويفتش في جيبه وترك أمامي ثمن كوبه بحجة أن ما طلبه غالٍ وهو ليس بحاجة إلى هذا المبلغ المتبقي معه. أتتني الصفنة واستغربت من هذا التصرف.
مرارها وحلاوتها
يصغرني فادي بعشرة أعوام ونيف، ولم أجد فرقًا بيني وبينه وبين الناقد الذي كان بصحبتي، تأمّلت أحوالنا فوجدت بالفعل أن حياتنا كلها تقريبًا على الحُرُكْرُكْ، نركض ونلهث كالكلاب من كثرة الجري، برامجنا كلها على الحُرُكْرُكْ ولسنا بسعداء، أخلاقنا في تعاملنا مع بعضنا البعض في كافة المجالات على الحركرك. تنتابنا موجات العصبية والنرفزة لأتفه الأسباب. نسافر جميع بقاع المعمورة وأحلامنا على الحُرُكْرُكْ، نشارك في الأفراح ونحزن في الأتراح ونفرح لنجاح أبنائنا فألفنا هذا المنهج وأصبح الحُرُكْرُكْ هو السلوك الطبيعي في تعاملنا مع كافة الأمور.
تركني فادي ومضى في سبيله، جلست وحدي، ارتشفت فنجان قهوتي بمرارها وحلاوتها في دعّة وسكون.
ماذا أقول سوى ابداء الندم واستجداء المغفرة؟ ترك لي فادي اضطرابًا بالغًا في التفكير وأصابتني الهلوسة فثلاثتنا نحيا في الهلوسة والأوهام ونبحر ضمن ضلالات الحياة ونحيا على الحُرُكْرُكْ رغم أنّنا لا نحمل الهمّ الا فنية ولا نحزن الا هنيهة ونضحك إذا ألمّت بنا المصائب.
المهمة
سرحت بما جرى بيني وبين زميلي، تذكرت أن لدي مهمة يجب أن أنجزها تخص أهل بيتي، وقد سوّفتها عدّة مرّات، فما كان منّي إلا أن نهضت مسرعة وأعجبت بيني وبين نفسي من هذا الاشراق الذي لا يخبو داخلي، وخلال دقائق معدودة، أنجزت المهمة التي كانت تنتظر منذ أيام، أنجزتها على الحُرُكْرُكْ.